رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

نجيب محفوظ : نعيش زمن الطوفان الغنائي، ومقياس إزدهار أوانحطاط عصر هو الفن (1/2)

* من يهبط أكثر ومن يقل كلاما أغرب وأردأ وأهيف يكسب

* كلما كتبت كلمات لا معنى لها، كلما رقص عليها المغنون والناس، وأذاعها التليفزيون بكثرة، وكسب أصحابها الملايين

* الواقع الغنائي اليوم، كلما كنت غريبا وغير مفهوم كلما كنت ناجحا.

* الأغنية الجادة الآن في غرفة الإنعاش، بينها وبين الرحيل خطوة في حين أن الأغنية الهابطة في الصدارة!

* أغاني زمان الهابطة أرحم بكثير مما نسمعه الآن، وما قدمته من غناء في (الثلاثية) كان أشبه بالغناء السري.

الأغنية ليست صوتا جميلا فقط

كتب : أحمد السماحي

(غناء اليوم أشبه بغناء العوالم زمان، لا نعرف أصله ولا واضع كلماته، ومقياس ازدهار أوانحطاط عصر هو الفن، إذا كان الفن هابطا، فالحالة السياسية هابطة!) صاحب هذا الرأي الفاصل في غناء هذه الأيام ليس إنسانا عاديا، ولكنه أستاذنا وأديبانا الكبير (نجيب محفوظ) الذي نحيي اليوم ذكرى رحيله السادسة عشر حيث رحل عنا يوم 30 أغسطس 2006، وقد أجرى معه الزميل الراحل (محمد الدسوقي) حوار مطولا على خمس صفحات عن الغناء، في مجلة (فن) اللبنانية عام 1994، ونظرا لطول الحوار وندرته ومتعته سنقوم بنشره على حلقتين لأنني اكتشفت أن جزءا كبيرا منه تشخيص للحالة الغنائية الراهنة، ويحكي وكأنه يعيش بيننا الآن، ويرى ويسمع حالة التردي الموجودة في صحيفة الحالة الغنائية الجنائية، تعالوا إلى التفاصيل:

* ما هي شهادة نجيب محفوظ عن واقع الغناء الحالي وسيطرة أصوات وكلمات أقل ما يمكن أن نصفها به هو أنها رديئة ونماذج الرداءة كثيرة؟

** صدقني إذا قلت لك أن ما تسألني عنه شيئ صعب جدا، فأنا مثلما أسمع، أرى الواقع الغنائي الآن، فأجد أن أوراقه مخلوطة تماما، فالإسفاف والهبوط بالكلمة واللحن حدث ولا حرج، وأكبر من الإجادة، والخريطة الغنائية اليوم لم تعد خريطة بل صارت (هيصة)!.

ولذا فهي في حاجة إلى فض اشتباك بعدما اختلط فيها الجاد بالهزلي، واللامعقول من الغناء بالترفيهي، لقد اختل التوازن فطغى اللامعقول والهزلي على الجاد في الكلمة واللحن والأداء، فبدا الأمر وكأننا في مبارة للإسفاف، من يهبط أكثر ومن يقل كلاما أغرب وأردأ وأهيف يكسب!، وكلما صفت كلمات لا معنى لها، كلما رقص عليها المغنون والناس، وأذاعها التليفزيون بكثرة، وبالتالي زادت مبيعاتها وكسب أصحابها من ورائها الملايين!، هذا هو الواقع الغنائي اليوم، كلما كنت غريبا وغير مفهوم كلما كنت ناجحا!.

مقياس ازدهار أو انحطاط عصر هو الفن

* وما سبب هذا الهبوط يا أستاذنا؟

** سبب الهبوط الحادث الآن هو عدم التوازن بين الجاد والهزلي من الغناء، انظر إلى من كان يكتب ويلحن ويغني في الماضي وماذا كانوا يقرأون؟ فسوف تصاب بالدهشة!، يا عزيزي الأغنية الجادة الآن في غرفة الإنعاش، بينها وبين الرحيل خطوة في حين أن الأغنية الهابطة في الصدارة، وكي تعود القمة قمة والسفح سفحا كما كان الأمر في الماضي لابد من إخراج الأغنية من غرفة الأنعاش أولا.

* كيف تخرج الأغنية من غرفة الإنعاش؟

** لابد من أن يكون هناك فكر غنائي أولا ممثلا بكلمة جميلة جيدة ولحن أكثر جمالا وتعبيرا وصوت يحمل الكلمة واللحن إلى الآذان والقلوب، ولابد من الثقافة عند كل هؤلاء، فالأصوات القوية الجميلة كثيرة ولكنها تقول أغاني (هلس)!، فمثلا (عدوية) صوتا قويا وجميلا وفيه شجن، ولكن ماذا غنى؟! (سلامتها أم حسن، وقرقشندي دبح كبشه، وسيب وأنا سيب، ورحنا السلاملك قالوا في الحرملك)!.

الأغنية ليست صوتا جميلا فقط، إنها مجموعة أشياء وهى الآن بحاجة قوية إلى الكلمة الجميلة والصوت القوي وأهل موسيقى وتلحين يؤمنون بالهدف والرسالة وليس مجرد الإيمان بالثراء والغنى فقط، ولو أن هذا حدث فسوف يعاد ترتيب الأوراق المخلوطة وتتم إعادة الجيد من الغناء إلى الصدارة والريادة، لابد من الإيمان بالهدف والرسالة.

