بقلم الفنان التشكيلي الكبير : حسين نوح
اتجهت فرحاً الي الأسكندرية معشوقتي وجزء من بساط ذكرياتي فقد كنت منذ نعومة أظافري وأنا مقيم في دمنهور استمتع بجمال وعظمة الأسكندرية بشواطئها وفنونها وتاريخها وجمال المعمار وعظمة فنانيها، فلها خصائص البلاد الساحلية بصيفها وشتائها المميز والذي يعرف جماله معظم قاطني الأسكندرية بلد (محمود سعيد وعبد الرازق السنهوري، سيد درويش، توفيق الحكيم، بيكار، فاطمة رشدي، أدهم، سيف وانلي، الشاعر بيرم التونسي، يوسف شاهين، محمود مرسي، عمر الشريف، محمود عبد العزير) وكثير من عظماء الابداع والفكر.
إنها منارة الثقافه وقبلة العلوم والفنون وثاني سينما في العالم حين حضر (الإخوة لومير) إليها من فرنسا، وهما مبتكري أول كاميرا لتصوير الأفلام في العالم وتم عرض أول فيلم سينمائي في مصر في مقهي بالإسكندرية ٦يناير١٨٩٦ بعد أول عرض بباريس في (الجرايد كافيه ) 25 ديسمبر 1895.. كانت الزيارة لمكتبة الأسكندرية بمناسبة معرض الكتاب لأتحدث عن التترات بين الكلمة واللحن ومعي شاعر الأسكندرية المثقف أحمد بسيوني والشاب الملحن والمغني أحمد البدري.
في طريقي من الاوتيل علي البحر الي المكتبة لفت نظري بعض الملاحظات:
- ماذا حدث للمدينة البديعة؟!، مجهود ضخم واضح من الدولة والمسؤلين بالإنشاءات في عروس البحر الأبيض المتوسط، ولكن ماذا حدث لضيوف الأسكندرية وبعض من أهلها؟!، أعرف أنها أصبحت مصيفآً وملاذآً لمعظم محافظات الدلتا، ولكن لفت نظري مظهر الضيوف وكأن البعض منهم قادم من قندهار وقرى باكستان، فالبحر تعوم فيه العبايات السوداء ثم تخرج بعضهن وقد ارتدت البوركيني، وهو المايوه الشرعي، ولا أعرف من اقترح مواصفاته وتصميمه ومن أين جاءت تلك الفكرة ؟!.
- ماذا حدث فأنا شاهد على الأسكندريه منذ الستينيات والسبعينيات والمنتزه والمعمورة والعجمي ولم أرى تلك المشاهد ولم تكن هناك أي ممارسات جرائم بمثل بشاعة ما نراه اليوم علي صفحات أخبار الحوادث، والعجيب أن بعض الرجال ينزل المياه بالتيشرت والمايوه الشرعي فوق الركبة .. ياسيدي افعل وارتدي ما تشاء كامل حقك، ولكن للبحر تقاليد وملابس.
- المدهش أنني وفي الطريق رأيت (الله ما اجعله خير) طابور من الشباب ممتد إلى أكثر من ثلاث كيلو مترات، فسألت صديقي المرافق (أحمد بسيوني) وهو المسؤل عن الصالون الثقافي بأوبرا الأسكندرية: ما هذا هل يوجد توزيع لأي منتج غير متوفر في الأسواق، ولماذا علي البحر؟!، نظر إلى بضحكة خبيثة وأجاب إنه حفل لإحدي فرق المهرجانات والراب وهو نوع مستورد من الغناء تعامل معه البعض وأنتج كائنات (الحمو) وأخواتها من مرتدي السلاسل والعربات الذهبية وتقليد للنجوم السود في أمريكا بلا وعي ولا فهم ولا أي إدراك للموسيقي الحقيقية وإنما طفيليات غنائية عجيبة والمردود منها حالة السيولة والإدمان التي أصابت بعض الشباب.
- أوقفت السيارة لكي أستوعب ونظرت بعد أن أوسعت عدسات عيوني إنهم جمهور من صغار وفتايات معظمهن محجبات أما الشباب فالرأس فقط من الوسط تقف مجموعه متماسكة من الشعيرات سيطر عليها منتجات الچيل والباقي على الزيرو والبنطلونات وقد سقطت والألوان البغبغانية في الملابس ونظرت مندهش أتابع وأردد ماذا حدث؟!، وقلت لصديقي إن ما يزعجني والمحزن أن البعض من السائحين المحبين للأسكندريه يملؤن الفندق الذي أقيم فيه، ولكن ماذا حدث للمصريين كما قال الكاتب جلال امين؟!، واضيف: وماذا حدث للأسكندرية وما هي انطباعات السياح عما يحدث، وهل تلك المناظر لصالح السياحة والقاطنين لتلك المدينة صاحبة التاريخ العريق والتي يعرفها العالم؟!.
