بقلم : محمد شمروخ
عذرا القصة لا هى قصة حداثة ولا تطور ولا رؤية لتقديم جديد.. يا عم فكك من الكلام الكبير ده.. نجيب محفوظ سوف يقرأ من تحت أى غلاف ولو كان ورقة بيضاء عليها عنوان بالقلم الجاف بدلا من الغلاف الذي تمزق بسبب قدم النسخة!
ومع احترامى لكل الفنانين الأجلاء من الرسامين ومصممي الأغلفة، غلافك قد يكون جاذبا وبه فكرة عبقرية، لكن صدقنى مهما كان الغلاف رائعا، فلن يمد قارئ يده لنسخة كتاب لقراءتها ما لم يكن بسبب موضوعه الذي ينبئ به عنوانه، صحيح الغلاف مهم جدا.. لكن ما أثير حول أغلفة نجيب محفوظ الجديدة في الفضائيات والسوشيال ميديا لا يستحق كل هذا الدوى الذي حدث!.
حقا لا يمكن الجدال في أن أغلفة روايات محفوظ المشهورة، كان يبدو فيها وكأنها أجزاء من النصوص أو مداخل تمهيدية تتناغم فيها فكرة وإبداعية الريشة مع فكرة وإبداعية القلم، كذلك الأمر في كل كتاب آخر لأى مؤلف آخر في أى مجال آخر، لكن مهما كان من قوة تأثير هذا الارتباط، فإنه هنا لمناسبة الجوار فقط لا غير!
تذكر أيضا أنه الحال نفسه مع الكتب المدرسية قديما على بساطة أغلفتها، لكن في النهاية يبقى النص منفصلا عن الغلاف، ومهما تغير فلن يمكن أن يأتى بتأثير كبير على الكتاب نفسه!.
أما محاولة إثارة قصة الأغلفة الجديدة التى قامت بها إحدى المكتبات، فما أراه إلا نوعا من البحث عن إثارة أى زوابع، قد يكون بسبب الدعاية، أو بدافع الحزن والشجن مع تذكر الذي مضى، لارتباط روايات محفوظ بأغلفتها التقليدية شأن كثير من الأعمال الأدبية والفكرية الشهيرة. كذلك ربما يكون ما حدث، قد وقع بدافع محاولة ملأ الفراغ الافتراضي الفيسبوكي بضجيج لا يلبث أن يخفت مع توالى الفرقعات في أركان هذا الفراغ!.
ومع تفضيلي شخصيا للأغلفة القديمة أو بمعنى أصح، التى رسمها الفنان جمال قطب خصوصا، إلا أن هذا التفضيل جاء فقط بسبب التعود على قراءة الروايات تحت هذا الغلاف.
لكن لو بحثت مثلا في صفحة الكاتب الكبير شعبان يوسف، على موقع فيسبوك، ستجده يعيد نشر صور قديمة لأغلفة كتب كثيرة، منها لبعض روايات نجيب محفوظ، فتجد الغلاف يكاد يبدو عاريا من أى رسومات أو تصميمات كما في الطبعة الأولى لرائعته “بداية ونهاية” سنة 1949، بتعليق من الأستاذ شعبان من كلمتين وبس (عبقرية البساطة).
لكن ما استفزنى في الحوارات عن أغلفة (مكتبة ديوان) لبعض روايات نجيب محفوظ الصادرة عنها، هو محاولة حشر الحداثة والتطور والتقنية في تصميمات الأغلفة.
ولأمر ما أصبحت حساسية الحداثة تشبه عندى الحساسية التى تسببها المانجو لجلدى مع عشقى للمانجو وتوجسي من الحداثة!.
يا ناس حرام عليكم.. قولوا إنكم بتقدموا رؤى مختلفة ومتجددة، لكن بلاش حكاية الحداثة دى، لأنها كلمة أصبحت بلا معنى، بل ممكن من خلالها تبرير أى (هتش).. طبعا لا أزعم أن الأغلفة الجديدة نوع من (الهتش) وإن كانت لم تعجبنى لأنى أفضل (الدقة القديمة) على أى حداثة.. على الأقل الدقة لها ملامح وطعم ولون وأحياناً تبدو حراقة ولا شطة عربيات الكشري.