نكاذج من الغناء المشوه في هذا الزمانم

* هل الإيمان بالهدف والرسالة ممكن الآن يا أستاذ نجيب؟

** ممكن جدا لأن التيار لم يجرف الجميع، وهناك أصوات وملحنون وشعراء متميزين للغاية، ولا بد من أن يكون هناك من يحمل الراية عاليا في أثناء الطوفان، ونحن الآن في زمن الطوفان الغنائي، ولقد علمنا التاريخ أن مقياس ازدهار أو انحطاط عصر من العصور هو الفن!.

* مقياس إزدهار أو انحطاط عصر من العصور هو الفن! أي فن بالضبط يا أستاذ نجيب؟

** إذا كنت تريدني أن أقول فن الغناء أو فن الشعر فقط من دون باقي الفنون فهذا تعسف من جانبك ومن جانبي إذا وافقتك، لأن الفن كل لا يتجزأ، أنت تكلمني عن الغناء والكلمة في الغناء وهذا شيئ أشبه بالوقوف في مكان ضيق جدا لأنك كي تحكم على عصر بأكمله فلابد من أن ترصد كل فنونه، الغناء في الصدارة لا مانع، ولكن لابد من التوقف أمام الشعراء، الأدب، المسرح، السينما، لأن كل هذه قنوات تعبير فنية تأخذ من الشارع وتصب فيه مرة أخرى.

الفن وفي أبسط تعريف له، هو مرآة للواقع، والمرآة لا تكذب ولا تزيف ولا تزور في الواقع أبدا أنها تنقل الحادث أمامها بالضبط، وبنظرة موضوعية إلى التاريخ، ووقفة أمام النهضات الإنسانية منذ بدء الخليقة وحتى الآن، سوف تجد أن المؤرخ الوحيد الباقي هو الفن ولا سواه، مثلا مجد (أثينا) سوف تجده ممثلا في أشعار (هوميروس وسوفوكليس) وفلسفات (أبيقور وأرسطوطاليس وأفلاطون، وسقراط) وغيرهم.

وإذا أخنا ثورة يوليو 1952 ماذا بقي شاهدا عليها حتى الآن؟ السد العالي وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ، وكمال الطويل، ومحمد الموجي، أي أن الفن هو ما خلد ثورة يوليو.

نجيب محفوظ في شبابه في أثناء كتابة الثلاثية

* في الثلاثية سوف نجد للطرب والغناء مكانة مهمة وبارزة جدا وكانت هناك مقاطع غنائية كلماتها تخدش الحياء مثل (يا بوالشريط الأحمر ياللي أسرتني أرحم زلي)، و(خدني في جيبك بقى بين الحزام والمنطقة) و(فاكر يوم ما عضتني العضة) وغيرها أليست هذه تشبه أغنية مثل (اديها في الكانيش تقول ما خدتش) التى تتردد حاليا؟

** نجيب محفوظ ضاحكا: لأ أغاني الماضي أرحم كثيرا من الأغنية التى قلتها أنت الآن، ثم أن ما ذكرته أنت نقلا عني من خلال (الثلاثية) لم يكن وحده هو اللون الغنائي المسيطر لقد كان هذا هو غناء (العوالم)، أما الغناء الذي ذكرته أنت نقلا عن الواقع ومن أشرطة الكاسيت فهو الغناء السائد والمسيطر والمتداول عبر أشرطة الكاسيت وفي متناول يد ومسامع الجميع.

الغناء الموجود في (الثلاثية) كان أشبه بالغناء السري يردده الناس في بيوتهم في لحظات سرورهم وسعادتهم، ثم لا تنس أن الوقت الذي دارت فيه أحداث (الثلاثية) فيه أنواع مختلفة من الغناء، غناء خفيف تؤديه العوالم في الأفراح والليالي الساهرة التى يقيمها الأعيان، وغناء جاد كان يؤديه كبار المطربين في الأفراح وبعض الحفلات العامة التى كانت تقام في المسارح والصالات، كان هناك مطربون ومطربات عتاة بكل ما تعنيه هذه الكلمة مثل (الشيخ يوسف المنيلاوي، الشيخ زكريا أحمد، عبدالحي حلمي، زكي مراد، منيرة المهدية، صالح عبدالحي).

وإلى جانب هؤلاء وغيرهم كان هناك أيضا الغناء المسرحي من خلال الأوبريتات الغنائية المسرحية التى كان يقدمها (الشيخ سلامة حجازي) والفرقة الخاصة به، وكانت هناك (فرقة علي الكسار) المسرحية، ومن خلال عروض هذه الفرقة حضرت المغني المشهور الذي كان يردد أغاني سيد درويش، الفنان حامد مرسي، بالإضافة إلى الموسم الأوبرالي الذي كان مقصورا على الأجانب وبعض المصريين.

إذا كان الفن هابطا، فالحالة السياسية هابطة!

وكانت الأغاني في ذاك الوقت تنتشر بقواها الذاتية فقط، فلم يكن هناك إذاعة أو سينما أو تليفزيون أو ميكرفون، ولو أن اختراع الإذاعة تأخر قليلا لما كنا قد استمعنا أو استمتعنا بالشيخ محمد رفعت وجمال صوته وعبدالحليم حافظ وروعته، صحيح أنه كانت هناك اسطوانات وفونوغراف ولكن وجودها كان محدودا جدا ومقصورا على الأثرياء فقط

في الحلقة القادمة نفجر مفاجأة

* نجيب محفوظ دخلت معهد الموسيقى العربية عام 1933 وتعلمت العزف على القانون وصوتي كان جميلا وكنت أغني لأصدقائي ونصحني (عبدالحليم نويره) بإحتراف الغناء

* هذه ذكرياتي مع مدحت عاصم، وعبدالحليم نويره، وزكي مراد وابنته ليلى، والشيخ زكريا أحمد وأم كلثوم، وعبدالغني السيد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.