كتب : محمد حبوشة
لاشك أن متعة خاصة أدركتني وأنا أشاهد مسلسل (وش وضهر) ذو الحلقات العشرة، على مستوى السيناريو والإخراج والأداء التمثيلي العذب، وربما يدرك من يشاهد هذا المسلسل أنه أول مسلسل يتم تصويره خارج القاهرة والأسكندرية لايف، على عكس أغلب الأعمال يتم تصويرها حاليا، وحتى إن كانت القصة تدور في محافظة أخرى يكون التصوير داخلي لا تشعر بروح المكان كما في (وش وضهر)، حيث أخذنا صناع المسلسل في زيارة لشوارع طنطا ومعالمها المميزة، تسير في الطرقات تكتشف معالم المدينة وكيف يعيش سكانها مواقع تصوير مختلفة عن المعتاد اختيارها دائما في معظم الأعمال، إضافة إلى إتقان لهجة هذه المدينة المسكونة بروح العارف بالله سيدي (أحمد البدوي) بتجلياته الصوفية الغارقة في ملكوت الله جل جلالة في صفاء ودعة.
اعتمد صناع العمل على الواقعية خاصة في كل شيء حتى إطلالة أبطال المسلسل وأنت تشاهدها تشعر أنك تشاهد حياة طبيعية وليس مشاهد تمثيلية، وربما يرجع ذلك لبراعة مصممة الأزياء (ريم العدل) التي اختارت ملابس تناسب كل شخصية، فـ (ضحى/ ريهام عبد الغفور) التي تعمل ممرضة ترتدي ملابس واسعة مع الحجاب، تختلف تماما في الشكل والملابس عندما تظهر بشخصية الراقصة، وأيضا (جمال/ إياد نصار) أمين مخازن شركة الأدوية ملابسه وشكله يختلف تماما عن (جلال) الذي يقنع كل من حوله أنه طبيبا ناجحا، رغم انتحاله صفة الطبيب.
أظهر المسلسل؛ بساطة الممثلين في الملابس وأنه غير مهندم بالأخص أنها شخصيات شعبية حالتهم المادية غير مستقرة، وبرزت ذلك (ريم العدل)، مصممة أزياء العمل في ملابس (ريهام عبد الغفور) البسيطة للغاية وغير متناسقة في الألوان، ولكن لتبين أنها شخصية تعمل ممرضة في عيادة بسيطة في طنطا، وأيضا عدم وضع ريهام أي مكياج نهائي غير بسيط، لتوضح ملامح شخصية (ضحى)، وكيف تمر من ضغط، وأنها الأخت الكبيرة التي تجهز شقيقتها، ومن ثم لاقى الجمهور تلقائية في ردود الأفعال أيضا، وعدم تفاعل زيادة في الأداء.
ظهر في المسلسل مدى حب شخص لأغاني وردة، وذلك الدور الذي جسدّه بعذوبة شديدة إسلام إبراهيم، وهو (عبده وردة)، نسبة إلى أنه وهو طفل كان لا ينام إلا بسماع أغاني وردة، مما جعله يسخر حياته للموسيقى والفن، ويغير تراكات أغانيها للعصر الحالي، وأهم ما يميز العمل أنه خلفية من كل شخصية عمل متكامل، حيث سردت (مريم نعوم)، مؤلفة العمل؛ تاريخ (عبده وردة)، ولماذا سمي بهذا الاسم، ومدى ارتباط (ريهام عبد الغفور) بالسيد البدوي، وتحدث كل أبطال المسلسل بلهجة أهل طنطا، وذلك قليل ما يحدث في الأعمال، أن يكون أبطال العمل متمكنين في اتقان اللهجة وكلمات معينة يتحدث بها أهل البلد، وذلك جعل الجمهور منبهر أكثر بالعمل، وحدث كل هذا في كل حلقاته حتى النهاية.
