كتب : محمد حبوشة
على مدار الأيام الماضية تحولت المطربة (آمال ماهر) العائدة للأضواء بقوة بعد سنوات من الغياب، لأيقونة للباحثين عن النجاح، وأؤلئك الذين يحيط بهم اليأس من كل جانب، لتؤكد بما لايدع مجالا للشك أنها (صوت مصر القوي العابر للأزمات)، ولهذا امتطت جواد اللحظة الفاصلة في عمر (مصر الجديدة) لتعيد انطلاقتها الأولى حين أطلت منذ ربع قرن فى حفلات غنائية تشدو فيها بأغانى أساطين الفن، وعلى رأسهم أم كلثوم، ولقد أدرك الناس البسطاء – آنذاك بحسهم الفطرى الذى اكتسبوه من فن ماضيهم القريب – أنهم إزاء صوت من الأصوات النادرة التى يمكنها أن تسترد كرامة الغناء السليب فى مصرنا وفى عالمنا العربى الراهن.
ربما فطن الناس مع أول إطلالة لآمال ماهر بحس فطرى بالغ الحساسية إلى أن صوتها الذى يشدو ليس كأى صوت، إذ أدركوا على الفور مدى قوة هذا الصوت ونقائه، وقدرته الفائقة على التنغيم والإحساس بمعانى الكلمات، ودقة توقيت حركاته وسكناته وعلوه وانخفاضه مع الموسيقى المصاحبة له، لقد كان هذا التألق يبلغ ذروته حينما تشدو ببعض من أغانى أم كلثوم، حتى إنها كانت تتفوق على أم كلثوم نفسها فى غناء بعض المواضع من أغنياتها.
وبعد فترة أرادت أن تخلع جلباب أم كلثوم وغيرها من أساطين الغناء، وأن تكون نفسها، وهذا حقها المشروع، ورغم أن صوتها كان يتألق ويكشف عن أسراره (أعنى طبقاته وإمكاناته الموسيقية) عندما تشدو بأغانى العصر الذى انقضي؛ لأن الغناء فى هذا العصر لم يكن نتاجا لأصوات عظيمة فحسب، وإنما كان أيضا – وفى المقام الأول – نتاجا لروح عصر ما، أعنى لسياق تاريخى ما تألق فيه فن الأدب، ومنه الشعر الذى منه الأغنية؛ مثلما تألق فن الموسيقى والألحان.
ولهذا بدا صوت (آمال ماهر) في غنائها الجديد أشبه (بالجغرافيا التى تبحث عن التاريخ)، وأعنى بذلك أن صوتها يشبه الأرض الخصبة التى تبحث عن السياق التاريخى الذى يمكن أن يظهر خصوبتها ويسترد اعتبارها ومكانتها، ولكن (آمال ماهر) سعت إلى خلع رداء الماضى الذى تألقت فيه لترتدى ثوب الحاضر الذى يعتمد على كل شيء آخر غير الصوت البشرى، ولعلها عرفت حقا أن كثيرا من المطربين والمطربات لا يملكون قدراتها الصوتية على الغناء، ومع ذلك فإنها ربما رأت نفسها أقلهم حظا ومكانة بالقياس إلى إمكاناتها الهائلة؛ ولذلك أصبح الأفق غائما أمامها بعض الشيئ، فسلكت الطريق الخاطئ الذى يسعى إلى السير فى ركاب الكثيرين من مطربي هذا الزمان.
لقد فطنت آمال ماهر إلى ما يليق بها عندما اندلعت ثورة 25 يناير، من خلال أغانى تعبر عن هذا الحدث التاريخى الجلل فى بلاغة الكلمة وجمال الصوت وصدق التعبير، كما أنها – فى الوقت ذاته – تستخدم لغة (الكليبات) الحديثة فى أداء الأغانى، وكأنها فى هذه الأغنيات تواكب اللحظة التاريخية التى نعيشها، دون أن تفقد الكثير من عبق الماضى، ولكنها لم تستطع أن تحافظ على هذا التوازن بين قيم فنية أصيلة وأساليب فنية متغيرة على الدوام.
توقفت آمال ماهر عن الغناء مؤخرا لفترة تزيد على السنتين تقريبا، ولم يكن هذا التوقف اعتزالا للفن كما قيل، بل هدنة من أجل الوقوف أمام الذات.. ذات الفنانة حينما تراجع نفسها لتتعرف على إمكاناتها الحقيقية الجديرة بها، وبرغم ما يراه أغلبية الشعب المصرى والوطن العربى من انتقادات غريبة، حول غياب آمال ماهر عن الساحة الفنية والحرب التى مارسها عليها طليقها المدعو (تركي آل شيخ) ولكن هذا الأمر لم يوقفها أو يغيبها لتمتعنا بصوتها الدافيء، لتمثل صوت (مصر الجديدة) كما جاء حفلها الأخير في (العلمين) الذي هاجمته بضرواة كتائب (آل شيخ الإلكترونية) وشاركتها (روتانا) في قبح متعمد، والغريب أن إعلام الجماعة الإرهابية هو من دافع عنها في وقت تراجع فيه إعلامنا رغم أن (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) هى من رعت الحفل.
