كتب : محمد حبوشة
بداية لابد لي أن أقول بأنه لسنوات طويلة ترسخ في وجدان المشاهدين وصناع الأفلام بأن إمكاناتنا السينمائية متواضعة، ولسنا قادرين على عمل أعمال تاريخية ملحمية تضاهي ما نراه في (هوليود) ولا حتى تضاهي تجربة فيلم (الناصر صلاح الدين) التي لم تتكرر، بل إننا نردد دائما بأنها أعمال تتطلب ميزانيات ضخمة وأن الجمهور لن يعجبه هذا اللون من الأفلام وأن كبار الممثلين لا يفضلون المخاطرة والمشاركة في هذه الأفلام.
صحيح أن فيلم (كيرة والجن) استطاع أن يهدم هذه الأساطير وأفكار العجز وقلة الحيلة، لكن هذا المفهوم – للأسف – جاء ذلك على المستوى النظري فقط ، خاصة وأننا عندما نقدم عمل فني متواضع هذا ليس أفضل ما عندنا بل نستطيع أن نقدم أعمال فنية قوية وأن لدينا إمكانات لعمل أفلام ملحمية كبرى، وقد كنت أتصور مع بداية المشاهدة للفيلم أننا يمكن أن نثبت أن العمل الجيد يسود ويفرض نفسه، حيث الاهتمام بالتفاصيل ولو بسيطة مثل الاستعانة بممثل أجنبي والاهتمام بموضوع اللغة واللكنة، الاهتمام بالديكور والملابس وأماكن التصوير.
(كيرة والجن) ليس أول محاولة لتقديم أعمال تاريخية فقد سبقه فيلم (الكنز والممر) وأيضا من الممكن أعتبار (حرب كرموز) ضمن هذه الفئة، ثنائية (مروان حامد وأحمد مراد) بدأت بمخاطرة ومحاولة اقتحام السينما عام 2014 في فترة كانت لا ترحب بأي أفلام درامية جادة ونجح فيلم (الفيل الأزرق) في تحطيم أرقام شباك التذاكر وفتح لنا باب للسينما الخالية من أفلام المهرجانات واستمر التعاون ونجاح تلو الآخر حتى قرر المنتجين تسخير الميزانيات الضخمة لمخرج كبير كي يستطيع اثبات نفسه بقوة.
وفي الواقع كان يمكن أن يكون فيلم (كيرة والجن) ملحمة تاريخية عظيمة وتجسيد متقن من الجميع، فيلم كان ينبغي أن نرى فيه إبداعات سينمائية سواء في الكادرات والتصوير والديكور والملابس أو حتى المؤثرات البصرية والسمعية، فضلا عن اجتهاد واضح من قبل الممثلين من أجل إتقان أدوارهم وخصوصا الحركات والاشتباكات في البداية حتى منتصف الفيلم، لكن يعاب على الفيلم التسرع في الجزء الثاني منه فضلا عن هفوات لا تغتفر في السيناريو كي يصبح في النهاية فيلم متميز بمعنى الكلمة، وربما كان يمكن أن يكون من أفضل الأعمال التي صدرت خلال 10 سنوات مضت، خاصة أنه فيلم ربما قد يقود ثورة سينمائية تشجع صناع الأفلام على تقديم هذا النوع من الأفلام التي أبتعدوا عنها كثيرا بسبب أساطير ومعتقدات مترسخة بقلة الإمكانات وقلة الحيلة وذوق الجمهور وكن الفيلم استطاع اثبات العكس.
