بقلم الفنان التشكيلي الكبير : حسين نوح
عشر سنوات مرت علي فراقك يا أبي وأخي ومعلمي، كل يوم أتذكر مواقفك وقدرتك على الرفض وحبك وإخلاصك، عرفت منك معني الرجولة فأنت حين مات والدنا ولم تكن تجاوزت الثلاث وعشرون عاماً أصبحت مسئولاً عن أسرة من سبعة أفراد أنا أصغرهم – لم أتجاوز التاسعة – وخرجت بنا لبر الأمان وكنت قدر المسؤلية، وانطلقت خلف أحلامك التي كنت دائمآً تضعها أمامك وتحققها، تري الاستديوهات في لندن وتحلم أي يكون لديك أكبر استديو صوت في الشرق الأوسط ويتحقق حلمك.
تقرر أن نقوم بالإنتاج وتحلم بوحدة تصوير على أحدث طراز وتحقق حلمك ثم تحدثني عن المسرح وحلم أن يكون لديك مسرحاً على غرار المسرح الإنجليزي ويتحقق حلمك، ثم تقرر أن تدرس علوم الموسيقي لكي تعزف موسيقاك بمعظم الأوركسترا العالميه فتذهب إلى (ستانفورد) بأمريكا ويتحقق حلمك ويعزف الأوركسترا الإنجليزي موسيقاك والأوركسترا الصيني كذلك، وتعرض لك في باريس (كاليجولا) على مسرح (الكوميدي فرانسيز) مع صديقك البوهيمي العملاق يوسف شاهين، وتعمل مع الرحبانية في مسرحية (الشخص)، وتقابل صلاح چاهين ويقرر أن يكتب أول أوبرا مصريه ويرافقك إلى أمريكا وتتفرغ ثلاث سنوات للعمل وحين تنتهي منها يأتي (جلال الشرقاوي) ليستمع ويقرر أن ينتج العمل حتي لو صرف آخر جنيه من أمواله وكنت موجود شاهد على ذلك.
ويفتح الستارعن المسرحية بعد أن اختار لها جلال الشرقاوي اسم (انقلاب) بديلاً عن (ليلي ياليلي)، ويحضر العرض جميع مثقفي وفناني مصر ويبهر الحضور ويخرج جمهور المسرح الحقيقي إلى مسرح جلال الشرقاوي من أجل عمل يحترم عقلية المشاهد بالكلمة واللحن والإخراج المختلط بالشاشات بإبداع لم يحدث في تاريخ المسرح ثم يكتب الكبار، الأستاذ موسي صبري في آخر ساعه بتاريخ 21 ديسمبر 1988 أن (انقلاب صلاح چاهين ومحمد نوح وجلال الشرقاوي) هى في رأيي ليست انقلاباً بل ثورة في تاريخ المسرح المصري أقول كلمة وأعنيها .. ثورة .. نقطة تحول .. مسار جديد .. حدث مروع يقع لأول مرة، الفكرة بسيطه ولكن الإبداع هو في التعبير عنها، كل الآصالة والواقعية في كلمات صلاح چاهين مشتعلة بنور الخلق وعبقرية التكوين .. ثم تلبسها موسيقي محمد نوح الثوب المبهر .. اللحن العاشق للكلمة والمؤثرات التي تجسد المعني وتملؤك بمتعة التّذوق .. إنه جهد ضخم خلاق ننحني أمامه احتراماً.
وعلق أنيس منصور في عاموده اليومي بالأهرام (مواقف) أربعة أعمدة متتالية عن انقلاب، ثم كتب في عموده بتاريخ 2 فبراير 1989 وقال : (لكن مثل هذه المنشورات في هذه الأوبرا تنفع وقد نفعت وتعمد الفيلسوف انيس منصور تكرار تلك الكلمة في هذه الاوبرا الكلمة تنفع وقد نفعت)، ويكمل الأستاذ أنيس في عاموده: (يقول أحد المفكرين وقد رآهم يحرقون كتبه، فقال احرق أي كتاب ومائة مسرحية وألف قصيدة سوف يتلاشي الورق أما الأفكار فهي مثل الدخان يعلو ويتصاعد وينتشر ويذهب بعيداً)، ويضيف: (بصراحة مصر هى البلد الوحيد في العالم الذي يستطيع فيه أي انسان أن يقول ما يشاء، ولكن لا أحد يسمعه، فأرجو أن تذهب وتسمع وتستمتع هذه المرة بانقلاب).
