بقلم : كرمة سامي
(حصتك م الهوا تركتها هناك.. راحت عليك!)
بين سنوات طفولتي ومراهقتي لم أكن أقرأ شعرًا سوى لسميح القاسم، في سن مبكرة قرأت له قصيدة ذكر فيها اسمي ومن وقتها ارتبطت بشعره وبفلسطين ومروجه وكرمه ودياره ومفاتيحها، وأصبحت فلسطين هى الوطن الموازي، وجه العملة الذي يقابله على الناحية الأخرى اسم مصر، مصرية وقلبي فلسطيني كما كان يمازحني صديقي الحبيب (هارون هاشم رشيد). لماذا أحكي كل هذه التفاصيل القديمة؟ وأقفز من زمن إلى زمن آخر؟ لأني لم أخرج من معرض الكتاب في يناير الماضي 2022 إلا بكتاب واحد:
من دمشق إلى بغداد: رسائل توفيق صالح إلى: سمير فريد
صدر الكتاب عن أكاديمية الفنون ضمن سلسلة ملفات السينما، ولم أعلم بصدوره إلا عندما وجدته على أرفف جناح الأكاديمية في المعرض، اشتريته وعدت به إلى بيتي واستقر في حقيبة يدي يصاحبني في كل مشاويري، أخرجه من الحقيبة كلما سنحت لي فرصه لقراءته في سيارة الأجرة، الشهر العقاري، عيادة الطبيب، حتى أكملته ونكأ جرحا في قلبي أسميه: توفيق صالح.. الفنان/البوصلة!
**
(قرار رقم واحد من السيد المدير إلى المرضى،
على الجميع التزام الهدوء والنظام،
أي محاولة لعرقلة سير الأمور
ستقابل من الإدارة بحزم وحدة
هذا إنذار بذلك)
المتمردون 1968
أول فيلم أشاهده لا ينتصر فيه الخير وتزف البطلة للبطل، بل ينقل البطل إلى مصحة أخرى عقابًا له على تمرده، فيرسل لحبيبته رسالة تفاؤل ويتخيل أنهما يتطلعان نحو غدهما معًا. لم أعرف عنوان الفيلم وقتئذ، ولكن تعجبت من المخرج الذي شذ عن القاعدة ولا تتزوج في نهاية فيلمه ليلى مراد من أنور وجدي أو شادية من كمال الشناوي!!، أثار الفيلم حيرة داخلي لم تهدأ وأسئلة أثقلت كياني الصغير حتى شاهدت (المخدوعون) فزادت الأسئلة وبدأت رحلتي مع توفيق صالح وأفلامه.. هذا مخرج مختلف..
يذكر صالح أنه بدأ كتابة (المتمردون) يوم 5 يونيو 1966، وعندما عُرض الفيلم على لجنة مؤسسة السينما فضلت عليه فيلم (أخطر رجل في العالم)!، لكن ثروت عكاشة أنصفه وشاهد الفيلم ثلاث مرات خلال يومين ورفض التدخل في العمل، هنا كتب صالح شهادة حق: (كان موقف ثروت عكاشة موقف فنان يحترم العمل الفني ويحترم حرية الفكر وحرية الفنان ورفض أن يملي إرادته أو وجهة نظره كوزير- الحق كان يومها ثروت عكاشة عظيمًا)، (142 – 143).
**
خمسون عاما على إنتاج فيلم (المخدوعون).
(أريد أن أعمل عملًا لا أخجل منه)، (159)
**
وأبي قال مرة:
الذي ما له وطن
ما له في الثرى ضريح
.. ونهاني عن السفر!
قصيدة أبي لمحمود درويش.
شاهدت فيلم (المخدوعون) عن قصة غسان كنفاني (رجال في الشمس) ضمن أسبوع أفلام توفيق صالح بالمركز الثقافي السوڤيتي صيف عام 1987 وبحضور صالح جميع العروض ومناقشتها مع الجمهور. كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لمشاهدة أفلامه التي لم يعرضها التليفزيون عقابًا له على ذنب غير معروف.
بدأ الفيلم باقتباس من قصيدة لمحمود درويش، لم أهدأ حتى توصلت إلى مصدر الاقتباس، وبدأت رحلتي مع محمود درويش وأشعاره..
