رحيل المايسترو (كمال هلال) الذي تنبأ بنجومية (نجاة)، وفيروز أهدته آلة (تشيللو)
كتب : أحمد السماحي
في صمت يشبه صمت القبور، رحل عن عالمنا أول أمس في السويد المايسترو المصري العالمي (كمال هلال) عن عمر يناهز الـ 90 عاما، رحل ولم يشعر برحيله أحد ودون كتابة كلمة واحدة عنه في أي موقع أو جريدة، رغم ما قدمه للموسيقى الكلاسيكية تحديدا، فهو أول قائد مصرى يتم إعداده ليتخصص فى الموسيقى العالمية، وحصل على العديد من الشهادات العالمية في الموسيقى، وعمل كعازف وراء كل مطربي مصر والخليج، كما عزف وراء المطربة اللبنانية الكبيرة فيروز، وأهدته آلة (تشيللو)، ولحن لإبراهيم حموده، ولفرقة رضا العديد من الأغنيات أشهرها (جرحوني عيونه يا با) للمطرب عمر فتحي.
ربطتني صداقة وطيدة مع هذا الفنان العظيم، وأجريت له حوار ا طويلا في جريدتنا الغراء (الأهرام)، وعندما أطلقنا بوابة (شهريار النجوم) قدمته ضمن حلقات (مظاليم الفن) لأن حياته الشخصية والفنية بهرتني لأنها تصلح لفيلم درامي لا يصدق، لما فيها من أحداث مشوقة وغريبة جدا.
فقصة حياته وحبه وعشقه للموسيقى قدوة ومثل أعلى لمن يريد التعلم، فطفولته لم تكن سعيدة بالمرة، وأيام السعادة فيها لا تذكر، حيث نشأ فى حى (القلعة) هذا الحي العريق في بيت متواضع لأسرة فقيرة جدا، مات عائلها الوحيد فاضطر أشقائه الكبار للعمل فى مهن بسيطة حتى يستطيعوا مواصلة الحياة، بعد سنوات قليلة من مولده وكان آخر العنقود، عمل فى أكثر من مهنة (ترزي، مكوجي، وحداد)، وفى كل هذه المهن كان يتميز بالشقاوة الشديدة.
التعرف على الموسيقى
فى أحد المرات ذهب هو ووالداته لزيارة شقيقته المتزوجة والتى تعيش فى (شبين الكوم) مع زوجها وأولادها الخمسة، وفى أحد الأيام وأثناء لعبه فى الشارع، وجد فرقة موسيقية من الشباب تعزف موسيقى جميلة جدا، وتجوب شوارع المدينة، فأعجبه عزفها جدا، ومشي هو وبعض الأولاد ورائها، ينتقلوا من شارع إلى حارة، إلى أن دخل مكان كبير له سور عالي وأغلق البواب الباب وراء الفرقة.
الدخول إلى الملجأ
رجع الطفل (كمال هلال) وحكي لشقيقته وزوجها بانبهار شديد ما رأي وما سمع، وعندما سأل عن والدته قالوا له: (إنها رجعت مصر!)، وأصيب كطفل بحالة من الذعر والبكاء الشديد، وبعد مرور أكثر من يوم هدأ، وفى أحد الأيام أصطحبه زوج شقيقته لنفس المكان الذى دخلت فيه الفرقة الموسيقية، واكتشفت فيما بعد أن هذا المكان هو ملجأ للأيتام، حيث أودعه زوج شقيقته الذى كان يعمل بمرتب بسيط في هذا الملجأ بالاتفاق مع والدته وشقيقته، ومكث فى هذا الملجأ حوالي ست سنوات، لم يزره خلالها أحد من أهله !
في الملجأ زرع ربنا في طريقه ست إيطالية كانت ينبوع حنان وعطف وأم لكل أطفال الملجأ إسمها (ماما هداية)، هذه السيدة عوضته عن افتقاده لحنان أمه، كما تعلم أشياء كثيرة فى الملجأ منها القراءة والكتابة، وأهمها الموسيقى التى أكرمه الله بحبها حتى يسهل له طريقه، وكان فى الملجأ أستاذا للموسيقى إسمه (متولي عبدالرحمن) كان له مقطوعات موسيقية تذاع فى الإذاعة المصرية علمه العزف على بعض الآلآت الموسيقية، فعشق الموسيقى والعزف على الآلات.