وكتب الأستاذ أحمد أبو الفتح في جريدة الوفد بتاريخ 22 ديسمبر 1988: (دار بخلدي وأنا سعيد بالألحان وبالطرب والموسيقي والأغاني لو أن سيد درويش كان بيننا ماذا كان يفعل؟، هل كان سيحضن محمد نوح الذي عاش الأيام والليالي تاركاً لمواهبه أن تنطلق وتهيم وتحلق وتغوص لتنقذ الفن الذي طال كبته وتعيد له الحياة؟)، وكتب العظيم مصطفي شردي في جريدة الوفد في 17 يناير 1989: (عندما يلتقي صلاح چاهين ومحمد نوح وجلال الشرقاوي فلابد أن يحدث انقلاباً، هذا العمل الذي يعرض الآن علي مسرح الفن هو حدث كبير ومبهر ومتقن وعميق ويسبب الحيرة للمتفرجين، إنه عمل يفوق القدرة علي الاستيعاب هذا العمل يقول إن التقدم ممكن والحركة للأمام متاحة، وأن المصريين قادرون علي تحقيق النجاح والفلاح بالمستوي العالمي عندما تنعقد النوايا وتنبض القلوب لمصر.
وأتذكر أن الأستاذ مصطفي شردي حضر العرض مرة وعاد ومعه فؤاد باشا سراج الدين، وكتب وعلق عن (انقلاب) كل من (ممدوح البلتاجي، حسن عبد الرسول، د. چيهان السادات، صبري أبو المجد، محمد تبارك، مدحت ياسين ، مفيد فوزي (1،2،3) في (مع مفيد)، نبيل بدران، عباس الطرابيلي، عبلة الرويني، محمد الحيوان، د.عبد العظيم رمضان، آمال بكير، محمد شردي، مرسي عطالله، علي لطفي، محمد العزبي، د نهاد صليحة، أحمد بهاء الدين، د. إبراهيم الدسوقي أباظة، د. أحمد يونس، عَبَد النور خليل، د. رفيق الصبان، ضياء الدين بيبرس وَعَبَد الرازق حسين).
وكتب في جريدة الوفد الأستاذ سليمان جميل بتاريخ 1 يونيو 1989: (أما الموسيقي في مسرحية (انقلاب) فهي القوة المحورية للطاقة الدرامية التي تفجرت منها تفاصيل حركة الأشخاص والأحداث علي خشبة المسرح لقد تمت الصناعة الفنية الدرامية لهذه الموسيقي بدقة علمية وأدوات موسيقية معاصرة، ورغم كل ذلك حدث خلاف بين المخرج جلال الشرقاوي والفنان إيمان البحر درويش فقد استمرت المسرحية فقط من 14 ديسمبر 1988 حتى أسدل الستار عليها في 4 سبتمبر 1989 ودخل الخلاف بينهم إلى القضاء، وللأسف تم تصوير المسرحية بشكل لا يليق بحجم هذا العمل الذي قد لا أكون مبالغاً إذا قلت إنه من أهم الأعمال وأعمقها في تاريخ المسرح المصري).
وكما ذكر ذلك القدير جلال الشرقاوي وكثير من النقاد والصحفيين، وأضيف أنا: محمد نوح لمن لا يعرفه أو تعامل معه هو كتلة من نار، تشعلك حماسا أحيانآً وتدفئك حنانا ومحبة أحياناً، رجل كالبحر تجده هادئ يمتعك وأنت أمامة وتتلاطم أمواجه مع صخور الحياة، مرات تحاول أن تحاصره عبثا فتجده متحررآً ويصبح تياراً جارفاً وجاذباً لمحبيه ولمعشوقته مصر، هو خليط من حماس وانفعال وإصرار ونشاط وبهومية وتمرد أحياناً وعشق وطيبة وقهر وسعادة ، هو حالة انسانية خاصة ومركبة تحبه كثيرا ويدهشك أحياناً، تركيبة من صدق وإخلاص وزهد وطموح وشغف وحماس.
نوح وكما يظهر في حفلاته صارخاً هل يغني أم يؤدي بحماس فلديه شيئ يبتغي إيصاله محاولاً هل استطاع .. كيف لا .. محمد نوح لم يحترم بعض الشخصيات المسؤلة وقد عرف بالصدفة تاريخه غير المشرف وتحدث عن ذلك كثيراً أمام البعض ووصل ذلك إلى سمع الرجل المسؤل فحجب معظم أعماله وكان سبباً في أخذ المسرح، وتبع ذلك أن مرض محمد نوح ثم اعتكف قهراً في مكتبه طالباً الموت في سلام، وقال افتقدت القدرة علي القراءة معشوقتي والقدرة علي كتابة الموسيقي وأصبحت الحركة قليلة وحرمت من التدخين والأكل فالسكريات ممنوعه واللحوم والفول عشقي ممنوع ومات صلاح چاهين ورحل كثير من أصدقائي وتمني الموت في سلام ونال مطلبه والعجيب في 17 رمضان الساعة الثانيه صباحاً – نفس يوم وساعة موت الحاجه نوحة أمه وعلي فراشها ولكنها اختارت أن يوافق يوم 21 مارس ليكون يوم الاحتفال بعيد الأم.
ماهذا يا أخي؟!.. لا يكفيني مقالة فقد كتبت عنه كتاب ولازال عندي الكثير.. في الجنة يا أخي حتي لقاء في يا عاشق مصر الغالية .. ارقد في سلام يا أبي ومصر بخير وتنطلق وتستحق.