ولعل العيب الواضح والصارخ في أن الفيلم يقتبس الكثير من روح فيلم (كوينتن تارانتينو) الشهير (أوغاد مغمورون – inglourious basterds)، في بعض السمات البصرية والسردية، مثل الخطر المهدد في كل مشهد بكشف المقاومة لوقوع مقرها أسفل المقهى الذي يقضي فيه أفراد الاحتلال وجنوده أوقاتهم، لكنه بسبب ذلك التأثر يملك أجواء ملتبسة، ولا يملك -tone- أو مزاجا موحدا، فهو ليس ساخرا كفاية لتحمل كل الكوميديا الصادرة عن شخصية الجن مثلا، وليس ميلودراميا كفاية ليتحمل نهايات تراجيدية غير مرضية لأبطاله، ولا ثوريا كفاية تاريخيا لإعطاء وزن لشخصياته من الأقليات والنساء، لكنه كان سينجح حينما يركز على كونه دراما تاريخية لصديقين buddy film، حينما يركز على علاقة (كيرة بالجن) على اختلافاتهما وحبهما بعضهما لبعض، واستعدادهما التام للتضحية بالنفس أحدهما من أجل الآخر، ذلك التأثير الذي ينجح في خلقه بالتركيز على علاقة الصداقة يجعل من بناء الفيلم كنسخة مختلفة من (العظماء السبعة) أداة سردية تمثل عبئا على تركيزه الرئيسي.
ويبقى ظني أنه كان من أهم الأسباب التي ترشح (كيرة والجن) للنجاح بجدارة أنه مبني على أحداث حقيقية، شملت حادثة (دنشواي)، وللحقيقة حاول المخرج (مروان حامد) أن يؤرخ ذلك من خلال مجموعة من اللقطات التسجيلية الحقيقية، ومظاهرات المصريين ضد الاحتلال الإنجليزي، وكذلك ثورة 19، وحتى منتصف العشرينات من القرن الماضي، وهذا كان سببا منطقيا في تقديم فيلم ملحمي من الدرجة الأولى كقصة وكتيمة رئيسية للفيلم، معتمدا على عوامل نجاح ليست بقليلة من ضمنها تلك الأحداث الحقيقة، بالإضافة إلى ثنائي ملهم تمثل في المخرج (مروان حامد، والكاتب أحمد مراد)، بعد عدة أعمال فنية لا تقل إبهارا مثل فيلم (الفيل الأزرق) عام 2014، كذلك اللعب على المشاعر الوطنية، والاجتماعية والإنسانية وخاصة واقعة (دنشواي) التي ألمت في نفوس الشعب المصري حتى يومنا هذا.
ولكن إذا تحدثنا بشكل أكثر تفاصيلا على مستوى السيناريو، والبناء الدرامي فإننا نلاحظ أن الدراما التي امتدت قرابة الثلاث ساعات حاول (مراد)، من خلالها رسم كل شخصية ببناء درامي منفصل، وكأنه يتضمن أفلام مستقلة لكل شخصية على حدةِ، وكان لهذا تأثير سلبي كبير على الأحداث، أيضا الربط بين الشخصيات، والأسباب التي كانت وراء تعرف الأبطال على بعضهم البعض، كانت ضعيفة بشكل كبير، وخاصة تعرف (كيرة على الجن)، وهروب الأخير من قسم الشرطة، والسبب وراء الانتقام من أحد الضباط الإنجليزي، وكذلك الزج بقصة رومانسية كخط فرعي، كان له وقع بطيئ على رتم الأحداث، التي هدت معها الأنفاس وسط حرب عصابات ضارية طوال 175 دقيقة تقريبا، والتي لا أجد لها أي داعي على الإطلاق، أكثر من التطويل، وكذلك شخصية (زينب) التي قامت بتأديتها الفنانة (روبي) كضيف شرف، وماتت دون أن نشبع من متعة أدائها الفطرى الرائع، وكأن موتها سببا لعلاقة الحب السريعة بين (كيرة وإيميلي/ رزان جمال).
أيضا الشخصيات هنا تتحدث باستمرار عن بعضها البعض، في محاولة لخلق بيئة مزدحمة؛ حيث لن تجد دقيقة واحدة من الصمت والسلام، تتخللها حوارات ومونولوجات للشخصيات الفردية المتداخلة، تجعل الجو العام للفيلم مبعثر، وهو ما عبرت عنه سيدة راقية للغاية بقولها لزوجها الذي كان يصحبها مندفعا إلى خارج القاعة: (فيلم وحش جدا)، ويبدو أن زوجها شعر بالحرج من أن يسمعها أحد فأسرع في خطوها إلى الخارج، وربما كان شعور هذه السيدة حقيقيا، فالفيلم مكتوب بحس شعاراتي رومانسي ثورجي في عصر عقلانية السينما وخروج كل مظاهرالحياة السياسية والاجتماعية الثقافية والفنية من مرحلة الهتاف الثوري الذي كان سائدا في الخمسينات والستينيات من القرن الماضي.