الخروج من الملجأ
كان يوم خروجه من الملجأ يوما صعبا جدا، هيخرج يروح فين؟!، وأثناء خروجه وجد مدرس رياضة لسمه (عبدالعزيز فهمي) واقف على الباب، فسأله وهو خائف ومتردد: (يا أستاذ أنا بحب الموسيقى جدا ونفسي أكون موسيقي كويس أعمل أيه؟!) فقال له: (أي مكان تستقر فيه اسال الناس الموجودين فيه، مافيش مكان هنا لتعلم الموسيقى)، وكانت هذه النصيحة هى الباب السحري الذى دخل منه عالم الموسيقى.
اللقاء مع (قنديل وعلي فراج)
بعد عودته لوالداته فى حي القلعة، وكان يوما دراميا صعبا، سأل بعد أن هدأت نفسه عن مكان لتعلم الموسيقى، فدلوه على معهد (إبراهيم شفيق)، وهو معهد خاص غير رسمي وبالفعل التحق به، وقابل هناك المطرب (محمد قنديل)، والموسيقار (على فراج)، وعازف العود الشهير (محمد جمعه)، وتوطد بينه وبينهم أواصر الصداقة، وتعلم فى المعهد قراءة وكتابة النوتة الموسيقية.
العمل في محل آلات موسيقية
فى هذه الفترة قابلت (كمال هلال) مشكلة كبيرة جدا وهى عدم وجود آلة موسيقية خاصة به يعزف عليها، وظروف أمه وأشقائه المادية لا تسمح أن يطلب منهم فلوس لشراء آلة موسيقية، وأثناء تجواله فى ميدان الأوبرا عثر على محل إيطالي لبيع الآلآت الموسيقية، ودخل وتحدث مع صاحب المحل وطلب منه أن يشتغل فى المحل، وكان الله كريما معه فوافق الرجل.
وبالفعل التحق بالعمل فى المحل، وكانت سعادته لا توصف، فكان يحتضن الآلآت ويقبلها من شدة حبه للموسيقى، وبعد عمله لشهور، توفر معه المبلغ المطلوب لشراء آلة (التشيللو)، فاشترها، وترك العمل وكان يومها أسعد شاب فى مصر، فكان يجمع شباب القلعة ويجلس بعد صلاة العشاء ويغلق جامع (الرفاعي)، ويعزف لهم ما يطلبونه من أغنيات شهيرة.
العمل مع الكسار
بعد أن أمتلك آلة (التشيللو) كانت أي تكوينات فنية تبدأ كان يذهب للعمل معهم، وفى أحد الأيام ذهب من تلقاء نفسه للعمل فى مسرح (علي الكسار) فى روض الفرج، وفي المسرح تعرف على الطفلة (نجاة الصغيرة)، وكانت تربطه بها علاقة جميلة جدا، فوالدها كان بمثابة أب له، فشقته كانت فوق محل الآلآت الموسيقية الذى عمل فيه لفترة، وكان يحبه ويعطف عليه كثيرا، وأثناء عزفه خلف (نجاة) أعجب بمقدرتها رغم صغر سنها على غناء أغنيات كوكب الشرق (أم كلثوم) بكل مهارة وتمكن، ويومها توقع لها النجومية الكبيرة.
معهد الموسيقى المسرحية
أثناء عمل (كمال هلال) في فرقة (علي الكسار) نصحه البعض بالذهاب لمعهد الموسيقى المسرحية، وفى هذه الفترة لم يكن معه شهادات لكن المعهد كان يقبل الطلاب دون القيد بمسألة الشهادات، وبالفعل التحق بالمعهد وتخصص فى العزف على آلة (التشيللو)، وكان معظم الأساتذة الذين يدرسون لهم من الإيطاليين والأجانب.
