بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
صدر كتاب (عزيز عيد .. طائر الفن المحترق) للفنانة القديرة صفاء الطوخى فى العدد السابع من مطبوعات المسرح الكوميدى ليرسم أمامنا ( بانوراما ) لعصر امتلأ بأحداث جسام و تغييرات سياسية و اجتماعية ضخمة ، فلقد ولد عزيز بعد عامين من سحق الثورة العرابية و احتلال بريطانيا لمصر ، واصفا نفسه : ( طبعا أنا مصرى .. فقد ولدت فى مدينة كفر الشيخ أى من صميم الفلاحين ، و رغم أن أبى كان من كبار تجار القطن فيها ، إلا أن الزمان عصف بتجارته فأصبحنا من المعدمين ، أما جدودى فمن لبنان ).
و احترف ( عزيز ) العمل بالفن قبل عام من حادثة دنشواى ( 1906 ) التى راح ضحيتها عدد من الفلاحين بينهم امرأة و تم إعدام أربعة آخرين بعد محاكمة صورية أمام الأهالى فى نفس موقع الحادث و سجن ما يقرب من 33 فلاح ، فى مقابل وفاة ضابط انجليزى واحد بضربة شمس كما أثبت الطب الشرعى لقوات الاحتلال !!، و نظر الشعب بعين الاحتقار لكل من شارك فى المحاكمة الظالمة ، كما أشاعت تلك الحادثة فى المصريين كراهية المحتل و كل من يتعاون معه أو يهادنه و أصبح التعاون مع المحتل أو مجرد السكوت على جرائمه وصمة عار.
و انطلاقا من ذلك الحادث ظهرت حركة مدنية مصرية منظمة لمقاومة الاحتلال قادها الزعيم (مصطفى كامل) فى داخل مصر و خارجها ، أسفرت عن تغيير المندوب السامى البريطانى الذى قضى فى مصر سنوات طوال حاكما غير متوج ، ليأتى آخر يسمح ببعض الحريات.
و بعد سنوات قليلة من (حادث دنشواى) يقدم عزيز عيد مع المؤلف أمين صدقى مسرحية ( القرية الحمراء ) التى تعتبر أول دراما مصرية ريفية و كان موضوعها – كما يقول عزيز نفسه – استغلال عمد البلاد لمراكزهم فى سبيل تحقيق أهدافهم وملذاتهم بصرف النظر عن النتائج . حيث يغتصب عمدة كفر البلاص ابنة الخفير ، و شاركه بالتمثيل فيها صديق العمر نجيب افندى ريحانة (كما كان يدون اسمه على الإعلانات) لكنها لم تنجح لظروف أخرى.
كان العالم فى ذلك الوقت يخوض حربه العالمية الأولى ، فامتلأت شوارع القاهرة بعساكر الامبراطورية البريطانية التى تجمع جنسيات متعددة ، و فتح بعض أفراد الجاليات الأجنبية أماكن للترفيه عن هؤلاء الجنود و تبعهم بعض المصريين ، فانتشرت دور اللهو بسرعة كبيرة لتجمع بين هؤلاء الجنود و طبقة جديدة من الذين استفادوا من ارتفاع أسعار السلع بسبب الحرب ، فصاروا من كبار الأثرياء فجأة ، واتجهوا إلى اللهو و المجون . و قامت دور اللهو فى البداية على تقديم فنون مختلطة تجمع بين الغناء و الرقص ثم أضيفت لها الفصول المضحكة للترفيه عن هؤلاء الأثرياء ، و لكنها لم تكن مفهومة للجنود البريطانيين ، مما دفع بعضهم لإثارة الشغب أثناءها ، فاضطر مقدموها لاصطناع خليط لغوى عربى إنجليزى و سموا ذلك الخليط ( فرانكوارآب ) يقدمون من خلاله فقراتهم التمثيلية.
أما (عزيز عيد) الذى لم ينخرط فى تلك الموجة فيصفه الكتاب بأنه كان مؤمنا أشد الإيمان برسالة المسرح الاجتماعية و الجمالية أيضا ، و أنه حتى عندما قدم مسرحيات فودفيل ( ضحك للضحك ) كان بعيدا عن الاسفاف و الابتذال ، و كان يرى ذلك محطة ضرورية فى سياق حلمه المسرحى الخاص بتقديم مسرحية مصرية أصيلة نابعة من صميم حياة المصريين فى زمن كان الاقتباس و التمصير و المسرحيات (الفرانكوآراب) هو غاية ما يقدم على خشبات المسارح المصرية . حتى أن صديقه نجيب الريحانى انفصل عنه و اقتبس شخصية العمدة من مسرحية (القرية الحمراء) و جعلها شخصية كوميدية و سماها (كشكش بك) و مضى يقدمها فى مسرحيات (فرانكوآراب) نجحت نجاحا كبيرا فانطلقت سائر الكباريهات تقلد هذا اللون .
و انتهت الحرب العالمية بعد قليل و قد تغير وجه العالم تماما ، فانهارت امبراطوريات و تقوضت دول و ظهرت أخرى، لكن الحدث الأكبر كان فى ظهور أفكار جديدة على العالم بظهور الاتحاد السوفيتى ، أفكار تخص العدالة الاجتماعية و حقوق العمال والأجراء و مشاركة الجميع فى الثروة و فى الحكم.
