بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
فى 10 مارس 1923 خرجت (فرقة رمسيس) إلى النور ، لتصبح علامة فارقة فى تاريخ المسرح المصرى و يرجع معظم الفضل فى هذا الى عزيز عيد : ( مديرها الفنى و مخرجها الفذ الذى يدفع الفرقة إلى الأمام بروائع الادب العالمى بعد أن يلبسها ثوبا من الإخراج يدل على عبقرية فنية يندر أن يوجد لها الزمان نظيرا) – حسب وصف جورج أبيض – و لكن برغم هذا دب الخلاف الأزلى بين عزيز و صاحب الفرقة يوسف وهبى.
كان الاتفاق بين (عزيز و يوسف) قد تم على أن يتقاضى (عزيز) مرتبا شهريا قيمته 30 جنيه ، إلى جانب نسبة من صافى الأرباح تبلغ 5% ، و لم يكن المرتب يكفى عزيز ، فقد كان يدفع منه لمساعدة بعض أهله ، و لكنه كان بلا بيت أو أسرة ، لذا حمل ثيابه و متاعه البسيط إلى إحدى حجرات المسرح و اتخذها سكنا و مكتبا ، فإذا خرج المتفرجون آخر الليل و انصرف يوسف وهبى فى سيارته الفارهة – فقد كان الممثل الوحيد فى مصر الذى يمتلك سيارة – و أطفئت الأنوار ، أغلقت الأبواب على عزيز ليقضى ليلته فى نفس المسرح الذى سكب على خشبته عصارة فنه فى البروفات صباحا و فى التمثيل ليلا ، فإذا اقترب الفجر نام خلف الكواليس بين الأنوار المطفأة و الديكورات المنصوبة ، فى الجو الذى كانت فيه منذ قليل تهمس (مرجريت) و يصخب المجنون (كما تقول الفنانة القديرة صفاء الطوخى فى كتابها عن عزيز عيد).
و عندما اقترب الموسم الأول من نهايته بدأ عزيز يطالب بنصيبه فى الأرباح ، و صاحب الفرقة يراوغ و يخرج من جيبه كل يوم عذرا : الحساب لم يصف بعد .. الدفاتر لم تسو .. الديون لم تدفع .. حتى وصل إلى العذر الأخير : الفرقة لا تكسب !! فى حين أن صالة المسرح كانت تمتلئ بالمشاهدين كل ليلة ، و شباك التذاكر يحمل لافتة كامل العدد ، بل هناك من حجز مقاعد دائمة له و لأسرته ، و مسرحية (غادة الكاميليا) وحدها – كما قال مدير الحسابات – حققت إيرادا 12 ألف جنيه . إلا أن يوسف وهبى أصر على أن الفرقة لم تكسب ، فهى الفرقة الوحيدة التى تدفع مرتبات ثابتة لأعضائها ، مما يزيد من التكاليف و الأعباء المالية إلى جانب تكاليف الدعاية و الإنتاج من ديكورات و ملابس و خلافه ، كما أن تكلفة إعداد المسرح و تجهيزه وحدها قدرها يوسف وهبى بمبلغ 10 آلاف جنيه ، مع أن بعض معاصريه قالوا أن العين الخبيرة تعرف أنه لم يتكلف أكثر من 3 آلاف جنيه.
و فى قرار غاضب قرر (عزيز) ترك المسرح ، و هو قرار لا يعنى فقط أن يفقد عمله و مرتبه ، بل يعنى أيضا أن يفقد سكنه و حياته كلها التى انحسرت فى هذا المسرح . و لكن الممثلة الأولى فى الفرقة ( روز اليوسف ) تدخلت لتسوية الخلاف و تهدئة الأعصاب . و كما هى العادة هدأت أعصاب عزيز – كما كان يحدث كل مرة بسبب الخلافات المادية – و لم يعد إلى حديث نصيبه فى الأرباح و لا ندرى السبب وبالطبع لم يعد له يوسف وهبى .
و بعد انتهاء الموسم الثانى وقعت مفاجآت كثيرة ، فقد تزوج عزيز عيد من (فاطمة رشدى) ، كما ترجم مسرحيتين جديدتين ، فكافأه يوسف وهبى بمفاجأة أكبر بأن طلب من عزيز أن يستأجر الفيلا الفخمة التى كان يسكنها و التى تركها إلى مكان أفضل ، و عندما صارحه عزيز بأنه لا يملك المال لتأثيثها ، اعترف يوسف أخيرا بأن لعزيز نصيبا فى الأرباح يبلغ 1500 جنيه، و تقول السيدة (فاطمة رشدى) عن تلك الواقعة انهما انتقلا من البيت الصغير الذى استأجراه بعد الزواج فى شارع قنطرة الدكة خلف المسرح إلى فيللا ضخمة بشارع فؤاد ( شارع 26 يوليو حاليا ) أفخم شوارع العاصمة و أنفقا المبلغ كله فى تأثيثها حتى أنهما اشتريا صالون بمبلغ 400 جنيه ( و هو ما يساوى ثروة بمقاييس تلك الأيام ).
