بقلم الأديب الكبير : سامي فريد
الحكايه التي نرويها اليوم تدل أبلغ الدلاله على مقدرة الفنان الذي يعشق فنه ويؤمن به على تحدي أصعب المواقف وأكثرها تعقيدا أو صعوبه.
حكايه اليوم عن (يوسف وهبي) الذي أرسى قواعد المسرح العريقه وكانت قراءه وتمسكه بعرض روائع الاعمال المترجمة أو المؤلفة ومنها المسرحيه التي سنحكي عنها اليوم وهى (راسبوتين) الراهب القوي الذي وضع روسيا القيصريه بجلالاتها وقصيرها وحكومتها كلهم في جيبه فتحول إلى الحاكم المطلق لروسيا مما أثار غضب عدد من أشراف الأمراء الذين يحبون بلدهم قاصدين إلى التخطيط لأبعاده أو قتله إنقاذا لروسيا من جبروته وطغيانه.
تبدأ الحكايه برغبه (أبو حجاج) يوسف بك وهبي في عمل سياحة لفرقة رمسيس وأبطالها في صعيد مصر في خطط لرحله تعرض في معظم مديريات (محافظات) الصعيد نشر لهذا الفن الرفيع وابتعد ولو لفتره مؤقته عن مسارح عماد الدين وتياترو عماد الدين.
واستقرت الفرقه بديكوراتها وملابسها وإكسسواراتها في أسيوط وأنها يوسف بك اعداد المسرحيه بالاتفاق على عرضها في واحدة من كبريات مدن أسيوط ولتكن مثلا (بني عييدات) على ما فيها من جمهور متعطش للمسرح الجاد خصوصا إذا كانت فرقه مسرح رمسيس بنجومها الكبار وفيهم (فاخر محمد فاخر وزين العشماوي وأمينه رزق وأنور إسماعيل ورشدي المهدي ونظيم شعراوي وعلوية جميل)، وهى بالمناسبه بلديات أم كلثوم وجارتها في (طماي الزهايرة) وظل صديقتها طوال العمر.
اتفق الأستاذ يوسف على اختيار المكان ووضع الديكور والستائر والإضاءه وإعداد الأرض لتكون مسرحا لعرض الفرقة، وفي خلفيه الأرض كانت الديكورات التي حملتها الفرقة معها من القاهرة تحكي قدر الإمكان عن قاعات القصر الكبير، ولم ينسى (أبو حجاج) تخصيص (دورتين) من القماش لتكون مكانا لاستبدال ملابس الفنانين ليخرجوا من ناحيه ويدور مع الديكورات إلى الواجهة المقابله لاستكمال العرض وهكذا.
ومضت أحداث المسرحية على جمهور من أبناء اسيوط والتزموا جميعهم بتعليمات يوسف بك بالمحافظه على النظام وعدم التصفيق إلا في نهايه العرض أو عند دخول الفنانين أو عند انتهاء العرض.
وتحت شجرة كبيرة من أشجار الكافور وسط هذا الجو الخيالي الذي عاشه رائد المسرح الحديث يوسف وهبي بدأ العرض بدق الثلاث دقات التقليديه من خلف الشجرة على لوح من الصفيح ليبدأ العمل والجمهور كله مبهور بالعرض وبمن يحبهم من الفنانين.
ثم جاء المشهد الذي سنحكي عنه وفيه كانت المفاجاة المذهلة، وهو مشهد الحوار الذي دار بين (راسبوتن) وبين القيصر (الإسكندر)، وتلعب الدور (علوية جميل) في ما هي تقف في مواجهه يوسف وهبي (راسبوتن) تستعطفه ليبقى معهم في القصر يحوطهم برعايته وتبريكاته فالقيصر في خطر وابنها (النكسبيس) مريضا، بينما (راسبوتين) يشعر بل هو متأكد من أن جماعه من نبلاء القصر وأمراء يخططون لاغتياله لتخلص روسيا منه، فيقرر هو العودة إلى سيبيريا أو إلى ألمانيا فرارا بحياته.
القيصرة (علويه جميل) وتكاد تبكي ليبقى إلى جوارهم فيما هم مقبلون عليه من الخطر فيخبرها أن أعدائه من نبلاء القصر وأشرافه والأتقياء منهم، فتسالوا من هم لينتقم للبلاد فينظر إليها والمكر يكاد يقفز من عينيه والخبث وقد دانته الفرصة للخلاص من أعدائه بأنها قادرة من أجل السلام القيصر والعرش وابنها أن تنقذهم حتى ولو كانوا من عائله (رومانوف) وهى عائلة القيصر.
ويشع الأمل في عينيه (جرجوري راسبوتين) لكنه يلاحظ شيئا غريبا يحدث!
ما هذا؟، يسال يوسف وهبي نفسه عم قد حول (علوية جميل) التي تبادله الكلمة فإذا هي تقف أمامه كتمثال ابتعد عن (علوية جميل) قليلا وأشارت إلى الجمهور تساله أن ينظر إليهم بينما (راسبوتين) أو يوسف وهبي لا يفهم شيئا مما يحدث أمامه فإذ فجأة تنحني (علوية جميل) إلى قدمها لتخلع نعلها وتصفع يوسف بك بالنعل على كتفه، حيث عليه عقربا أسودا كبيرا كاد أن يعض (أبا حجاج) في رقبته لتزيحه قليلا عن رأس يوسف وهبي، ولم يعرف كيف يتصرف وهو يرى العقرب الكبير وقد سقط إلى جواره، لكنه يعود فيتمالك نفسه ليرد على ما تقوله (علوية جميل) وصدرها يرتفع وينخفض من الانفعال قائلا: هذا يا أيها الأب المقدس، استحلفك بحق أولئك للقيصر ولنجاتك ورفقائك بنا أن ترينا رحمتك بنا فتبقى معنا رغم ما فعله بك الآن.
ولا يجد يوسف وهبي على لسانه سوى أن يقول لها: اذهبي الآن قبل ان يدركك غضبي .. اذهبي ورحمتي ترعاكي .. عودي إلى جناحك في الحريم فقد عزمت على البقاء مع أسرة (رومانوف) مهما كان .. إذهبي، وتخرج الفنانه علويه جميل بظهرها ويخرج يوسف وهبي عائدا إلى الدور وهو يلتقط أنفاسه بصعوبه ليقبل وجه الفنانة (علوية جميل)، وهو يشكر لها صنيعها وسرعه بديهتها بينما هى تثني على تصرفه الذكي الذي أنقذ به الموقف.
حكاية سمعتها من الفنانة (نعيمة وصفي) في الاسكندرية خلال رحلة من رحلات التنظيم النسائي بالقاهرة، وكانت هى أمينه المرأة في العاصمة فحكت لي هذه الحكايه مع حكايه أخرى عن الفنانة (نجمة إبراهيم) وما حدث لها في مسرح (الشيخ سلامه حجازي) عندما تقدمت له لتعمل مطربة في فرقته قائلة تزكي نفسها أمامه أيضا حيث تعزف العود وتقرض الشعر بالفرنسية، فماذا كان رده عليها؟!
هذا ما قد تأتي المناسبة لنحكي حكاياتها كما روتها القديرة (نعيمة وصفي) يرحمها الله.