بقلم : محمد شمروخ
غنت أم كلثوم أغاني وقصائد للحب والهجر وغنى عبد الوهاب كذلك للحب والهجر، وهكذا كان فريد وفوزي وعبد الحليم ونجاة ووردة وفايزة وكل الشعراء والمطربي والمطربات في ذلك الجيل الذهبي، علموا الناس الإخلاص حبا والصبر هجرانا.
كان الحب ضرورة من ضرورات الحياة، فلا حياة بلا حب ولا حب بلا إخلاص ولا هجران بلا صبر ولا صبر بلا عزيمة، لكن كل هذا لم يعد صالحا الآن، بل مثيرا للسخرية ومبررا للاتهام بالعته!
مفردات لا تصلح الآن لألبوم غنائي ولا فيديو كليب.
كانت الأغانى دروسا في تعليم الحب، لكن شيئا فشيئا ومع مرور الأيام والسنين ونفاد رصيد القيم بسيادة عصور الاستهلاك والشراهة، بدأ التعامل مع الحب على أنه شكل من أشكال الترفيه والمتعة، فلم يعد كما كان مع دبيب الهشاشة إلى النفوس كنتيجة طبيعية للإصرار على تحويل الحب من ضرورة حياتية إلى سلعة ترفيهية.
ولأن القلوب الهشة تنتج حبا هشا على شاكلتها، كان لابد سريان سيل من الأغانى التى تتعامل مع الحب على أنه (دي يوز) في منتجع أو شات على ماسنجر، فصار الحب مجرد نزوة عابرة أو في أحسن الأحوال تدليل من الحبيب للحبيبة، لكن لا يلبث أن يتحول إلى ملل وطهق وهجر ثم إعلان حرب!.
فلا تستغرب من خطيبين فسخا خطوبتهما قبل أن تثبت الدبلتان في الإصبعين ولا تتعجب من عروسين طلقا قبل أن تذبل باقات ورد التهانى!.
لماذا؟.. لأن الحب في الأغانى مجرد نزهة قصيرة، ويأتى بعده الهجر ليقابل بلهجة الانتقام والتشفى.
كانت الكلمة في أغانى الجيل الذهبى من المؤلفين والملحنين والمطربين، تعكس معانى الرجولة الحقيقية التى تجعل الحبيب مسئولا عن حبيبته حاميا لها باذلا من أجلها كل ما يملك واهبا كل أحلامه لإسعادها، ولو هجرته انزوى يبكى على حبه المفقود معاتبا شاكيا دون أن يمس حبيبته بكلمة، بل أحيانا يبدو قرار الهجر دليلا على الرجولة حتى لا يسبب لها أى أذى من وجوده.
كانت التضحية من أجل الحبيب هى علامة قصص الحب قديما، فصارت التضحية به هى نهاية قصص هذا الهزل حديثا!
حتى لو بدت الأغانى مغرقة في الخيال والرومانسية، فإن هذا الخيال وهذه الرومانسية، كانا يعبران عن مشاعر حقيقية تعيش في قلوب وعقول من عاصروها.
لكن تحولت الأغنية الطويلة التى كنا نزيد ونعيد فيها ونسمعها مرة ومرتين وثلاث، إلى كلمتين ودقة لتبرير الرقص.
كم مرة سمعت أنت عمرى.. عاشق الروح.. يا ويلى من حبه.. تملى في قلبى.. رسالة من تحت الماء.. ليه يا قلبي ليه.. الطير المسافر؟!
ستقول لى يا أخى لابد من مجاراة روح العصر والتعبير عن التغيير والتطور
لكنى سأسألك بعض الأسئلة قد تراها تخرج بنا عن الموضوع ولن لو تأملتها قليلا ستراها في الصميم!
ما هو هذا العصر؟! وأى روح تلك التى تدعيها له؟!.. من الذي أسماه عصرا ووضع له القواعد والنظم التى تسير حياة الناس وتفرض عليهم سلوكياتهم ومعتقداتهم باسم روح العصر؟!
ثم نحن في أى عصر من العصور؟!.. عصر الانفلات؟!.. عصر الإرهاب؟!.. عصر الحرية؟!.. عصر السلفية؟!.. عصر الاستغلال؟!.. عصر العلم؟!.. عصر الجهل؟!.. عصر الجنون؟!.. عصر الزيف؟!.. عصر العولمة؟!.. عصر الشذوذ؟!
والغريب أننا تتعامل مع مفهوم العصر كأنه مجموعة قوانين فيزيائية جبرية أو كمعادلات رياضية لا يجب الجدال في صحتها وإلا صرت عنوانا للجهل والظلامية!
وتجد كل هؤلاء موجودون في هذا العصر الذي تصر عليه.
نعم العصر هو العصر بأي مفهوم ولكنه ليس إلها مطلقا يملى علينا فنستجيب ونترك له إرادتنا يفعل فيها ما يشاء كأننا عبيدا له!.
إن كان هذا هو العصر فأنا به أول الكافرين!
من الذي يتحكم ويحدد أذواق الناس ويفرض عليهم أنواع الفنون والملابس والمعتقدات الدينية والاجتماعية والثقافية باسم هذا العصر؟!
وهذه النتيجة ظهور نوعيات تستحل الدماء باسم الحب!
الحب؟!
