بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
قصة أو مسرح صيفي في مصر..
مازلنا فى رحلتنا مع عزيز عيد من خلال كتاب (طائر الفن المحترق) للفنانة القديرة (صفاء الطوخى) نستكشف زمنا و فنا مضى لم يكتب عنه قبلها بحث كاف أو تسجيل دقيق ، إنما هى كتابات متناثرة هنا و هناك جمعتها ( الطوخى ) من خلال مذكرات المعاصرين لذلك الزمن و بعض المراجع القليلة ، و عندما كتبتها كانت من الأمانة أن أظهرت لنا الصورة كاملة ، فلم تحاول أن تجمل الشخصيات أو تخفى بعض الأفعال ، و نجت بذلك من تصوير أبطال تلك المرحلة بشكل ملائكى .
فللأسف الشديد يلجأ بعض الكتاب الى تقديس الشخصيات بعد موتها ، و يرفضوا أن يعرضوهم على القارئ من خلال نظرة واقعية ، فيكتبون عنهم و كأنهم كانوا بلا أخطاء ، بل إن البعض يعتبر أن أى ذكر لعيوب السابقين هو تشويه للرموز ، و نسوا أن تلك الرموز هم فى النهاية بشر ، تخطئ و تصيب . ربما أتى هذا من طبيعة عقولنا التى تهوى التصنيف الأحادى فإما ملائكة او شياطين ، فلا نستطيع أن نذكر نقاط الضعف فى بعض أبطالنا و نحتفظ لهم بنفس القدر من الاحترام ، و كأن عقولنا لا تحتمل أن ترى الصورة بكل ألوانها و ظلالها ، فهى عقول طفولية تركن إلى أن ترى الصور إما أبيض أو أسود لتتخذ موقفا من تلك الرموز بدلا من أن تعانى الحيرة فى تصنيفها. أما العقول الناضجة فلا ترى مشكلة فى مشاهدة الصورة كاملة .
و لكن الكتاب يقدم لنا الجميع بما لهم و ما عليهم ، و يروى لنا وقائع حياتهم التى لم تسلم من المشاكل و الصراعات دون تزويق أو تزييف ، و علاقاتهم الفنية القائمة على التنافس – إن لم تكن الغيرة – و فيها ما هو سيئ و ما هو جيد . و يروى الكتاب أيضا كيف تعرض عزيز لعدة مواقف صعبة ، ربما لطيبته الزائدة ، أو لأنه يثق فى البشر بغير دليل ، أو ربما لأنه لم يقرأ واقعه جيدا و كان حالما ( زيادة عن اللزوم )، ففى الفترة التى انتشرت فيها فنون الكباريه – اثناء الحرب العالمية – حاول هو تقديم أعمال كوميدية ، فترك فرقة جورج ابيض التى عمل بها ممثلا و مخرجا لبعض الوقت ، وأسس فرقة الكوميدى العربى عام 1915 بالاشتراك مع الكاتب (أمين صدقى) الذى ترجم مسرحيات الكاتب الفرنسى (فيدو) ، التى اعتبرها عزيز حلا وسطا يرضى الناس و يرضى كبريائه أو كما قال هو بنفسه و نقله عنه (محمد تيمور) فى كتابه حياتنا الفنية : ( سأبدأ بالفودفيل الفرنسى حتى اذا شعرت بميل الجمهور إليه ، قدمت له رواية من نوع الفودفيل المصرى فإذا استحسن الجمهور عملى أخرجت له الكوميدية المصرية و بهذا أكون قد وصلت إلى تحقيق الأمل الكبير ) . أى انه فى كل مجهوداته المسرحية قد كان يهدف الى مسرح مصرى خالص.
و بالفعل قدمت الفرقة عدة مسرحيات من نوعية (الفودفيل) التى كانت تعد نوعا جديدا على الجمهور المصرى ، فهى مسرحيات هدفها الضحك فقط من خلال تناول الخيانات الزوجية و ما تسفر عنه من مواقف محرجة تقوم على سوء التفاهم سواء فى الحوادث أو فى الحوار ، و تمتلئ أحيانا بالرقص و الغناء و الحركات البهلوانية . و لكن الفرقة كانت تعانى من قلة الإيرادات حتى انضمت لها ( الست منيرة المهدية ) التى أعلن (عزيز) بها عن ظهور أول ممثلة مصرية ، و كانت تقدم فصلا من إحدى مسرحيات الشيخ (سلامة حجازى) و تغنى احدى قصائده ، ثم تقدم الفرقة روايتها كالمعتاد . ويتم تقسيم الإيراد مناصفة بين الفرقة و الست منيرة ، التى أحست أنها صاحبة الفضل فى ارتفاع الإيرادات فأرادت أن تستأثر بها كلها ، و لما كان هذا مستحيلا تركت الفرقة ، فعادت الإيرادات إلى حالتها الأولى.