ولا أعرف ما ستكون عليه الحداثة مثلا، هل سنرسم لوحات تروس صناعية أم رقائق كمبيوتر ديحتال أم تخيلا لأشكال (الجيجا والميجا والفليكسات)؟!.
فالحداثة صارت كلمة تقال عن أى تجربة لتبريرها وعموما يمكن أن أتفزلك عليك وأزعم لك أن مصطلح الحداثة ليس له علاقة بما يردده كثير من المثقفين المصريين أو العرب، والغريب يا أخى أن لهذه الحداثة سطوة على العقول والاتجاهات الفنية والثقافية، أقوى من سطوة التقليد المرفوض من الحداثيين.
بل يبدو أن تيار الحداثة نفسه، يجرف كل من أمامه قسرا ليمضي به في طريقه بلا هوادة محطما (إرادة وحرية) كل من أراد أن يقف في وجهه ولو لمجرد الفهم والتأمل.
بل أحيانا أشعر أن المؤمن بالحداثة، يبدو من غيظه من عدم اتباع سبيلها، وكأنه يريد أن يفتح عليك (مطوة قرن غزال) لينتزع منك الاعتراف بضرورة وحتمية الحداثة.. وإلا يعلمك في وسط وشك بشرطة من سن قرن الغزال!
فى ملحق العدد الأسبوعى لأهرام الجمعة أمس، أجرت الكاتبة الصحفية دينا توفيق، حوارا مع الرسام الشاب يوسف صبري مصمم أغلفة طبعات مكتبة ديوان الجديدة لبعض روايات محفوظ، وكان عنوان الحوار جملة من لسان الرسام نفسه (أعلم أن الحداثة والتقنية العالية مخيفة.. ولكن ذلك هو المستقبل!).
جالك كلامى.. أليس هذا نوعا من التثبيت بمطوة؟!
أخى أبو الحداثة على أبو التقنية، يا عم هو احنا جايين هنا علشان تخوفونا؟!
ماشي يا عم خفنا واترعبنا وطلعنالك المحفظة وفوقها الساعة والموبايل.. عايز إيه تانى يا فنان؟!
قال يعنى لو قرأت طبعة مكتبة ديوان، فسوف أشعر حتما بأننى صرت كائنا حداثيا متحضرا، أما لو قرأت الروايات نفسها من عهد طبعات مكتبة مصر ولجنة التأليف والنشر ودار الهلال، فسوف أشعر كأننى كائن متخلف.
طيب يا جماعة اتفقتوا مع الأستاذ نجيب يبعت من العالم الآخر، تعديلات على نصوص وأفكار وشخصيات الروايات تناسب الحداثة والتقنية.
ولماذا تبدو الحداثة والتقنية مخيفتان؟!
يامه.. هى وصلت لريا وسكينة؟!
هى لا مؤاخذة الأخت حداثة مسجلة خطر تبع أى قسم؟!.. بنسأل بس علشان ما نهوبش ناحيتها!
بس وحياة دى النعمة، لا أقصد أبداً السخرية من الرسام الشاب، بل على العكس أراه قد عبر عن حقيقة فهم الحداثة والتقنية بكل وضوح، ولكن بإيمان وحماس أقرب لحماس السلفيين لفقه ابن تيمية، أما أنا فلأنى مصر على التخلف والرجعية ودقة الكشري وماليش في لا في (ماك ولا ستاربكس) ولا في ابن تيمية، فإنى أعلنها بكل وضوح: (أنا مش خايف من الحداثة ولا يهمنى أيتها تقنية ولو التطور راجل يطلع لى برا.. آه.. أمال إيه.. أنا رايح أقرأ روايات الأستاذ نجيب القديمة وأشرب شاي مع الأستاذ قطب ولا يهمنى من حد ما دام بطاقتى في جيبي ومحفطتى مفيهاش عشرة جنيه على بعض وكمان موبيلى صينى!).