إبراهيم حمودة .. هل ع الكون
بعد تخرجه من معهد الموسيقي المسرحية، عمل كمدرس موسيقى فى مدرسة ابتدائية، وكان يعزف مع الفرقة الماسية بقيادة (أحمد فؤاد حسن)، وتردد اسمه بقوة فى الوسط الموسيقي والغنائي، ولحن أغنية (هل على الكون يوم جديد) للمطرب إبراهيم حموده، وفى عام 1958 فكر المجلس الأعلى لرعاية الفنون وكان من بين أعضائه كوكب الشرق أم كلثوم، والموسيقار محمد عبدالوهاب، فى كيفية وجود متخصص مصرى فى قيادة الموسيقى العالمية، ولكى يحدث ذلك تم تشكيل لجنة فنية على أعلى مستوى برئاسة المايسترو (فرانزلتشاور) لاختيار فنان واحد من ضمن المُتقدمين للسفر للبعثة بعد اجتيازه للاختبار! وتقدم العشرات من الموسيقيين لكن ربنا وفق (كمال هلال) ونجح فى الاختبار وكان الترشيح الأول للسفر إلى النمسا وتحديدا (أكاديمية فينا) كأول قائد مصرى يتم إعداده ليتخصص فى الموسيقى العالمية.
أول قائد مصرى
كانت مدة الدراسة حوالي ست سنوات، درس خلالها فن التأليف الموسيقى، وحصل على الدبلوم، كما حصل على دبلوم قيادة الكورال، كما درس قيادة الأوركسترا على يد الأستاذ العالمى (هانز اشفارروفسكى)، فضلا عن دراسات خاصة مع الفنان العالمى (زولتان كوداى) بالأكاديمية العالمية بمدينة (نيس) الفرنسية، ورشحه أستاذه لقيادة أول حفل مع الأوركسترا السيمفونى لمدينة (نيس)، وكتبت عن نجاحه بالحفل الجرائد الفرنسية.
سالمة يا سلامه
لم يقتصر نشاطه على هذا فقط، فقدم حفلات فنية ناجحة بأكاديمية (فيينا) أثناء دراسته، ولعل أشهرها فى بداية الستينيات عندما قام أحد أستاذته فى التأليف الموسيقى بإقامة حفل للذين يدرسون تأليف موسيقى، ويومها وقع اختياره على أغنية (سالمة ياسلامة) لتطويرها بشكل أكاديمى ودرب عليها كورال (أكاديمية فيينا) باختلاف جنسياته، وقام بقيادة الحفل بنجاح ووضع نسخة من هذا العمل فى المكتبة الفنية بأكاديمية فيينا، وبالمناسبة تأكد (هلال) أن هذه الأغنية ليست من تلحين سيد درويش! كما هو معروف ولكن علم بعد بحث طويل إنها فلكلور مصري كان يغنيها أهل باب الشعرية تحت عنوان (ناعمة يا غريبة).
الرجوع إلى مصر
بعد كل هذه الشهادات العُليا من أكاديمية (فيينا) بالنمسا والحفلات التى قدمها على مسارحها ومسارح فرنسا، رجع كمال هلال لمصر متفائلا بنقل نجاحاته التى حققها بالخارج لوطنه الذى أنفق عليه لمدة 6 سنوات لكى يصبح أول قائد مصرى للموسيقى العالمية فى تاريخ مصر، وكانت دار الأوبرا فى ذلك الوقت يديرها الصاغ (صالح عبدون) الذى تعود على التعاقد مع القادة والفنانين الأجانب، وفوجئ بوجود (هلال) وشهاداته فحاربه بشراسة حتى لا يُحرم من المزايا التى يحصل عليها من قادة الأوركسترا الأجانب الذين كانوا يدعونه لزيارة أوروبا كل عام.
