بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
اتصلت بى الصديقة العزيزة ، الفنانة القديرة (صفاء الطوخى) لتسألنى عن كتب أو مراجع تتكلم عن (عزيز عيد) ، فبرغم تخرجها من المعهد العالى للفنون المسرحية – بعد انتهاء دراستها بكلية الآداب – فإنها لا تعلم عنه إلا أقل القليل ، لأن لا أحد اهتم بتوثيق أثره على الحركة المسرحية المصرية ، و لم تتناوله الدراسات الاكاديمية بما يليق بقدره.
و سألتها عن سبب الاهتمام المفاجئ بهذا الرجل فقالت إنها انتهت توا من قراءة مذكرات السيدة (روز اليوسف) فاكتشفت فى ثنايا تلك المذكرات تقديرا و تبجيلا لهذا الرجل ، الذي أخذ بيد (روز) في دنيا الفن حين اختارها لدور سيدة عجوز رفضته كل ممثلات الفرقة، و يقال أنها أدته بعبقرية لاقت استحسانا كبيرا من الجمهور . ثم انتقلت مع (عزيز) إلى كل فرقة عمل بها سواء فرقته الخاصة أو (فرقة جورج أبيض)، و من بعدها (فرقة رمسيس) التى كونها يوسف وهبى بمشاركة فنية مع عزيز عيد، و تألقت فيها حتى نالت لقب (سارة برنار الشرق) و هو اسم لممثلة فرنسية كانت أعجوبة زمنها بسبب عبقريتها المتفردة فى التمثيل و يطلقونه على كل من تفوقت فى نفس المجال حتى اعتزلت التمثيل و اتجهت إلى الصحافة لتنشئ (مجلة روز اليوسف) و من بعدها (مجلة صباح الخير) فتصبح أسطورة الصحافة بعد أن كانت أسطورة التمثيل.
و تقول السيدة روز اليوسف فى مذكراتها : ( ما زال عزيز عيد فى حاجة إلى الكتابة عنه ، فتاريخ هذا الرائد الأول الذى لم يكن يوجد غيره فى الوسط الفنى فى ذلك الوقت يكاد يندثر ، و تلاميذه الباقون على قيد الحياة يذكرون كل شيئ إلا عزيز عيد . هذا فضلا عن أن قصة حياة عزيز العاصفة بما فيها من صعود و سقوط ، و بسمات و دموع ، ليست إلا قصة الحركة الفنية فى هذه الفترة المضطربة التى كانت بالنسبة لفن التمثيل : (فترة الميلاد).
رويت لصديقتى عن إعجابى أنا أيضا بالرجل و عن أمنياتى بأن أقدم (أوبريت العشرة الطيبة) مختلطا بما أحاط بها من أحداث ووقائع مثيرة عندما أخرجها أول مرة ، فتلك الوقائع تكشف جانبا هاما من تاريخ هذا الوطن ، و تجلو صورة أساطين الفن العظام كسيد درويش و نجيب الريحانى و بديع خيرى ، و كيف أنهم لم ينفصلوا فنيا عن آال و آلام مواطنيهم . ثم أعرتها نسخة كتاب (حسن درويش) عن أبيه الذى يتضمن تفاصيل الواقعة ، و نصحتها بأن تلجأ الى مذكرات معاصريه مثل (يوسف وهبى و فاطمة رشدى و نجيب الريحانى) لتعرف بعضا من قصة حياته .
غاصت (الطوخى) شهورا فى عالم عزيز بين كتابات متعددة ، لم تكتف فيها بمن ذكرت ، بل ضمت لهم (سعاد أبيض و فتوح نشاطى و بديع خيرى و زكى طليمات و محمد تيمور) ، و مراجع أخرى غير المذكرات ، فى محاولة لأن تجمع خيوط حياة ذلك الرجل ، التى لا تمتلئ بأحداث شخصية كثيرة بل كلها أحداث ترتبط بالمسرح ، فالحياة الشخصية له يمكن أن تتلخص فى سطور قليلة ، فلقد ولد عام 1884 فى مدينة كفر الشيخ (كما أعلن بنفسه) و درس بمدرسة الفرير بطنطا ، ثم سافر إلى بيروت لاستكمال الدراسة وعاد إلى القاهرة حيث احترف المسرح عام 1904 ممثلا و مترجما و مديرا فنيا (مخرجا و دراماتورج بلغة عصرنا)، ثم تزوج من الفنانة فاطمة رشدى زواجا لم يستمر سوى ثلاث سنوات أثمر ابنتهما الوحيدة عزيزة .
و لكن الطوخى فى نفس الوقت مضت تكشف و تكتشف أسرارا و مواقف و رؤى كانت غائبة فى بطون كتابات متناثرة هنا و هناك ، و قصصا متناقضة أحيانا على لسان أكثر من راو ، و مواقف نقدية متضاربة من أعمال الرجل تتراوح بين الهجوم الضارى و المدح الشديد . فبرغم قلة المعلومات الشخصية ، فهناك معلومات فنية كثيرة ، فالرجل قدم ما يقرب من 200 عمل مسرحى بعضها يعتبر علامات فى المسرح المصرى و البعض الآخر كان سابقا فيها عصره بكثير.
و لما كنت أعلم – بحكم علاقة صداقتى التاريخية بأسرة صفاء أنها قد ورثت جينات الكتابة من أمها الكاتبة الكبيرة فتحية العسال و أبيها الكاتب الكبير عبد الله الطوخى – و أن لها تجاربها غير المنشورة و أنها قضت فترة تعمل بالصحافة ، طلبت منها أن تكتب عن عزيز دراسة تعتبر الأولى فى تاريخ الرجل و الأولى فى المكتبة المسرحية المصرية ، لتصدر فى عدد من أعداد مطبوعات المسرح الكوميدى الذى كنت أرأسه ، و التى تخصصت فى نشر ما لاينشره أحد ، فلقد نشرنا فيها أشعار و أغانى مسرحية (القاهرة فى ألف عام) لصلاح جاهين و التى لم تصدر فى أى طبعة سابقة ادعت أنها الأعمال الكاملة لهذا الشاعر الكبير ، و نشرنا أيضا لأول مرة مسرحيات لأمين صدقى وأوبريتات مجهولة لبيرم التونسى و دراسة للدكتور سامى عبد الحليم عن مسرح منيرة المهدية تضم جانبا ضخما من إعلانات أعمالها.
و بعد فترة طويلة نسبيا كان بين يدى مخطوطة كتاب يحمل اسم (عزيز عيد .. طائر الفن المحترق) يحمل كثيرا من التفاصيل عن رجل قال عنه زكى طليمات إنه بحق المخرج المسرحى الأول و قال عنه يوسف وهبى إنه أول من ابتكر الإخراج بمفهومه العلمى فى مصر، و قال عنه سعد أردش إنه يكفيه فخرا أنه فرض شخصية المخرج على مسرح مبتدئ ، بينما بدأت شخصية المخرج تأخذ مكانها فى المسرح الأوروبى بعد 24 قرنا من الزمان، و كانت المخطوطة تمتلئ بالحقائق المكتوبة بحب شديد وعرفان بجهد الرجل ، و لهذا صدر الكتاب لنقدم من جديد هذا الرجل لأجيال لم تعرفه و لم تسمع عنه.
و لهذا حديث آخر..