وتبدو لي قصة المسلسل مشوقة من البداية فعلي الرغم من أننا نعرف أن البطل والبطلة يكذبان لكن كيف سيتم اكتشاف أمرهما، في كل حلقة تظن أنهما سينكشفا وتشعر بنفس التوتر الذي يعيشاه مع أجواء كوميدية خفيفة، ومع كل حلقة هناك حدث جديد فلا تشعر بملل مع وجود شخصيات تظهر في مواقف مختلفة، حتى أصبح مسلسل (وش وضهر) إدماني يعنى أن تشاهد الحلقة الأولى لابد أن تشاهد باقي الحلقات حتى العاشرة، بداية المسلسل كانت جميلة جدا ورائعة سواء من التمهيد حتى البناء الدرامي الجميل، العلاقة بين (ضحى وجلال) مليئة بالدراما والرومانسية والكوميديا منها العادية والمؤلمة بحسب المواقف التي تدور حولها الأحداث التي قامت بعملية تشريح للشارع الشعبي وتلسيط الضوء على معاناته وعبثيته في كثير من الأحيان، بحلوها ومرها.
أما على مستوى الرومانسية والدراما فكانت تتمثل في علاقة (إياد وريهام) والتي كانت تتمثل في نقطة التحول الوحيدة في المسلسل وهى التي صنعت العلاقة بين البطلين وجعلتهم يتقربان من بعضهم بعضا لتكون بينهما علاقة رومانسية وحب، وكان لها أيضا تصور رائع لبساطة وحلاوة المواطن الشعبي المصري، فالسيناريو من نوعية السهل المتتنع المليئ بالتفاصيل الذي يعطيك فرصة للعديد من القراءات الدرامية السسيولوجيا والنفسية الاجتماعية ما جعلنا ندمن الجانب الرومانسي أوالكوميدي، فضلا عن النقد الاجتماعي في تشريح غير مخل للشارع الشعبي بالنسبة للشخض داخل المجتمع، ولعل الأهم في هذا المسلسل هو الاهتمام بالتفاصيل وهو ما خلق واقعية كبيرة في سيناريو (مريم ناعوم) الذي جاء بعناية فائقة.
لقد هرب السيناريو من الزحمة والتكلف بببساطة غير مخلة، فقد خرج (جلال) من زحمة القاهرة ذاهبا إلى طنطا حيث الهدوء وحياة البساطة، وذلك بحكبة فية متقنة تعتمد على البساطة، وأيضا كانت النهاية سعيدة وجميلة ومنطقية إلى حد كبير، أما الحوار فقد كان رائعا جدا سواء كان بين الشخصيات أو الحوار السردي خاصة ذلك الذي كان يقوم به (إياد نصار) أو (ريهام عبد الغفور)، وعلى مستوى بناء الشخصيات فقد كان مراعيا لعدة جوانب وأبعاد كثيرة في ثنايا الأحداث التي كانت تسير على وتيرة واحدة لاتتغير كثيرا، وهو ربما تسبب في قدر ضئيل من التطويل، لكنه يظل مقبولا في هذه النوعية من الدراما الاجتماعية التي نقتقدها هذه الأيام.
أجمل مافي (وش وضهر) هو تصوير الشارع المصري بصورته الحقيقية والمنطقية بعيد عن التهويل أو الصبغة التجارية وبعيدا عن البلطجة أو تصوير الناس بصورة سيئة كما هو سائد في مسلسلاتنا الحالية التي تخاصم القيم والمنطق، ومن ثم كان الطابع العام للمسلسل هو الهدوء والبساطة، الأمر الذي يستحق الإشادة لصالح صناع هذا المسلسل، خاصة إقحامه لذوي الاحتياجات الخاصة متمثلا في (أخو ضحى) وأيضا في (بائعة العرائس) ما يعد دعما معنويا لهذه الفئة.
وعلى مستوى التمثيل فقد جاء بوتيرة السيناريو الرائع جدا لـ (مريم أبو عوف) والإخراج الأكثر براعة لـ (مريم أبو عوف)، فقد جاء الأداء بقدر كبير من البساطة والألفة خاليا من التكلف بحيث لم يكن هنالك تمثيل فوق الشخصية أو تحتها، حتى تكاد تشعر أن كل الممثلين المشاركين في العمل قد درسوا السيناريو وفهموه على نحو جيد جدا الشخصيات التي يجسدونها وأيضا الرسائل التي يهدف إليها السيناريو فتقمصوها كما يقول كتاب التمثيل الاحترافي.