رغم ضخامة الإنتاج الا أن إيقاع الفيلم العام جاء بطيئا جدا، ورغم كثرة مشاهد الأكشن والعراك والرصاص المتناثر في هدير لامبرر له ، إلا أن الفيلم مليء بالملل الذي جعل بعض المشاهدين يستغرقون في غفوتهم أثناءالمشاهدة، مع أن صوت الرصاص كان عاليا جدا.
ومع أن المخرج (مروان حامد) يتمتع بذكاء خاص وشاطر بما يكفي في صنعته وذو خبرة الا أنه سقط في أحد أكثر فخاخ الهواة والمبتدئين سينمائيا وهو الإكثار من اللقطات القريبة جدا (الكلوز) في الفيلم في محاولة لإبهار المشاهد والتصوير من زوايا غريبة بحيث كانت بعض تلك (الكلوزات) أكبر من الكادر .
السيناريو كان طويلا جدا وتشعر أن كان يصلح لفيلمين أو ثلاثة، بحيث أن المعالجة كانت تلفزيونية أكثر من أنها سينمائية، وأعتقد أن حذف أجزاء ومقاطع ومحاور كاملة من الفيلم لن تؤثر على بنيته وخطه العام، ومن ذلك على سبيل المثال الخط المتمثل في هروب (كيرة) إلى اسطنبول وملاحقة البريطانيين له لقتله هناك، وكذلك شخصية والد (الجن/ أحمد كمال) الذي حاول السيناريست فيه أن يجعله السبب أو المبرر للانتقالة الكبيرة في شخصية ابنه (الجن) من الشاب السكير الشمام الذي يعتمد في معيشته على الإنجليز إلى شخص وطني ثوري تدفعه فكرة الانتقام والثأر لأبيه، وكان هذا يحتم على السيناريست أن يعتني بتأطيرشخصية الوالد العسكري القديم وعلاقته بابنه، رغم أننا لم نر من ملامح هذه الشخصية العسكرية سوى بدلته وسيفه في مشهد قتله، بل أن حتى قتله بدا ساذجا أيضا.
أخفق السيناريست كثيرا في نهاية شخصية (دولت فهمي) حين جعلها تقتل على يد أخيها انتقاما للشرف في مشهد يجعل أي مشاهد سواء كان مصريا أو أجنبيا يشعر بالاشمئزاز من هذا التصرف ويدين الشخصية الصعيدية المصرية ويبعث برسالة مضادة لفكرة الفيلم المكرسة أصلا لتمجيد بطولة الشخصية النسائية المصرية ضد المستعمر، البريطاني
ومن هنا أخفق الفيلم في سرد السيرة الحقيقية لواحدة من أبرز القيادات النسوية على ساحة العمل السياسى والاجتماعى وشغلت موقع وكيل مدرسة الهلال الأحمرللبنات فى عام 1919 ابنة قرية (أبو عزيز) بمحافظة المنيا، وهذا الدور العظيم ينفى عن الصعيد تهمة الانعزال والانغلاق الثقافى، فدولت فهمى سيدة كان لها دورها فى إثراء الحياة السياسية وهذا دلالة واضحة عن أن الصعيد دائما حاضر وسيبقى فاعلا ومؤثرا فى المجتمع وشريكا أصيلا فى كل المناسبات الوطنية، وكما هو معلوم للكافة أن أسرة دولت فهمى تعود لعائلة من الأشراف واسم (عبد العزيز فهمى) اسم مركب واسم عائلتها الحقيقى هو عائلة (شادى) وهى عائلة مسلمة – على عكس ما جاء في الفيلم بأنها سيدة مسيحية – حيث ينتهى نسبها الى الأشراف وهو ما تؤكد الوقائع الحالية كما هو مازال موجودا حتى الآن فى منزل العائلة توثيقا لنسب العائلة للأشراف.