- اعرف أن معظم مصطافي القاهرة اتجهوا إلى الساحل الشمالي وبعد أن كانت قرية (مراقيا) في أوائل الثمانينات مصيف التحرر والمايوهات زحف المد المتحفظ وامتد إلى أن وصل إلى (مرينا)، وحاولت مرينا التمدد إلى مناطق أكثر رحابة وحرية ولكن التحفظ والبوركيني أسرع وامتد وتجاوز، والآن يجري سباق بين التحفظ والبحر بمتطلباته وملابسه وعليه اتجه المصطافين إلى ما بعد (مرينا 7، وأمواج ومراسي) والهروب مستمر واقترب من مرسي مطروح ومنه الي قرب الحدود الليبيه وليس لي إلا الدهشة.
- انطلقت إلى المكتبه فقد اقترب موعد الندوة وتوقعت أن تكون المكتبة وبعد أن شاهدت طابور الطيبين من جمهور المهرجانات وتقليد الشكل بلا مضمون توقعت أن تكون الندوه خالية من الجمهوو وأنا فقط متحدثاً ومعي مطرب شاب وملحن سيغني للمطربين الكبار وتترات لعمار الشريعي وأمثاله والشاعر القدير وأبرز مثقفي الثغر الشاعر والمطرب السكندري أحمد بسيوني.
- حين اعتليت المسرح وجدت جمهور مختلف شكلاً وموضوعاً زحام سيدات وفاتنات ومحجبات فضليات وشباب وفتيات عرفت بعد الحفل أنهن من طالبات كلية الإعلام وبعضهن من كليات سياسة واقتصاد ورجال من مجلس الشوري وأساتذة جامعة والكاتب وشاعر الأسكندرية الكبير (عادل حراز) وكثير من مثقفين ومبدعي الإسكندرية .
- وقفت بعد الحفل استمع مستجدياً الفهم من ذلك الجمهور الذي تجاوب بشكل غير مسبوق مع ما نقدمه لدرجة أن الامن أخبرنا أننا تجاوزنا الوقت ولكن كان لتجاوب الجمهور والشباب وصعودهم علي خشبة المسرح أثر إيجابي جدا على نفسيتي والمشاركين، فقد أدركت أن مصر والفن الأصيل بخير ولكن الطحالب لن تعيش في محيط الفنون الراقية فهي تبحث عن أماكن أخري وبيئة مختلفه تختلف عن جماهير وشباب الأسكندريه والمكتبه العريقة.
وسوف يسأل البعض عن وما هو الحل أيها الحالم والعاشق والغيور على الأسكندرية منبع الفن والمبدعين والإجابه: على الدولة أن تدرك خطورة ما نعيشه من بعض حالات فنون (التيك أوي) وفنون الاستسهال وحفلات المصايف التي لا هدف ولاقيمة لما تقدمه فقط في رقص الشباب والشابات ووسط مناخ من دخان يجعل الرؤية للمشهد بكامله في حالة معتمة وسوف تدفع فواتير ذلك إذا تجاهلنا هذا المشهد العبثي شكلاً وموضوعاً.
من هنا لا بد من فرز لما يقدم للجماهير وهذا الدور منوط به الدولة و الإعلام على الخصوص ويعود التليفزيون المصري وماسبيرو ليفتح المجال للفنون التي تستحق وكما كان يحدث في الماضي، أما ان يترك الامر إلى القنوات الخاصة فأنا أجزم أنها سبب ظهور كائنات المهرجانات وسبب الترويج لها، فقد تسابقت تلك القنوات إلى تقديم تلك النوعية لأنها أكثر شعبيه وجذباً لجمهور العشوائيات والتوكتوك والقري والنجوع والترند، وبذلك تزيد المداخلات التليفونية وتزيد الإعلانات وتتسع ابتسامة المذيع الطيب فسيرضي عنه صاحب القناة، وقد ينال مكافأة أو برنامج إذاعي يطاردني في العربة وعلى الكباري يقدم لي برامج وضحكات الهطل فيزداد جمهور حفلات الشواطئ ويرتفع ضغطي.
إنها دعوة للانتباه لمن لا يعرف تأثير الفنون والتصالح مع الجمال علي العقل الجمعي والمواطن، المسرح ياسادة والسينما والأدب والإبداع الحقيقي هما أسباب التقدم والرقي حين تبدع أنت تضيف للجامد وتخرج عن التقليدي وتجدد، حين تضيف أنت أبدعت بعد معرفة يأتي منها الخلق والتجديد، وأوضح أن الإبداع يشمل كل مناحي الإضافات للتقليدي فيشمل الاختراعات والابتكارات والتجويد وهما سبب النهوض.
مصر تنطلق ويعمل المخلصين بها ونعيش في أمان رغم ما يحدث حولنا من حروب ودمار ومناخ متغير وبيئه وتحولاتها وتعقد الاجتماعات في كل العالم للحلول والسيطرة على الأوبئة، وبإذن الله القادم لخير الإنسانيه وعلينا أن نقف في مصاف الدول الكبرى والعظمى، فمصر عريقة برجالها ومحبيها ومبدعيها وفعلاً مصر تنطلق وتستحق.