* في مسرح (أمين عطالله) سمعت فتحية أحمد لأول مرة
* غنيت (طلعت يا محلا نورها) للشيخ سيد درويش فكانت سببا في وقوفي على خشبة المسرح لأول مرة
* كان أول أجر لي في المسرح قطعة شيكولاته من أمين عطالله
* سيد درويش أعطى والدتي مبلغ ضخم جدا عبارة عن عشرة جنيهات بعد إعجابه بصوتي
كتب : أحمد السماحي
(فاطمة رشدي) هذه الرائدة الفنية حياتها الشخصية والفنية عامرة بالأحداث والشخصيات والمحن والمغامرات، وذكرياتها تسجل كثيرا من وقائع المسرح المصري في أخصب عشرين سنة مرت عليه في بدايات تاريخه، في الحلقة الأولى من كتابها (كفاحي في المسرح والسينما) توقفنا عند نبذة عن صاحبة الكتاب وسر إهدائها الكتاب إلى أستاذها ومعلمها المخرج (عزيز عيد)، ومقدمة الدكتور (سعيد عبده) عنها، وفي هذه الحلقة نستكمل حكايات فاطمة رشدي هذه الأسطورة الفنية الخالدة.
تقول الرائدة فاطمة رشدي في الفصل الأول من الكتاب: كنت طفلة صغيرة لم أجاوز عامي العاشر، أمشي بين أمي وأختي التى تكبرني في شوارع الإسكندرية كل مساء ممسكة بيد كل منهما، وأنا بينهما أسير مرحة فرحة نشيطة إلى مسرح (أمين عطالله) الذي كانت تعمل فيه أختي (رتيبة)، فأستمع إليها وأنا جالسة في الصالة وهي تغني فأردد معها أغنياتها بصوت لا يسمعه أحد غيري، فإذا صعدت بعدها السيدة (فتحية أحمد) – مطربة القطرين فيما بعد – فغنت أغانيها هى الأخرى، أرددها معها أيضا بصوت مرتفع حتى حفظتها عن ظهر قلب كلمات ولحنا وأداء، فإذا انتهت السهرة في المسرح بعد منتصف الليل عدنا ثلاثتنا أنا وأمي وأختي وأنا أغالب النوم الذي دهم جفني ونحن في الطريق إلى مسكننا المتواضع.
فتحية أحمد منحتني ولادتي المسرحية
في أحد الأيام تسللت إلى كواليس المسرح، واتخذت لي بينها مكانا لا أبرحه في كل ليلة حتى يجيئ وقت الرواح بعد منتصف الليل، وكان مما تغنيه (فتحية أحمد) أغنية بعنوان (طلعت يا محلا نورها شمس الشموشة) لحن الشيخ سيد درويش، وكنت (أدندن) بهذه الأغنية بعد إنزال الستار في كل مرة لسهولة ألفاظها وجميل تلحينها، حتى كان مساء، وبدأ القدر يدفعني إلى الأمام ويهيئني لما كتب الله لي، في هذا اليوم أصرت (فتحية أحمد) على أن تتقاضى أجرها كاملا قبل رفع الستار، وأصر (أمين عطالله) على أن يعطيها هذا الأجر في آخر الليل بعد انتهاء العمل، وسرعان ما غضبت وولت تاركة الرجل بين شقي الرحى فماذا يصنع أمام الجمهور؟
وجال ببصره الزائغ بين أعضاء فرقته على المسرح قبل رفع الستار، وإذا به يتجه إلي ويقول: سمعتك تغنين (طلعت يا محلا نورها) بين الكواليس، ما رأيك في أن تغنيها أمام الجمهور، ولك عندي قطعة فاخرة من الشيكولاتة، قلت: أريد قطعتين! فقال ضاحكا: سأجمع لك الشيكولاتة وأحملها لك يا صغيرتي، استعدي ولا تخافي إن الجمهور سيصفق لك، وسيحييك بحرارة وحماسة، ولم ينتظر ردي، وأمر برفع الستار ودفعني إلى الجمهور، وبدأت أغني، وإذا الجمهور صامت دهش، حتى إذا انتهيت صفق لي سرورا وإعجابا، وكانت هذه هي أول مرة أقف فيها على المسرح.
