كرباج (سميرة سعيد) لمن يريد أن يتعلم أصول الغناء !
كتب : أحمد السماحي
أنا واحد من عشاق الديفا سميرة سعيد، ومتيم باختياراتها المتطورة الجديدة التى تؤكد أنها شباب أكثر من معظم المطربين الشباب الموجودين حاليا، واختيارات نجمتنا الكبيرة ليست عشوائية ولا ضربة حظ، ولكنها ثقافة وخبرة، لأنها مؤمنة بأن الفنان لا يكفي أن يكون فنانا أمس، ولا منذ خمس دقائق، ولكن يجب أن يكون فنانا الآن، وفي كل لحظة.
والديفا وعلى مدى سنوات قدمت كل أشكال وألوان الغناء، ومن حقها أن تجرب، والحقيقة أن تجاربها في السنوات الأخيرة أعطتها طابعا مميزا جدا، يمكن أن تخطأ أحيانا، ولكن في المجمل تكون اختياراتها جيدة، بدليل أن الجمهور في حفلها الأخير في دار الأوبرا المصرية – وكنت حاضرا – كان في حيرة من أمره ما بين قديمها وجديدها، وكنت أسمع من يجلسون خلفي يصيحون إعجابا عندما تغني قديمها، ونفس هذا الجمهور يطير فرحا وتدب فيه الحيوية والنشاط بجديدها، ولما لا وصوتها يهطل منه الحنان والأنس والمحبة.
فـ (سميرة سعيد) قمة في فنها، ومستمرة في قمتها، واستمرارها هذا نجاح في حد ذاته، فمع صدام الأجيال المستمر الذي تشهده الإنسانية، لا يوجد جيل يتقبل أحكام وأذواق الجيل السابق عليه بغير مراجعة أحيانا، وبالرفض غالبا، لكن هذا لم يحدث مع (سميرة سعيد) فهي استثناء خاص.
وهذا الاستثناء لم يكن مجاملة لـ (سميرة) فالفن لا يقبل المجاملات، وإنما هو نتيجة لصفات استثنائية تميزت بها الديفا، أهمها تجددها الدائم، والتجدد ليس فقط في الغناء، ولكن في أشياء بسيطة منها (اللوك) الخاص بها، فهي مع كل أغنية جديدة لها طلتها المختلفة بـ (الفوتوسيشن) الخاص بالأغنية والمناسب لها.
كرباج
مؤخرا طرحت أغنية (كرباج) كلمات وألحان المتميز وموضة هذه الفترة (عزيز الشافعي)، وتوزيع العبقري طارق مدكور الذي يعود للتعاون مع الديفا بعد غياب حوالي 20 عاما بعد أغنيتهما الشهيرة (يوم ورا يوم) التى كانت نقلة في مشوارهما، لكن هل أغنية (كرباج) نقلة لا أظن!، فرغم جرأة كلماتها، والنقلات المختلفة في اللحن، والتوزيع العلمي والفني المبدع لـ (طارق مدكور)، لكن الأغنية يوجد فيها شيئ ما لم يجعلها تصل للجمهور بشكل كبير، يجوز تركيبة وجرأة الكلمات التى تحتاج وقت لفهمها والتعود عليها.
فالأغنية من الأغنيات التى تأخذ وقت للتسلل إلى قلب الجمهور، فهي تتحدث عن نظرة عين حبيب أو جار أو صديق – الله أعلم – كانت بمثابة كرباج (لسعت) الحبيبة في قلبها بسهم الهوى فجعلتها طريحة الغرام، وعدلت المزاج، والضحكة ملأت الوجه، و(المودة بقيت محبة)، وهذا الحب لم يعد يصلح أن يتوراى أويستخبى عن العيون، خاصة أن الحبيبة سعيدة بحبيبها نادر الوجود فتقول له :
وفين ألاقي زيك انت تاني، مستحيل ده مستحيل
قتيل.. قلبي قتيل، الحب دا مالوش بديل ولامثيل
ويبدو أن هذه الحبيبة ست مجربة وخبرت الحب من قبل، وتعبت في حبها القديم، لهذا فهي تقول لحبيبها الجديد:
شتان، الدنيا بعدك حاجة تانية الفرق بان
ندغة لبان سكرها يحلى كل مادا
الغرام على قلبي نادى
اللي فات حمادة واللي جاي حمادة
ولأن هذا الحبيب كامل الأوصاف (جميل، جميل، جماله مستحيل) لهذا غير لها حالها، وقلب نهارها ليل، ولما لا وهو منعش زي الجنزبيل، ودمه خفيف، وممتاز وخد قلبها مرة واحدة، لأنه (واد) شاطر، لهذا ما صدق حالة الحرمان العاطفي التى تعيش فيها والتلهف على حبيب ودخل هو في الوقت المناسب وفاز بالحبيبة وبدأ الشوق يعمله عميله ويكبر كل ساعة، لهذا دابت الحبيبة وبدأ الناس يتكلموا ويقولوا دي إشاعة، لكن الحبيبة تؤكد إنها فعلا دابت وليست إشاعة.