لقد بدت (آمال) في هذا الحفل وهى ترسم على ضفاف الأمل خطوة، جديدة بصوت مصرى عظيم، كان لديه دوافع بشرية اقحمته ببعض المشاكل ودفعته للغياب، وظهر لنا من جديد ليغرد كما عودنا منذ سنوات على جوهر الغناء العربى الأصيل، ورونق الإبداع المخملى، عادت من جديد لتدفع بوابات الأمل، بصوتها تشرح إنجازات مصرنا الغالية، وتمنحنا أيضا خيوط الامتنان والحب والمودة لبلادنا، وكان ينبغي أن يواكب هذا الحدث بعض قنواتنا في بث حي يثبت نجاح حفلها في مواجهة كتائب (آل شيخ) البغيضة في فعلها المشين، وما يثبت تعدها قول (آل شيخ) في تويتته غير المباشرة في الحقد قبل أيام قليلة (لا تخبر الناس بما ستفعله .. افعل ذلك ثم اصدمهم، وبعد ذلك ابق صامتا .. انتقل إلى عملك التالي .. استمر في صدمهم .. استمتع هكذا تنجح) ولست أدري إلى أي منطق يستند هذا المغبون الأرعن الذي يحمل الشر بين جوانجه الفاسدة؟!.
(آمال ماهر) من وجهة نظري تمثل سلاح الوعي الوطنى، لذا أتمنى أن يجىء يوم ليتم ترجمة أعمالها الفنية باللغات الإنجليزية الفرنسية والإسبانية، وتوجيه كلمات أغانيها لتكون (صوت مصر الجديدة) بملامح الإنجازات والتنمية المستدامة محليا وعالميا، كما بدت لنا سلطانة متوجة على عرش الغناء العربى، بحفل هو الأروع والأقوى فى مدينتنا العالمية (العلمين الجديدة)، وأنا شخصيا مع مزيد من تنظيم حفلات بمحافظات مصر لتنمية الوعى الوطنى داخل مصر، علاوة على تحقيق معادلة حقيقية بالقارة الأفريقية والعالمية من خلال الجاليات العربية والمصرية، والحفاظ على هذا الصوت المصرى الوطنى، ليكون امتدادت لصوت كوكب الشرق أم كلثوم.
دعك من هذا الجو الإلكترونى المسموم الذي قصده (آل شيخ) وغيره من الحاقدين، لقد كانت طلة (آمال ماهر) فى (العلمين) تبشر بنقلة نوعية فى مسيرتها الغنائية، شدت فأبدعت، وتألقت فى حاضنة مصرية خالصة، أعادتها إلى الحياة بعد أن كادت تغيب، أو غيبت بفعل فاعل، عادت إلى جمهورها عودا حميدا، والمطلوب، عاجلا، حاضنة فنية خبيرة مثل (المتحدة) وغيرها من وسائل إعلامنا الوطني يمكنها أن تعيد صياغة هذا الصوت الرخيم، تتوفر عليه بحب وإخلاص: كلمات وألحانا وظهورات محسوبة بدقة خلوا من النزق والعبث والمراهقة الحياتية.
ولأن (آمال ماهر) من القليلات اللاتى أثبتن قدرتهن على أن تكون (ست) غنائية معاصرة، بصوت نسائى قوى ومميز، ربما من أقوى الأصوات عربيا، بالإضافة إلى (كاريزما) خاصة، ونشأة موسيقية زادتها خبرة ورؤية، لترسم بمفردها خططها وتغيراتها ومساراتها، وهو ما زاد متابعيها طمأنينة وثقة فى مستقبلها وأعمالها المقبلة، بفضل رؤيتها الواضحة فى الغناء، فمن ثم كان حري بي أن أطرح تساؤلات ملحة حول (حالة الاهتزاز) التي طالتها مؤخرا، وهى المطربة الشابة صاحبة الصوت القوي والشجي التي ما أن كادت تتفتح كزهرة برية في ساحة الغناء الغناء العربي حتى حصدت إعجاب ملايين العرب، بعد أن تخلصت من لقب (مغنية أم كلثوم) بعد ثانى ألبوماتها (أعرف منين)، ورغم أن خبرتها الموسيقية أهم أسلحتها في تحقيق ما تصبو إليه، إلا أنها للأسف أصبحت مستهدفة بالمؤامرات والفتن التي تهدد بالتوقف عن جريان نهر إبداعها الغنائي الفاتن الذي يسلب القلوب.
