* نحن نعيش زمن الانهيارات وليس انهيارا واحدا، هناك افتقاد القدوة والزعامة والمشروع القومي
* أول فنان كبير عرفته هو الموسيقار (مدحت عاصم) الذي كان من وجهاء العباسية، وكان بيته صالونا فنيا يجتمع فيه أهل الفن.
* ليلى مراد كانت جارتي في حي العباسية، وكنت في يوم غناء (ليلى مراد ووالداها) في بيتهما أسهر مع زملائي بجوار الشباك الذي تبعث منه الألحان.
* تعرفت وصادقت الشيخ (زكريا أحمد) وما أدراك ما الشيخ (زكريا)! وجمال مجلسه وظرفه وحفظه لكل ما هو ممنوع ومباح في تراث الغناء.
* أم كلثوم صوت عبقري وهبة إلهية، صوتها كان له الأثر الكبير في إقبالي على عملي الأدبي والنجاح فيه
* سلاح ثومه الأول الذي استعملته في معركة إثبات وجودها هو احترامها لنفسها وفنها واختيارها للكلمات الجميلة الجيدة
أعد الحوار للنشر : أحمد السماحي
ومازالنا مع حوار أديب مصر الكبير (نجيب محفوظ) عن الغناء والأصوات الغنائية وشهادته على عصر عاش فيه ورؤيته لما سمعه عام 1994 وقت إجراء الحوار مع الزميل الراحل الأستاذ (محمد الدسوقي) الذي نشر هذا الحوار في مجلة (فن) اللبنانية، وهذا الحوار ليس مجرد حوار بقدر ما هو شهادة حية وساخنة من (شاهد عيان) يقظ، واع، مهتم، ومحب للأصوات الجميلة على عصور الغناء، فإليكم أعزائي الحلقة الثانية من حوار أديب نوبل..
* برأيك هل كانت هناك ضرورة أديبة من وجهة نظرك لإدخال الأغاني على أحداث الثلاثية؟
** أنا أدخلت تلك الأغاني والطقاطيق بين أسطر وأحداث العمل الأدبي، وجعلت أبطال العمل يرددونها بصفتهم من الشعب المصري المحب للغناء فقط، الأغاني الشهيرة ظاهرة منتشرة في مصر على مدار تاريخها الطويل وحتى الآن، وأنا لم أقم بغزل كلمات الأغاني بأحداث رواياتي في الثلاثية فقط، ولكن حدث ذلك في كل رواياتي (خان الخليلي، صباح الورد، ميرامار، السراب، الباقي من الزمن ساعة، المرايا، يوم مقتل الزعيم، الحب فوق هضبة الهرم، التنظيم السري).
* قرأت كل هذه الروايات وتوقفت مدهوشا أمام كل ما ذكرت من أحداث غنائية، وكثيرا ما تساءلت بيني وبين نفسي لماذا هذا التركيز على (أم كلثوم، وعبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ، وزكريا أحمد) وكنت أقول أنه حب الغناء وعشق الطرب، ولكن بمرور الوقت اتضح لي أنه بجانب العشق هناك الصداقة مع هذه الرموز الجميلة؟
** ربما كانت هناك صداقة ولكنها لم تكن هي كل شيئ، حب الغناء وعشقه هما بالأساس كل شيئ لأن صداقاتي الفنية كانت محدودة، ولكن عشقي للغناء والأصوات كان بلا حدود، وقد بدأ مشواري مع الفن بداية شعبية عامة تمثلت في الحكايات التى سمعتها من والدي وهى حكايات أشبه بالأساطير، وكانت البداية سينمائية فقد وقعت في غرام السينما وأدمنت الذهاب إلى سينما (الكلوب المصري) في الجمالية، ومن خلال (الفونوغراف) الذي كنا نملكه سمعت لأول مرة أصوات (منيرة المهدية، يوسف المنيلاوي، صالح عبدالحي) وقد استمعت إلى أغاني (سيد درويش) من الشارع، ومن مسارح روض الفرج التى كانت تعيد رواياته التى كنت أذهب لمشاهداتها مع أبي وأخي الأكبر، الذي مات عام 1923 وكنت أنا في الثانية عشرة من عمري.