سيد درويش يطلب سفري إلى القاهرة
كان القدر في تلك الليلة التاريخية يحوطني برعايته، فقد كان سيد درويش في الصالة بين الجمهور، وسمع غنائي فطرب له، وبعد انتهاء فقرتي صعد إلى المسرح وسأل عني (أمين عطالله) فدله على أمي فحدثها في شأني واقترح أن نسافر إلى القاهرة لنعمل معه في فرقة سيؤلفها، ودفع لها عشرة جنيهات وكان مبلغا ضخما جدا جدا، وشددنا الرحال وغادرنا الأسكندرية التى نشأت بها إلى القاهرة لأجرب فيها حظي، كنت أحلم في هذا السن الصغير أن أصبح مغنية كهؤلاء اللواتي يعتلين المسرح فيصفق لهن الجمهور، ووصلنا إلى القاهرة فإذا بنا نجد مفاجأة في انتظارنا حيث أن الشيخ (سيد) حل الفرقة التى حدثنا عنها، لكنه رأفة بنا سعى لنا عند زميله (نجيب الريحاني) الذي ما كاد يرانا حتى استصغر سننا وقال ماذا أفعل بفتاة وطفلة لم تتجاوز الأحد عشر ربيعا؟ وقام بالاستغناء عنا بطريقة لطيفة، إلا أنه في الوقت نفسه طمأننا بأن له زميل لديه فرقة في بورسعيد سيرسلنا له.
روض الفرج والبسفور
حزمنا أمتعتنا وسفرنا بورسعيد عند زميل (الريحاني) وفي الليلة الأولى فوجئنا إننا نقف في حلقة سيرك والجمهور من حولنا، وشرعنا نغني فأسمعنا المتفرجين الذين في مواجهتنا، والقريبين منا ممن حولنا، ولكن الذين خلفنا لم يسمعوا شيئا، فصاحوا بنا: (شفنا إيه من وشكم علشان تدونا ظهركم؟!)، فلم نر بدا من اللف والدوران في الحلقة لنرضي الجميع، وبعد دورتين اثنتين وجدنا أنفسنا غارقين في موجة من الضحك لم نقوى على مقاومتها، وتاهت الكلمات في فم كل منا وسقطنا على الأرض من شدة الضحك على هذه المهزلة وضج المتفرجون بعضهم يضحك منا وبعضهم يصيح ساخطا علينا وحدث هرج ومرج.
لم يجد معه صاحب السيرك إلا أن يرسل إلينا المصارع الضخم ليلتقطني من الأرض بيمناه، ويلتقط أختي بيسراه وأسرع بنا إلى الطريق فألقانا في عرضه وهو يشيعنا أجمل تشييع بقوله: روحوا جاتكم داهية!، وأسرعت أمي إلينا تقول لنا ماذا سنصنع وليس معنا من النقود ما يكفي للمبيت في أصغر فندق فقررنا الرجوع إلى القاهرة، وبعد عودتنا يسر الله لنا الرزق في مسارح روض الفرج وكانت متعددة، ثم انتهى بي المطاف إلى مسرح البوسفور ألقي فيه الأغنيات التى أجدت غناءها، فكنت ألقى من التشجيع والإعجاب ما حفزني على الاستزادة والإجادة.
محمد تيموريقدمني لـ عزيزعيد
على قهوة اسمها (راديوم) بشارع عماد الدين كان يجتمع فيها رجال الفن والأدب والصحافة عرفت الأديب الكبير (محمد تيمور) فأحاطني بسياج من رعايته وعطفه، حتى لقد كان يقطع مناقشاته في الأدب مع أصدقائه (نجيب الريحاني، وإبراهيم رمزي، وإبراهيم المصري، وأمين صدقي) ليشتري لي الشيكولاته معتذرا للأصدقاء عن قطع المناقشة بأن (شيكولاتة بطة) أهم عنده من الأدب، فيتضاحكون ثم يعودون إلى مناقشاتهم وأنا منصتة وكلي آذان واعية لما يقولون.
وفي ليلة فاجأت (تيمور بك) قائلة: محمد بك سأؤلف رواية!! فضحك وسألني: هل تعرفين القراءة والكتابة؟ فقلت: لأ! ولكني سأستأجر شخصا أملي عليه ما أريد، وضحك وقال لابد أن تتعلمي القراءة والكتابة، وبالفعل بدأت أتعلم وفي أحد الأيام أقبل على القهوة واحد من أعضائها لم أره من قبل، لاحظت أن الجميع كانوا يحترمونه احتراما خاصا، فاتجه إليه تيمور قائلا: يا عزيز سأهدي إليك مؤلفة ومطربة وممثلة في وقت واحد، فقلت لـ (محمد تيمور بك) من عزيز هذا يا محمد بك؟ فقال لي: عزيز عيد!
.. وهنا بدأت مرحلة جديدة من حياتي!