الكويت ولبنان والسويد
بعد عودته للقاهرة قابل (ثروت عكاشه) وزير الثقافة، فقرر تعينه كمدرس لآلة التشيللو، ولعدم اقتناعه بهذا الحل قرر العودة مرة أخرى إلى فيينا، وهناك تعرف على مُغنية الأوبرا المجرية (أيديت) وتزوجها، وأنجب منها ابنته الثانية (سميرة) لتكون شقيقة لابنته الكبرى (وفاء) من زوجته الأولى، وعاد إلى القاهرة لكن وجد الحال لم يتغيربالنسبة له فأرسل رسالة لإذاعة الكويت للعمل فى الفرقة الموسيقية الخاصة بها، لكن مر وقت ولم يأتيه رد، فاضطر للسفر إلى السويد، وهناك لم يكن يملك ما يكفى لمصاريفه اليومية فاضطر للعمل كعازف (تشيللو) فى إحدى الفرق، وبعد أسابيع قليلة جاءه عقد من إذاعة الكويت للعمل كعازف تشيللو، فسافر وإشتغل مع كل مطربين الخليج الكبار.
فيروز تهديه آلة تشيللو
بعد حوالي سنة من عمله فى الخليج ونظرا لضعف المرتب، سافر عن طريق زميله الفنان (عبود عبدالعال) إلى لبنان وهناك قابل صديقه الموسيقار (فريد الأطرش) الذى عزف معه كثيرا فى مصر، حيث كان يصور آخر أفلامه فعزف معه أغنيات الفيلم، وكان من بين الموجودين عازفين مع (الأخوين رحباني)، ونال عزفه إعجابهم، وعرفوه على (الأخوين رحبانى) وفيروز وعمل معهم، وكان معه زميله الموسيقار الراحل (ميشيل المصري).
من الأشياء التى كان يعتز بها (هلال) لـ (جارة القمر) وقوفها بجواره، ففى أحد الأيام وأثناء ذهابهم للاشتراك فى مهرجان دمشق الدولي حدثت له حادثة وكسرت آلة (التشيللو) الخاصة به، فكانت فيروز تزوره يوميا لكي تطمئن عليه، وأهدته آلة (تشيللو) جديدة بدلا من التى كسرت.
فرقة رضا
من المحطات الهامة فى مشوار (كمال هلال) عمله لسنوات طويلة مع فرقة (رضا للفنون الشعبية)، حيث رشحه الفنان الكبيرالراحل محمود رضا رئيس الفرقة وجعله قائدا وملحنا للفرقة بعد رحيل العبقري علي إسماعيل، ووقع عقدا مدته عامان، وقد اشتغل فى العام الأول من مؤلفات (على إسماعيل)، وفى العام التالى كانت الفرقة حصلت على ميزانية جديدة وتم تلحين أعمال جديدة ناجحة ارتفعت بمستوى الفرقة من المحلية للعالمية وحملت اسم (هلال) عاليا، ومن أشهرما قدمه لـ (فرقة رضا) أغنية (جرحونى عيونه يابا) التى قام بغنائها المطرب (عمر فتحى)، وبسبب هذه الأغنية، أصبح واحدا من أوائل النجوم الشباب بين أبناء جيله، واستمر عمل (هلال) مع (فرقة رضا) حوالي عامين، قدموا فيهم العديد من الأوبريتات والاستعراضات الناجحة.
عاشق الروح
من المحطات الرئيسية أيضا فى مشوار (كمال هلال) إعادة تلحينه لأغنية (عاشق الروح) التى قدمها مع أوركسترا القاهرة السيمفوني وفرقة كورال الأوبرا، فى حضور الموسيقار (محمد عبدالوهاب) الذي أعجب بها جدا.
التكريم
أثناء كتابتي عنه في (شهريار النجوم) في باب (مظاليم الفن) سألته هل تعتبر نفسك من مظاليم الموسيقي فى مصر؟ فقال: بالتأكيد فحتى الآن لم يتم تكريمي التكريم الذى استحقه، فضلا عن وجود أشخاص يغتالوني معنويا، منهم ناس وقفت بجوارهم وساعدتهم كثيرا منهم تلميذي المايسترو (أحمد الصعيدي)!.
وأخيرا هل نطمع من الدكتور (مجدي صابر) رئيس دار الأوبرا المصرية أن يتم تكريم هذا المايسترو الذي تعرض لظلم كبير في حياته، وألغي له أكثر من حفل موسيقي في دار الأوبرا، على أن يكون تكريمه في مهرجان الموسيقى العربية القادم؟!.