أما مصر التى كانت تحت الحماية البريطانية فقد انفصلت عن الدولة العثمانية بسبب دخولها الحرب فى المعسكر المضاد لبريطانيا ، و تم عزل الخديوى عباس حلمى الثانى و تولى السلطان حسين كامل حكم مصر التى صارت سلطنة ، و بعد وفاته قام الاحتلال بتعيين السلطان أحمد فؤاد . و أثناء الحرب طبقت الأحكام العرفية و الرقابة على المطبوعات ، و لكن بمجرد انتهائها ظهرت أصوات متعددة مطالبة باستقلال مصر ، استطاع (سعد زغلول) تجميع معظمها فى حركة تحمل اسم (الوفد المصرى)، و تتابعت الأحداث لتقوم أول ثورة شعبية مصرية فى القرن العشرين و تمتد لتغطى مصر كلها ريفاً و حضراً . و برغم عنف الاحتلال فى مواجهة تلك المظاهرات إلا أن الفنانين خرجوا على رأس مظاهرة شارك فيها (عزيز، و نجيب الريحانى و جورج أبيض و زكى طليمات و محمد تيمور و آخرين) ، حيث خرجت كل فرقة من المسرح الذى تعمل به و التقت الفرق فى ميدان الاوبرا ، و كان بعض اعضائها يرتدون ملابس عربية و بعضهم يرتدى ملابس فرعونية و غيرها من ثياب القومية المصرية ( كما تصفها السيدة روز اليوسف فى مذكراتها ) كما ساهم عزيز – كمعظم اصحاب الفرق – فى اخفاء المتظاهرين فى كواليس مسارحهم عندما طاردتهم قوات الاحتلال. و امتدت تلك الثورة و توابعها عدة سنوات حتى استقر الأمر الى حد ما عام 1923 بإعلان استقلال مصر تبعا لبيان 28 فبراير و إصدار الدستور و الإفراج عن قادة الثورة الذين تم نفيهم .
و ظهرت فى مصر أحزابا سياسية بعد أن كان الحزب الوطنى فقط هو الموجود على الساحة ، و مع ظهورها قامت حياة سياسية و نيابية ، و بدأت المعارك بين الأحزاب تملأ الصحف . و قبل مضى عقد كامل على ذلك الاستقرار النسبى اندلعت فى مصر ثورة أخرى فى عام 1935 لا تقل عن ثورة 19 ، لكن التاريخ لم يذكرها بما تستحق. قابلتها القوات البريطانية بعنف بالغ و قسوة فاقت ما قامت به فى ثورة 19 . واستمرت تلك الأحداث تعلو و تهبط حتى عام 1936 ، بينما العالم يمر بأزمة اقتصادية حادة يرجع المؤرخون بدايتها إلى عام 1929 و لكن آثارها الحادة ظهرت فى الثلاثينات و أثرت على معظم دول العالم حتى وصلت مصر و باتت الأمور خانقة حيث انتشرت البطالة و اضطرت معظم المسارح إلى إغلاق ابوابها !
و نتاج لتلك الأزمة الطاحنة تظاهر الممثلون ، فقامت الحكومة بإنشاء الفرقة القومية المصرية في عام 1935 بقيادة الشاعر خليل مطران لتقديم عروضها على خشبة المسرح المسمى الآن بالمسرح القومى ، و شارك فيها عزيز عيد ممثلا و مخرجا. و سرعان ما تركها بعد خلاف مع مديرها يفسره البعض بسعى ذوى الأحقاد بين الاثنين، و لكن الصحف تكتب فى عام 1937 عن مسرحية لعزيز عيد تسمى (الاستاذ كيكا) من تأليف الصحفى (عزيز أحمد فهمى) الذى كان من أقطاب الجناح اليسارى المعارض فى حزب الوفد تهاجم تصرفات الحزب بعد إلغاء معاهدة 1936 . و برغم وقوف (عزيز عيد) بجوار الوفد أثناء ثورة 19 ، لم ينتظر خروج الحزب من الحكم ليهاجمه فى شجاعة نادرة ، بل قام أيضا بتمثيل دور زعيمه النحاس فأضحك الجمهور بشدة ، لذا أوعزت الداخلية لبعض المخبرين و البلطجية بمهاجمة الممثلين و تحطيم المسرح و تم إغلاق المسرحية نهائيا.
و سرعان ما بدأت بوادر صراع عالمى جديد بظهور الدول الفاشية فى ألمانيا وإيطاليا، و يملأ التوتر سماء العالم لتنفجر الحرب العالمية الثانية فى عام 1939 ، فى أسوأ صراع دولى مسلح يروح ضحيته ما يقرب من 50 مليون إنسان و لا يشهد عزيز عيد نهايته ، إذ يتوفاه الله فى عام 1942 ، بعد أن عاش كل حياته فى عالم تسوده الاضطرابات و الحروب و الثورات تمخضت عن تغييرات كبرى تأثر بها بالتأكيد و ساهمت فى تكوينه و نظرته للحياة.
أما ما كشف عنه الكتاب أيضا هو أسرار العمل الفنى فى تلك الفترة و العلاقات بين أساطين الفن الذين نجلهم و نحترمهم و لكنهم فى النهاية بشر ، لهم ما لهم و عليهم ما عليهم.
و لهذا حديث آخر….