تعرضت آمال ماهر للعديد من الأزمات لأسباب كانت مجهولة المصدر حتى تكشفت مؤخرا على يد (آل شيخ) وأتباعه ، ووسط صمت مريب، خاصة أنه قد قام بحذف قناة اليوتيوب الخاصة بها في شهر مايو الماضي، كما تعرض فريق العمل ومدير أعمالها لتهديدات عديدة، ولم يقتصر الأمر على حسابات آمال ماهر فقط، بل وصل الأمر إلى حذف حسابات المعجبين من موقع وهمي، وتلك أمور مدبرة بيد خفية تجبن على أن تكشف نفسها أو لحساب من تعمل بالضبط، لكنها أعادت مؤخرا قناة اليوتيوب الخاصة بها وحساباتها من جديد لتتفاعل مع جمهورها العاشق مباشرة لحظة لحظة كما كان من قبل، حتى أثبتت كفاءتها وعنفوانها الغنائي في حفل (العالمين).
سعدت شخصيا بمبادرة (المتحدة) لعودة صاحبة الصوت الشجي الذي يشد الأسماع إلى الإنصات، فآمال ماهر ذات أداء عنفواني يجذبك إلى متابعته، تارة بحسها العاطفي الرقيق تحرك فينا الأحاسيس وتهيج لنا العواطف الوطنية الجياشة إلى حد البكاء، فهى فنانة بحق ينقلك إحساسها بين فضاءات المشاعر الإنسانية الرحبة باستمتاع مطلق، وتراوح من أغنية لأخرى فلا تكاد تميز أنها صاحبة لون واحد، بل غنت مختلف القوالب الطربية، ولها موهبة عجيبة في تغيير الحالة تبعا للجو العام للأغنية، فكان مردود ذلك أن أحبها الجمهور حبا عفويا نظير الأداء المتألق والحس العالي الذي تمتعت به، لكن ذلك يستلزم ذراعا إعلاميا يتصدى لمحاولات الزج بها في خانة الحصار والمطاردة.
أن القصائد التي غنتها (آمال ماهر) طوال رحلتها بالفصحى تنعكس على سطحها شفافيتها وإنسانيتها العالية في مختلف أحوالها وفي شتى أطوارها، طموحا وجنوحا ويأسا وقنوطا وفرحا وحبورا، ولعلها في هذا تجسد معاناة الشاعر عن قرب ومدى ما يلاقيه في سبيل سبك قصائده من لحم ودم وروح بحرفية عالية للغاية، بحيث يبدو كطائر مغرد تارة في ميادين الحرية مرفرفا بعلم مصر محلقا في ميادين الشهادة في مداها الواسع، وتارة أخرى تأتي كلماته نحتا من قلبه وسلخا من فكره، فيبدو عبر معاني قصائده مع (صوت آمال) كشمعة تحترق لتضيء لنا الطريق الذي يعبده بمشاعره الفياضة فيهدي الحائر والتائه في دنيا الاغتراب والعشق والغرام.
حضور (آمال ماهر الصوتي) في مجمله مميزا عبر تجارب موسيقية راقية حتما تبهر مستمعيها وتثير فضولهم وترجعهم إلى زمن الفن الجميل في أقوى لحظاته وأبهى تجلياته وأرقى نماذجه الخالدة، وتعضد الأغاني في عرضها على الشاشة بلوحات وصور مختلفة مصحوبة بالموسيقى الهادئة في مناطق معينة، أو مصحوبة بغناء يقوى من الحالة الشعورية العامة في مناطق أخرى، ولعل تلك الكليبات المصورة التي قدمتها على مدار السنوات الماضية تحمل في طياتها مناظر تميل في مجملها إلى نوعية من الفن التشكيلي والفوتوغرافي، تتأرجح بين الشرقي بدفئه في شروق الشمس وغروبها وبرودة الغرب في قسوته، وسط حالة الجو المضطرب والمتقلب في ظل حالة الصخب والضجيج الغنائي الذي شوه ملامح الأغنية المصرية ولخصها في شكل (مهرجات) لا تعبر سوى عن الهوس بأنماط غربية لاتشبهنا ولا تحاكي مشاعرنا الدافئة.
وفي النهاية فإن آمال ماهر تستحق منا المساندة ودعمها معنويا الآن، وهى التي أمتعتنا عبر أغنياتها التي تأتي في ثوب من الأصالة والمعاصرة في آن واحد، وذلك في سبيل تحقيق أهداف أسمى للارتفاع بمستوى الإنسانية ومقاومة كل ما من شأنه أن يكون تشويها لرسالة الفن في حياتنا، فقد غنت للحب والعاطفة والوطنية والهجر والبعد والجفاء والخيانة والحنين، فضلا عن مشاهد فيديو جسدتها من المواقف الحياتية اليومية التي تعكس هموم وهواجس الإنسان المصري والعربي، وذلك عبر أداء صوتي فريد وخلفية موسيقية لكبار الملحنين وعلى رأسهم الراحل العظيم (عمار الشريعي) الذي أسسها على الغناء العصري، ومن بعده الموسيقار الرائع (محمد ضياء الدين) الذي ابتكر لها أسلوبا خاصا في الغناء منحها فرصة التألق والازدهار بعد أن غادرت مدرسة أم كلثوم في الغناء الكلاسيكي الرصين لتصبح صوت مصر الوطني في شكله الحديث.