كما لم ينجح السيناريست في نحت الملامح الشخصية والنفسية لأبطاله السبع، وبدت بعض تلك الشخصيات مسطحة لا لون ولا جذر لها مثل (شخصية إبراهيم والهلباوي/ سيد رجب، وكذلك شخصية إسحاق)، ومن ثم فشل السيناريو في إقناع المشاهد بأسباب انتقال (الهلباوي) المناضل الوطني الذي غامر بحياته كثيرا بلا خوف إلى خائن رخيص يبيع رفاق السلاح إلى إلى المستعمر الأجنبي من أجل المال بانتقالة مفاجئة بدت كمطب صناعي أحمق في الظلام.
الموسيقى التصويرية كانت شبه غائبة ولا تأثير لها في الفيلم، وأحيانا كانت مزعجة ولا تتناسب مع الفعل الدرامي، ومع ذلك كانت إدارة التصوير جيدة جدا مع أنها أثقلت كثيرابالحركة السريعة في مشاهد العراك وهى حيلة إخراجية معروفة لتشتيت بصر وذهن المشاهد عن عدم دقة مشاهد الأكشن، وأنا شخصيا ألتمس لهم بعض العذر لضعف التقنيات في السينما المصرية والعربية عموما (وهو حيلة يلجأ المخرج لإخفاء تلك الإخفاقات التقنية والتمثيلية)، وقد تسرب لدي شعور جارف بالضيق جراء أن الدور لا ينطبق على (كريم عبدالعزيز وأحمد عز)، بل إن كلاهما كان (مس كاستنج) على الرغم أنهما ممثلان قديران وبذلا جهدا كبيرافي هذا الفيلم، وربما دفعا ثمن ضعف السيناريو الملحوظ، لكن للأمانة فإن (هند صبري) كانت رائعة كعادتها وجسدت شخصية الصعيدية المصرية القوية باقتدار، وكذلك حال (رزان جمال) كانت مقنعة جدا في شخصية ابنة القاضي العسكري الإنجليزي، بحيث أن المشاهدلايمكن أن يصدق أنها ممثلة لبنانية عربية لاتقانها الإنجليزية بلكنة أهلها وقدرتها على اتمثيل البارع بلغة أجنبية، ومع ذلك فمن حق الفيلم علينا في النهاية أن نقول عنه انه إنتاج كبير يفتح الباب لأفلام مستقبلية على ذات الشكل والموضوع.
يمكنني القول إجمالا أن الفيلم جاء في شكل أفلام العصابات الأمريكية لكن بهوية مصرية ونكهة وطنية، لمناقشته فترة مهمة في التاريخ المصري الحديث، وهو أمر محمود للغاية، فالتاريخ المصري مليء بالأحداث التي يمكن تقديمها بشكل جذاب، كما تفعل السينما الأمريكية من صناعة أفلام ملحمية عن حروبها لكن بشكل إنساني، وهو ما يجعل المشاهد يتعاطف مع أمريكا رغم المترسخ داخله من كونها معتدية.
ومن هنا فإن (كيرة والجن) يبدو لي فيلما (مسليا) وليس ملحميا، يحسب له ذهابه إلى تقديم قضية وطنية في عمل ضخم جاذب للجمهور لأسباب عدة، رغم ما به من مشكلات، فالمصادفات غير المنطقية كانت أبرز أوجه القصور في السيناريو، ورغم فجوات سيناريو الفيلم ومشاهد القتال غير المنطقية فإن الفيلم حقق معادلة قلما تحققت في السينما العربية أخيرا، فهو فيلم حافل بالمشاعر الوطنية والمشاهد المؤثرة لإعادة تمثيل حوادث تاريخ الوطنية المصرية، وفي الوقت نفسه حافظ على درجة التسلية وإثارة انتباه المشاهد حتى آخر مشاهده، لكن مقارنته مع أفلام سابقة لمخرجه (مروان حامد) لن تكون في صالحه بالتأكيد.