أما أول فنان كبير عرفته فهو المرحوم الموسيقار (مدحت عاصم) الذي كان من وجهاء العباسية، وكان بيته صالونا فنيا يجتمع فيه أهل الفن، وكان (مدحت عاصم) شيئا كبيرا ومهما في دنيا الموسيقى والغناء، أما الفنان (عبدالحليم نويره) مؤسس فرقة الموسيقى العربية فهو من أصدقاء طفولتي، وجار لي في الحي، وكانت لدي رغبة في دراسة الموسيقى، وبالفعل دخلت المعهد في عام 1933، وتعلمت العزف على آلة القانون، وكان لدي صوت حسن، ونصحني (عبدالحليم نويره) باحتراف الغناء، وكان يقول لي (عليك أن تمرن صوتك وتغني)، ولكن خجلي منعني من إحتراف الغناء، وظل هواية أمارسه في الأمسيات الأسرية ومع بعض الأصدقاء.
وأضاف نجيب محفوظ: ومن جيراني أيضا في (العباسية) الفنان (زكي مراد) وابنته (ليلى) وأشقاؤها، وكنا نستمع إلى عزف الأب وغناء البنت كثيرا في الليالي الجميلة، حتى أنني كنت في يوم غناء (ليلى مراد) أسهر مع زملائي بجوار الشباك الذي تبعث منه الألحان، وقد تعرفت وصادقت الشيخ (زكريا أحمد) وما أدراك ما الشيخ (زكريا)! وجمال مجلسه وظرفه وحفظه لكل ما هو ممنوع ومباح في تراث الغناء، ومن خلاله عرفت جيدا الشيخ (سيد درويش)، بعد ذلك تعرفت على الشاعر (بيرم التونسي) حين عملنا معا في فيلم (ريا وسكينة) ولكن لم تجمعنا صداقة قوية، ولكن كنت أحترمه جدا، أما المطرب (عبدالغني السيد) فقد عرفته وأحببته كان محدثا لبقا ومتألقا خصوصا حين يتكلم عن أستاذه (محمد عبدالوهاب).
* وأم كلثوم أستاذ نجيب التى قلت عنها الكثير عبر رواياتك؟
** أم كلثوم أنا قلت عنها الكثير لأنها تستحق فهي صوت عبقري وهبة إلهية، وصوتها وغناؤها من العوامل الأساسية التى أدخلت على نفسي وقلبي الإنشراح والسرور، ولا شك أنها كانت ومازالت ساحرة بكل ما تعنيه هذه الكلمة رغم رحيلها، والمؤكد أن هذا السحر المنطلق منها ومن صوتها كان له الأثر الكبير في إقبالي على عملي الأدبي، والنجاح فيه، فشكرا لها.
* علاقتك بها هل هى قديمة؟
** نعم علاقتي بصوتها علاقة قديمة، فقد بدأت أسمعها عن طريق الاسطوانات بين عامي 26 و27 وقد اقتنعت بها منذ أول سماعي لها، ولكن في البداية كنت قد سمعت من بعض الأصدقاء إعجابا بها قبل أن أسمعها، بعدما استمعوا إليها في بعض الأفراح، وقال لي أحدهم أن صوتها أجمل من صوت (منيرة المهدية)، وبما أني كنت من عشاق صوت (منيرة) فقد هالني الحكم، ولم أتصور أبدا أنه صحيح حتى استمعت إلى واحدة من اسطواناتها، فاقتنعت بها تماما وأصبحت من عشقها، وبدأت أسمعها بانتظام آواخر المرحلة الثانوية، وبداية الجامعة، وكانت على ما أذكر تغني في سينما اسمها (جوس بالاس) حيث كنت مواظبا على حضور حفلة السبت، أما عن صداقة ربطت بيني وبينها فلم تحدث، كانت هناك فقط صداقة بين أذني وقلبي وصوتها.
وقد التقيتها مرة واحدة فقط وجها لوجه وذلك حين دعاها الأستاذ (محمد حسنين هيكل) للحفل الذي أقامه لي بالأهرام لمناسبة عيد ميلادي.