لم أنس فضل توفيق صالح أنه كان دليلي إلى مملكة درويش الشعرية.
أما الفيلم (المخدوعون)، فقد وضع غسان كنفاني وتوفيق صالح في مركز وعيي السياسي الثقافي وعزز هذا حب فلسطين الذي زرعته أمي في قلبي منذ طفولتي، وطبعا أخذت عبثًا أبحث عن رواية كنفاني حتى تبينت بعد جهد أن عنوانها الكنفاني (رجال في الشمس)، أما عنوان الفيلم (المخدوعون) فهو عنوان وضعه المخرج ليصبح بيانًا سياسيًا تعليقًا على النكبة.
**
(تحياتي إلى كل من لا يزال يذكرني..)، (152).
نعم، له جمهور وأنا منهم. ورسائله إلى سمير فريد أكدت لي شخصيته التي تخيلتها من لقائين عابرين تفصل بينهما ثمانية عشر عامًا!، في الرسائل يكتب لصديقه أنه (قرفان) ويسأل عن مخرجين من الجيل الجديد فيهم الأمل في سينما جديدة، تؤلمني جملة عابرة عبور نصل حاد في اللحم: (بلغ تحيات أخرى إلى كل من لا يزال يذكرني في مصر وإن كنت أعتقد أن هولاء في تناقص يومًا بعد يوم)، (108).
الرجل الذي يكتب الرسائل يشعر بالهزيمة، يحكي لصديقه سيناريو مؤامرة إبعاده عن إخراج ثلاثية نجيب محفوظ، هنا أتوقف وأحاول أن أتخيل الثلاثية برؤية توفيق صالح الذي قدم لنا (درب المهابيل) و(المتمردون) و(صراع الأبطال) و(القُلة)!، مجرد التفكير في هذا الاحتمال أنه تعرض لمؤامرة كبرى يثير خيال أي محب للسينما، السيد أحمد عبدالجواد والست أمينة وياسين وخديجة وعائشة وفهمي وكمال وشوارع القاهرة يعاد تشكيلها على يدي توفيق صالح ونراها بعينيه!، مسار مختلف كان سيكتب للسينما المصرية!
في الغربة.. يتعرض لمواقف مهينة لا ذنب له فيها، لكنه يظل مرفوع الرأس، العمر يتقدم والندم على الرحيل عن مصر يسيطر عليه، والخوف من العودة ليجد مصر لم تعد كما تركها، يغرق في الديون ويؤرقه ألا يستطيع أن يدفع إيجار البيت أو مصروفات مدارس الأولاد، يفكر أحيانًا في هجر السينما والعمل في تدريس اللغة الإنجليزية! توفيق صالح الذي أهدانا أجمل أفلام السينما العربية! لأنه في محنة منفاه الاختياري لا يتوقف عن البحث عن رواية تصلح لفيلم جديد، تقدم له الوعود وتسحب فور أن يبدأ العمل تحمسًا لها، يتجاوز الهبوط الاضطراري ليكتب لنا سيناريو رواية غسان كنفاني، الفيلم المستحيل، الفيلم السؤال.. الصفعة!
**
(المفترض أن الفيلم يحرك المتلقي وجدانيًا وفكريًا)، (176).
كان هذا سر تميز أفلام توفيق صالح رغم قلة عددها نسبيًا مقارنة بجيله من المخرجين، كون بها رصيدًا من قوة التأثير السينمائي، لأنه حقق المعادلة التي كان يؤمن بها وبرع في تنفيذها على الشاشة: تحريك العاطفة والفكر والدراما، وأتقن ما أسماه النكهة اللغوية للسينما ونقل للمشاهد مضامين البصيرة والوعي واليقظة، لهذا كان درة عمله هو (المخدوعون) الذي جسد فيه وعيه السينمائي بالحركة والتكوين والفكر، يكفيه أن هذا الفيلم هو أيقونة فلسطين، (مثل رواية الطنطورية لرضوى عاشور)، الفن القلق الذي لا يهدأ إلا عندما يكشف الزيف، الذي يطبق مبدأ غسان كنفاني: (العمل الفني هو الوعي والإنسان هو الوعي)، (فارس فارس 47).