جرأة الكلمة
عجبتني جرأة (عزيز الشافعي) في تناول فكرة قديمة قتلت بحثا، وتقديمها بشكل ومفردات جديدة تماما، وكان جرئ جدا في استخدام مفردات لم تطرق من قبل في موضوع عاطفي مثل (ندغة لبان سكرها يحلى كل مادا) وأيضا (جميل نعنشة جنزبيل فرفشة)، لكني توقفت عند كلمة (كرباج) حيث لم يوظفها توظيفا جيدا، وكأنه كتبها فقط لجذب انتباه وفضول الجمهور، وأنا واحد من هؤلاء، فعندما علمت أن (الديفا) ستغني أغنية بعنوان (كرباج) أثارت فضولي، وانتظرت طرحها بلهفة.
وقلت لنفسي ليس معقولا أن تغني الديفا : (الجوز الخيل والعربية، أنغامهم كلها حنية، سوق يااسطى لحد الصبحية) وعندما طرحت الأغنية لم أجد استخدام جيد لكلمة (كرباج) التى استخدمها عمنا (صلاح جاهين) بشكل مذهل عندما قال: (كرباج سعاده وقلبي منه انجلد، رمح كأنه حصان و لف البلد..).
كما توقفت كثيرا وإندهشت من استخدامه للجملة الشعبية التى تتردد على ألسنة العامه والدهماء وهي (اللي فات حماده، واللي جاي حماده) في أغنية عاطفية ولمن للديفا التى عندما غنت شعبي قالت (إيش جاب لجاب) حتى الآن مازالت هذه الجملة (وقفة في زورقي) لكن نبلعها عشان خاطر (الديفا)!.
اللحن
أما اللحن فكان من أصعب الألحان التى وضعها (عزيز الشافعي) مؤخرا مليئ بالتنقلات الموسيقية، وكان ذكيا في اختياره لمقام (نهاوند لا)، وهو من المقامات العربية الشرقية الأصيلة التي تتميز بطابعها الموسيقي الخاص والشجي، ويصلح لجنسين من الموسيقى الحزينة والمرحة، أما الموزع العبقري (طارق مدكور) فقد أخذ اللحن وانطلق به في السماء يحلق بالنغمات، واستطاع بذكاء شديد أن يمتعنا بتوزيعه، الذي لم نشعر من خلاله بصعوبة ما بذله من جهد وفكر ليقدم لنا هذا التوزيع المدهش بهذه النعومة الشديدة.
الغناء
أما الغناء فماذا نقول عن واحدة بدأت الغناء منذ الطفولة وتعاونت مع أساطين الكلمة واللحن سواء في مصر أو المغرب أو العالم العربي، ورغم المطبات الموجودة في اللحن، حيث يجب أن يتمتع المغني بالثبوت، وكثيراً ما يُحدد ضبط أصول المقام في الغناء قدرة الفنان من عدمها، إلا أن (سميرة سعيد) قدمت درسا لمن يريد أن يتعلم أصول الغناء، والجميل أنها غنت دون أن يشعر المستمع بالمطبات اللحنية التى مرت بها، ولكنه شعر بالمتعة وهي تتنقل برشاقة مثل الفراشة بين الأوتار والأنغام.