و عندما قدمت الفرقة إحدى أعمالها و نجحت ( خلى بالك من إيميلى ) اضطرت لترك المسرح الذى أجرته لثلاثة أيام فقط ، و مضى عزيز يبحث عن مسرح خالٍ فى القاهرة كلها لإعادة تقديم العرض و لكنه لم يجد إلا صالة باتيناج ، و فى حركة مجنونة استأجر تلك الصالة مساء فقط ، و نشر إعلانا يطلب فيه من كل متفرج أن يحضر مقعده معه ، ليجلس أمام مسرح صنعه عزيز بنفسه و رسم جميع مناظر الرواية وديكوراتها على قماش دمور رخيص . و استمرت الفرقة تقدم عملها الناجح لمدة شهر و نصف فى أول مسرح صيفى تشهده القاهرة إلى أن تغير الطقس و بات مستحيلا العمل فى مسرح مكشوف.
و يرى البعض أن هذه الفرقة برغم نجاحها كان مصيرها الفشل ، أولا لأن عزيز لم يدخر من الإيرادات ما يعينه على استكمال الطريق و هذا يثبت فشله كإدارى ، و ثانيا لأنه قدم أعمالا جريئة لا تصلح للمجتمع المصرى – الذى يعتبر محافظا – حتى أن إحدى تلك المسرحيات حملت عنوانا يعاقب عليه القانون حاليا و هو ( سكرة بنت … كلب ) إلا أن تلك الأعمال برغم جرأتها تعتبرها الدكتورة (ليلى أبو سيف) علامات بارزة فى تاريخ الكوميديا المصرية قائلة أنه يكفى أن (عزيز عيد) كان يخرجها بأسلوب مغاير لما جرى العرف عليه فى ذلك الزمان ، فكانت التدريبات تمتد إلى فترة أسبوعين بدلا من البروفات الستة المعتادة و كانت الديكورات تنزع إلى التجديد و المعاصرة المناسبة لزمنه.
و بما أن تلك الأعمال كانت مجرد مرحلة فى طريق الرواية المصرية ( المصبوغة بصبغة البلاد و التى تدور حوادثها فى مصر و يحلل فيها مؤلفها النفوس المصرية ) كما يقول (عزيز) ، فان العثور على مسرحية ( القرية الحمراء ) كانت بالنسبة له كالعثور على كنز ، ليقدمها كأول مسرحية مؤلفة تدور فى الريف المصرى ، و لكنها لم تصمد سوى أسبوعين و أُغلقت ، و انفض الأصدقاء و الزملاء من حول عزيز و أولهم كان الريحانى الذى صارحه : ( اذا كنت لا تريد ان تعيش فإننا نريد أن نأكل ). و انصرف الريحانى إلى مسرح (الفرانكو آراب) ليقدم (كشكش بك) ، و كثيرا ما حاول إقناع عزيز بالانضمام إليه و لكنه كان يرفض مبررا أن ما يقدم ليس فنا و لا يهدف لأى شيئ و أنه لن يحيد عن مبدأه مهما لاقى من عقبات أو ازمات لأنه – حسب قوله – يريد الارتقاء بالعمل الفنى.
و مضى الريحانى إلى الشهرة و الثراء و مضى عزيز إلى مزيد من البؤس و الشقاء. و لكن بعد سنوات قليلة يلجأ (عزيز إلى الريحانى) لينتج له أول (أوبرا كوميك) هى (العشرة الطيبة) و عندما اضطر الريحانى إلى إغلاقها بسبب الهجوم عليه و اتهامه بأنه ضد الخلافة العثمانية و يمالئ الإنجليز ، فإذا بعزيز يتهمه بخيانة الصداقة ! قبل أن يقدم (العشرة الطيبة)، كان (عزيز) قد إنضم الى (فرقة جورج أبيض) التى تكون، لتطوف الوجه البحرى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ليكون مخرجها و يمثل بعضا من أدوارها مقابل 20 % من الإيراد ، و كتب (جورج) عقدا بينه و بين (عزيز) ، و لكن الأخير وضع العقد فى جيبه دون توقيع و قد تصور أنه قد ضمن حقه ، و لكن بعد أن انتهت الرحلة الطويلة التى كان نصيب عزيز منها ألف جنيه كاملة ، ذهب إلى بيت جورج مطالبا بنصيبه و بعد مماطلات طويلة قال له جورج و هو يبتسم : (صحيح لك عندى ألف جنيه .. لكن ازاى تتصور انى أطلع الف جنيه من جيبى و اعطيها لك .. أنا ما بقدر أعمل هيك) . ثم عرض عليه أن يعمل فى فرقته الجديدة بمرتب شهرى ضخم .. مائة جنيه !!
و خرج عزيز ليبل العقد القديم الذى لم يتم توقيعه و يشرب ميته ، و لكنه قرر الانتقام من جورج.
و لهذا حديث آخر..