في الكادر الأخير يلقي أبو الخيزران (المخدوعين) خارج المدينة حيث تلقي عربات البلدية قمامتها، وهنا سأل أحد شباب الحضور توفيق صالح، في ندوة الفيلم بالمركز الثقافي السوفيتي، عما يشير إليه اصبع أحد الضحايا بعد أن ألقي به على كوم القمامة، رد توفيق صالح بمثالية هادئة: أنه يشير إلى فلسطين. واقعية قاسية تفاجيء مشاهدها بسيل من الصفعات حتى يفيق من غفوته ولا يختنق داخل الصهريج مثل أبي قيس وأسعد ومروان، لكنها صادقة في نقل رسالة غسان كنفاني وقرفه وحلمه وحزنه وأمله في أمته.
**
بعد أن أعلن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في أكتوبر 1988، اتجهت الأنظار نحو الأديب المصري وتابعنا حواراته وأعدنا قراءة رواياته وكأننا نعيد اكتشاف نهر النيل، أو حلاوة شمسنا! لم تستوقفني في هذه الفترة سوى جملة عابرة صرح بها نجيب محفوظ في أحد حواراته بعد فوزه عندما قال: إن صديقه توفيق صالح يمر عليه يوميًا في بيته منذ فوزه حاملًا باقة من الورود فرحًا بانتصاره الأدبي! ورد كل يوم يا توفيق؟!
أضافت هذه الجملة قطعة أخرى إلى القطع التي تشكل فسيفساء صورة توفيق صالح في مخيلتي، فنه، أفلامه، صداقته، رقته، بل تخيلته يتوقف عند محل لبيع الزهور بالقرب من بيت نجيب محفوظ في العجوزة، وفي كل زيارة لي لمكتبة القنصلية البريطانية، كنت أبحث في ذهابي وعودتي عن محل الزهور الذي كان ينتقي منه توفيق صالح باقة رقيقة يعبر بها يوميًا عن سعادته بفوز صديقه وزميله في جماعة الحرافيش، طبعا لم أستطع تحديد مكان محل الزهور بسبب الزحام على محل (نعمة) الشهير!
بعد سنوات وتحديدًا في يناير 2005 قابلت توفيق صالح قبل بداية احتفالية لتكريم بهاء طاهر في أتيليه القاهرة وتجاوزت حاجز الخجل حبًا فيه وتقديرًا لفضله عليّ. توجهت نحوه ومددت له يدي وصافحته وعبرت له عن امتناني الشخصي له وأثر فكره السينمائي على تكوين بوصلتي الثقافية والقومية. لم تكن رقته الإنسانية مفاجأة لي، وبدا تواضعه وخجله رد فعل طبيعي فقد ابتعد عن مصر سنوات ربما لم يتصور أنها غير قادرة على محو إنجازاته الفنية من وعي جمهوره.
**
لخص توفيق صالح لسمير فريد تجربته في كتابه (المخدوعون) وإخراجه فيما يلي:
(أعتقد أنه أحسن سيناريو كتبته أنا في حياتي… لكن تنفيذ الفيلم ربما يكون أردأ تنفيذ نفذته في حياتي.. وكان لابد لي أن أتنازل يوميًا أثناء التصوير عن طلباتي وكان لابد من تغيير ميزانسيني يوميًا تقريبًا.. على كل حال كانت أردأ وأسوأ تجربة في حياتي .. بينما هذه أجمل قصة تناولتها في السينما.. نهايته معلش.. أيًا كانت النتائج فإني أحمل مسؤولية كل ما سوف تراه على الشاشة.. ولن أتنصل في يوم من الأيام من ذلك)، (96).
**
ربط الفيلم/ الصفعة بين اسمي توفيق صالح وغسان كنفاني اللذين أضافا إلى ذاكرة الأمة والثقافة العربية ما تفتخر به ودافعا معًا ومنفردين عن (قضية الحكي) وضرورة تحولها من طعام الشعوب وأفيونها إلى سلاحها ووعيها.. وضرورة أن ندق على جدران الخزان لا أن نموت مختنقين باستسلامنا.. رحمهما الله ورحم كل من أشار لهذه الأمة نحو طريق النجاة.