أى والله باسم الحب.. وليتهم كانوا مجانين أو متهوسين فالقتل وإن كان منذ الأزل إلا أن القاتل لم يكن يرفع راية الرومانسية معلقة بمطواة وملطخة بدماء حبيبته!
ولا تقل لى ما علاقة هذا بالأغانى العصرية، فتلك الأغانى التى تضج بها سماعات السيارات تتعمل مع المشاعر الإنسانة على أنها فرصة للنزوات والانتقام تحت ضجيج ضربات من آلان موسيقية أشبه بحفلات تعميد السحرة التى يرعاها الشيطان بنفسه!
أغانى تدفع للرقص المجنون لا تكاد تميز فيها لحنا من كلمة، لا أقتصر هنا على أغانى المهرجانات بل أتهم كل مؤلف وملحن ومطرب وقبلهم المنتج، بتعمد إفساد أجيال بأكملها بتصوير الحياة أنها مجرد نزهة حب مع الحبيبة، فترى الشاب منهم يشغل نفسه بالبحث عن حبيبة يهبها كل حياته وآماله ويتبادل معها القلوب والورود الحقيقية أو الافتراضية، فكل خبرته بالحياة أغنية يسمعها عبر (إيربودز) يهتز عليها وينتقل من هذا الأغنية لغيرها بالهزة نفسها.
اسمع كلمات الأغانى.. سترى مهمة المطرب أو المطربة أن ترقص وأن يتحول الجمهور إلى راقصين.. حركات مجنونة بلا هدف غير المرح القصير ثم ينتهى الرقص ليبدأ رقص جديد ولا حياة إلا رقص في رقص وجنون في جنون!
أين الحب؟!
سؤال ساذج جدا لا يتناسب مع (روح العصر)!
لا يا عم.. كلمة حب أصبحت موضة قديمة، الآن هناك صحوبية وCouples على قد الأغنية أو بالكتير الدى يوز والألبوم الجديد بتاع …. و…. و… حتى الرقص لم يعد خطوات إيقاعية على موسيقى، بل تنطيط وتخبيط على أصوات آلات زاعقة كحفلات تعميد السحرة في مجاهل غابات وسط إفريقيا!
كلمة الحب صارت مما لا يناسب العصر الجديد ولذلك ترى نهاية المحبين إما هازلين أو مجانين أو مجرمين!
وتطورت الأغنية وصارت كلمة ونص ونغمة ونص وخطوة ونص، وبعد أن تنتهى الرقصة، ليس سوى الملل والإحباط واليأس، فقد استنفذت الطاقات وأهدرت المشاعر في نوبات الهزل اليومية، فصار الحب نزوة إن لم تحقق اللذة حققت الألم، فإن تحقق الألم تحقق الجنون وعندما يحضر الجنون يتهيأ الجو للجريمة!
قل لى: ما هو مفهوم طالب جامعة المنصورة (قاتل نيرة) عن الحب غير هذا؟!
وما هو مفهوم الحب لدى الطالب الأردنى (قاتل إيمان) عندما قتلها ثم انتحر؟!
وماذا عن طالب الشرقية قاتل (سلمى)؟!
ثلاث جرائم متتالية ارتكبها ثلاثة شبان في ثلاثة أماكن مختلفة ضحيتها ثلاث فتيات، والجميع في نفس العمر تقريبا!
جميعم خضعوا لمؤثرات وثقافة واحدة كانت نتاجا طبيعيا لثقافة البيئة المحيطة التى علمتهم أن الحياة فرصة للحب والحب فرصة للذة، فإن لم تتحقق اللذة تحقق الألم ثم .. هى المعادلة نفسها التى تنتهى بالجريمة.
ما أقوله عن الأغنية فقط لأنها أسرع انتشارا وأكبر تأثيرا ولكنه الكلام نفسه عن المسلسلات والأفلام والبرامج الرياضية والدينية والاجتماعية والإعلانات وكثير مقاطع الفيديو الإنترنت بل وبعض الكتب والروايات!
كلها تخضع لقواعد التسطيح والإثارة وأهم شيء (الأفورة).
مجرد جرعة صغيرة مع وعد باللذة، تماما كجرعة المخدر، ثم تنفتح عليك أبواب الجحيم، فلا تطيق غير التسليم للجنون!.
لكن لماذا أصر القتلة الثلاثة على إنهاء قصصهم بجرائمهم؟!
هل لو كانت نفسياتهم سليمة كانوا فعلوها؟!
كيف وهم طلاب جامعيون متفوقون؟!
لكنهم جميعا قتلوا بدافع الحب!
الحب الملوث الذي نسمعه في الأغنية ونشاهده في المسلسل والفيلم ومقطع الفيديو والإعلان!
لقد صار الحب متاحا فوق المعتاد، فكل منه يحمل أداه تواصله بالصوت والصورة ومهما كان من مستوياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية، إلا أن السمات متشابهة في طريقة التفكير واختيار الملابس تحت المؤثرات نفسها.
لم يكن أحد منهم مجرما محترفا.. عفوا المجرمون المحترفون أكثر تحكما في أعصابهم وتصرفاتهم من هؤلاء القتلة الذين لوثوا صفحات كتاب الحب بعد أن تلوثت عقولهم بنتاج كل ما سبق!