و استمر (عزيز) يعمل بكل همته فى فرقة رمسيس طيلة أربعة مواسم متتالية ، كان يخرج ما يقرب من 20 مسرحية فى الموسم الواحد ، يراجع ترجماتها و يعيد صياغة الحوار و يصمم ديكوراتها و إضاءتها و يختار ممثليها و يدربهم على أداء أدوارها ، و كانت النتيجة نجاح ساحق لفرقة رمسيس . و لكن لا تجرى الرياح بما تشتهى السفن دائما ، فبعد انتهاء الموسم الرابع قرر (عزيز) الانفصال عن فرقة رمسيس هو وزوجته السيدة (فاطمة رشدى) ، و كان السبب الذى تصوره البعض هو المشادة التى تمت فى كواليس الفرقة بين (فاطمة رشدى و زينب صدقى).
و لكن السيدة ( روز اليوسف) تكشف عن الأسباب الحقيقية فى مذكرتها قائلة : بدأ يوسف وهبى يستبد بالرأى و يصبح ديكتاتورا ، يُخرج من يشاء و يُدخل من يشاء ، بغير استشارة مخرج الفرقة على الأقل ، و تضيف إنه تبنى بشدة نظرية النزول إلى الجمهور و أصر على تقديم روايات الفواجع المبالغ فيها . و هذا ما كان يرفضه عزيز و كثيرا ما جرت بينهما مناقشات ، وصلت حد المشادات و أدت الى خلافات يصعب حلها .
على الجانب الآخر كان ( عزيز ) أحيانا ما يختار مسرحيات ، البطولة فيها ليست لصاحب الفرقة ، و هذا ما لا يقبله و لا يرضاه (يوسف وهبى) ، الذى لا يطيق – كما يقول فتوح نشاطى – أن يزاحمه أحد على المركز الأول ، فهو يرى أن يكون دائما العلم المفرد و الأول و الأخير و أن يفوز وحده بأكاليل الغار.
و تقول ( الطوخى ) فى كتابها أن نسحاب ( فاطمة رشدى و عزيز عيد ) من ( فرقة رمسيس ) بدى و كأنه غاية المراد و منتهى أمل صاحب الفرقة ، فكيف يقبل ( يوسف وهبى ) صاحب التعليمات و الأوامر الحديدية أن تشتعل معركة فى كواليس مسرحه بين ممثلتين لأن ( زينب صدقى ) تحدثت بصوت عال أثناء تمثيل ( فاطمة رشدى ) على المسرح ؟ ، كيف بالرجل الذى علم معاصريه الانضباط و الالتزام و جعل لهم جرسا يبدأ البروفة و ينهيها ، و انضباطا حديديا فى احترام المسرح و تقاليده أن يقبل بمثل هذه المعركة دون أن يقف إلى جوار فاطمة ؟ ، بل لم يحاول معالجة الموقف !!
و خرج ( عزيز و فاطمة ) من فرقة رمسيس ، و لنا أن نعرف أحد أسباب عدم تمسك ( يوسف وهبى ) بهما مما قاله المعلم ( صديق أحمد ) متعهد حفلات فرقة رمسيس – الذى كانت له كلمة مسموعة فى اختيار المسرحيات – فعندما أشاد البعض أمامه بجهود ( عزيز ) فى نجاح الفرقة قال : صحيح ( عزيز عيد ) أخرج روايات عظيمة و لكن يوسف وهبى قام بمجهود أكبر ، فسألوه : و ما هذا المجهود ؟ فأجاب المعلم صديق : لقد أخرج عزيز عيد نفسه !!!
و بعد الخروج بدأت حملة صحفية ضارية و غير موضوعية ضد عزيز ، تصفه بالجهل و تنزع عنه أية موهبة ، لتنال من قدره و قيمته ، و كأن هدف الحملة تحطيم الرجل ، و تزعمت تلك الحملة ( مجلة المسرح ) التى نشرت تحقيقا صحفيا عن مستقبل فرقة رمسيس بعد انفصال ( فاطمة و عزيز ) ، ورد فيه على لسان ( شقيق يوسف وهبى ) و مدير فرقته بأن عزيز أصبح عثرة فى سبيل تقدم الفن بالرغم مما ترى الناس فيه من العبقرية !!
و برغم كل هذا الهجوم ، و برغم حملات التشويه ، و برغم التنبؤ بالإفلاس الفنى ، كان (عزيز) مازال يحلم بمسرح مختلف.
و لهذا الحديث بقية ..