* استاذنا الكبير، وأنت تستعيد الذكريات وتروي ما قاله لك أحد أصدقائك عن أم كلثوم، وكيف أدهشك هذا الرأي، تذكرت لك لوحة درامية قمت برسمها أنت في مجموعة (المرايا) ذكرت فيها هذه الحادثة، ولكن مع تغيير المكان والشخصيات، لقد كتبت تقول: (قال لنا سرور عبدالباقي، سمعتها في فرح وأعتقد أن صوتها أحلى من صوت منيرة المهدية، فـ (كبر علينا) ذلك، وقال جعفر خليل: (صوت منيرة يعلو ولا يعلى عليه)، وأعتقد أن جعفر خليل هذا هو أنت؟
** ممكن وقد طرحت كل الآراء التى قيلت فيها لدى ظهورها عبر (الثلاثية، وخان الخليلي وميرامار) وغيرهم من رواياتي، وأعطيتها حقها كاملا، وطبعا كان لابد للأذواق أن تتفرق وتختلف، منهم من يرحب بها، ومنهم من يعارضها، ولكني أعتقد أن صوت أم كلثوم لم يشذ عن الإعجاب به إلإ قلة لا يعتد بها، وقد طغى صوتها على كل الأصوات والأحزاب الغنائية التى كانت موجودة فى ذاك الوقت.
وأعتقد أن سلاح أم كلثوم الأول الذي استعملته في معركة إثبات وجودها هو احترامها لنفسها وفنها واختيارها للكلمات الجميلة الجيدة، الكلمة كانت أهم شيئ بالنسبة لها، وقد غنت على ألحان (وحشة)، ولكنها لم تغن كلمات هابطة أبدا، وقد نجحت أم كلثوم دائما بصوتها، فهى صوت عظيم جدا، لحن لها البعض ألحانا عظيمة فتألقت والبعض الآخر أعطاها ألحانا متوسطة، وقد أدركت قيمتها من خلال هذه النوعية الأخيرة من الألحان لأنها وعبر موهبتها وقدراتها الفذة تمكنت من إنجاح هذه الأغاني، ومن هنا عرفت حلاوة صوتها من أغانيها (الوحشة) صوتها كان قويا مرنا يؤدي بعظمة وشموخ واختياراتها في الكلمة كانت قوية وشامخة أيضا.
* ومحمد عبدالوهاب من خلال حبك له، هل أعطى الكلمة الاهتمام الذي أعطاه للحن؟
** لا كان عبدالوهاب يعتقد أن اللحن هو الأهم لأنه كان ملحنا أولا، وهو كملحن كان يجد الفكرة الموسيقية أولا ثم يبحث لها عن كلمات، عبدالوهاب الملحن كان يسبق عبدالوهاب المطرب.
* قبل قليل قلت أن الفن يزدهر في أثناء الثورات وفي الفترات التالية لها، وينتكس في الانهيارات، وبما أن الحادث الآن غنائيا شيئ لم يسبق له مثيل! فهل يمكن أن نقول أننا نعيش زمن انهيار؟
**طبعا نحن نعيش زمن انهيارات وليس انهيارا واحدا، هناك افتقاد القدوة والزعامة، والمشروع القومي، اليوم لكل إنسان شعاره ومشروعه الخاص، إرجع بذاكرتك إلى فترة الستينات وبناء السد العالي وكلمات وأغاني تلك الفترة، وإلى ثورة 1919، فتجد أن الفن كان موجودا في الصفوف الأولى بدليل ظهور نشيد (بلادي .. بلادي) لسيد درويش وغيره من الأغاني الجميلة، بعد عام 1952 شهد الغناء نهضة كبرى أيضا أفرزت روائع كثيرة وعديدة وازدان العصر بمواهب غنائية رائعة قديمة وجديدة مثل (عبدالوهاب، وأم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، وشادية، ونجاة، وفايزة أحمد، ونجاح سلام) وغيرهم.
وعلى الرغم من ظهور وسيطرة هؤلاء إلا أن الاستمرارية الفنية كتبت للون الخفيف أيضا في شكل المونولوجات والطقاطيق التى كانت تؤديها (ثريا حلمي، وشكوكو، وإسماعيل ياسين) وغيرهم، ولكن للأمانة تميز هؤلاء بعدم السقوط في مستنقع الألفاظ الجنسية الرديئة التى كانت منتشرة وقتها وزاد انتشارها الآن، ويمكنني أن أقول أن أغاني هؤلاء وأصواتهم أروع وأحلى من أصوات من يغنون اليوم ويطلقون على أنفسهم لقب مطربين.