حقا لا أجد معنى للحديث عن الحرية والتحرر مع فرض (الحداثة) قسرا وتخويفا.. ولكن عادتها ولا هتشتريها.. إذا كان ركبنا الغلب وطافحين المر بسبب محاولات فرض الحداثة.. اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وفنيا وقانونيا وأخير مطبخيا.. حتى أكل المنجة بقى فيها حداثة!
وفي ذات نفس الحوار اكتشفنا أن الرسام الشاب يذكر أن الخط المكتوب به اسم الأستاذ نجيب محفوظ على الأغلفة الجديدة هو بذات نفسه خط (الثلث المملوكى).. يا حلاوة ياولاد المماليك دخلوا في الحداثة كمان.. طيب مش تقولوا كده من الصبح؟!
كما أعجبنى وعبر عن موقفى ما كتبته الأديبة الشابة (هند جعفر) بمكتبة الإسكندرية، تعليقا على الحوار، خاصة غضبها من تصريح الرسام أنه قرأ بعض ما كتب نجيب محفوظ ولكن بالإنجليزية، فهذه كارثة كبرى، لأن فنانا مصريا شابا يحمل اسما عربيا، يقرأ روايات نجيب وهو من أعمدة الأدب العربي الحديث بالإنجليزية، ثم يرسم الأغلفة لطبعات جديدة كأنها بالنسبة له، مترجمة من الإنجليزية التى يجيدها إلى العربية التى لا يقرأ بها بينما يكتب بها محفوظ!
مصيبة كبرى.. فهل وصل التغريب إلى هذا الحد؟!
ثم إن ما علاقة نجيب محفوظ بالمماليك؟!
فيما يبدو أننا ننسى أن نجيب ينتمى ويعبر عن مصر الحديثة في القرن العشرين، فهو لم يكتب عن المماليك ولا الفاطميين ولا الأيوبيين ولا أى عصور تاريخية، فكونه عاش طفولته في الجمالية، الحى الذي يختلط فيه الفاطمى بالأيوبي بالمملوكى بالعصور التالية حتى العصر الحدبث، لا يعنى ذلك أنه (أنتيكا) يلتف حولها السائحون بكاميراتهم الديجتال لتصويره لأنه ينتمى للعصور الغابرة، والغريب أن شخصيات تلك العصور التاريخية، لم يتناولها محفوظ ولم يؤلف حولها رواياته، فقد قفز من مصر القديمة (الفرعونية) إلى القرن العشرين رأسا، وآخر ما يعبر عن محفوظ هو المماليك، لكن يبدو أن نظرة السائح العارضة هى التى تحكم رؤى شباب المصريين الذين تلقوا تعليما أجنبيا داخل مصر أو خارجها، فلا فرق بيين إبداعات نجيب محفوظ في رواياته وبين مقهى نجيب محفوظ في قلب (خان الخليلي) الذي يرتاده السائحون من الأجانب والمصريون من خريجي المدارس الأجنبية، يشربون الشاى من البراد الصاج ويستمتعون بجو القاهرة الكلاسيكية ما بين خان الخليلي وشارع المعز!
والسؤال الذي كان يجب أن نطرحه: هل قراءة الأدب العربي بلغة أخرى تعتبر نوعا من الحداثة؟!
ومرة أخرى، فإن هذا الرسام الشاب بل والقضية كلها تؤكد أن هناك هوة سحيقة تتسع وتحدث شروخا خطيرة في مستقبل الثقافة والأدب والفن في مصر، وبالتالى كل البلاد العربية، فالأجيال القادمة تكاد تنفصل عن الواقع ركضا وراء أوهام الحداثة التى تسحق في طريقها كل شيء في الأدب والسياسة والحياة، فلقد أصبحنا متخلفين لأننا لا نأكل المانجو بالشوكة – بحسب إيتيكيت أمينة شلباية!
وربما يأتى يوم نترجم فيه روايات نجيب محفوظ من الإنجليزية بعد أن يهجر الناس الطبعات العربية ذات الأغلفة القديمة والجديدة لأن لغتها تقليدية لا تناسب حياة ما بعد عهد الحداثة!.