ومن هنا برع (إياد نصار) في شخصية الطبيب المزيف من خلال تجسيده لمشاعر وتقلبات غاية في الدقة والإبداع التمثيلي السهل جدا الذي تكاد فيه أن تشعر أنه لايمثل بل يعبر عن شخصية حقيقية داخل نسيج المجتمع، وكذلك كانت (ريهام عبد الغفور) على قدر هائل من الاجتهاد في شخصية (ضحى)، تلك الشخصية الشعبية التي تماهت معها في شغبها وخربشاتها الفطرية في هدوئها أو انفعالها، ففي السكون تبدو ملامح التراجيديا مرسومة بدقة على وجهها، وفي حالة الحركة تظهر برونق شعبي آخاذ، أما إسلام إبراهيم الذي عادة ما يقدم أدوار الشر بأسلوب كوميدي على طريقة (سيد زيان)، فقد بدا لنا هنا مختلفا على مستوى التعبير بالمشاعر ولغة الجسد التي بدت غاية في الروعة والجمال.
ونأتي إلى ثراء جبيل التي اعتادت أن تقوم بأدوار الفتاة البسيطة الهادئة، لكنها في (وش وضهر)، ظهرت كقطة شرسة أحيانا وأحيانا أخرى تبدو تلك الفتاة المقهورة والمغلوبة على أمرها بفعل خصائص مجتمعها الذي تعيش فيه ظروفا صعبة مرغمة عليها، وقد جاء أداءها سهلا بسيطا لا يخلو من قدرة على إبراز مشاعر الغصب المخلوط برومانسية معقدة إلى حد كبير، ومن ثم كانت بارعة في أدائها وإظهار مشاعرها الداخلية والخارجية بأداء غير معهود منها في أعمالها السابقة، وخاصة عندما كانت ترقض على المسرح بعدم اكتراث لاهية غير مقتنعة بما تفعله، أما محسن منصور فقد لعب دورا غاية في الروعة حيث تجسد نظرات عينيه كل معانى الشر، حتى أنه يصيبك بالرعب في أثناء تجسيده لشخصية (أبو البراء) بملامحة القاسية جدا، لكن سرعان ما يذوب هذا الشعور عندما يجنح نحو الكوميديا على جناح (إفيه) خاص به ويصبح (لازمة) له طوال أحداث المسلسل، ويكفي أن تنظر إلى عينيه وهو يلعب أدوار المجرم أو رئيس العصابة أو رجل الدين المتلون كحرباء قاتلة، وتتعجب من قدرات هذا الممثل المخيف على تجسيد كل معانى الخير والطيبة والأصالة في قلب أكثر الأحداث تراجيدية حين يقلبها إلى مواقف ضاحكة، بلغة جسد معبرة للغاية كما تبدو على ملامحه المتجهمة في غالب الأحيان وهو ما يجعله ممثلا قديرا على دراية بدواخل النفس البشرية، ولقد لاحظت أن فريق التمثيل بهذا العمل متكاملا على مستوى الشكل والمضمون، كما جاء في أداء ( شريف دسوقي، ميمي جمال، محمود قابيل) حيث كان كل واحد منهم جيدا في دوره.
ويبدو لي أن إخراج (مريم أبو عوف) كان رائعا، فقد استطاعت أن تلخص في مشهد واحد 20 – 30 دقيقة، فكل مشهد كان يحكي حكاية بحيث يختصر كل مشهد عدة مشاهد، فكل مشهد صامت في هذا المسلسل يجعلك تتعمق أكثر بحيث تدرك تفاصيل كثيرة بالفعل، ومن هنا يبدو مسلسل (وش وضهر) كفيل بأن يغير مزاجك 180 درجة ، فلو أن مزاجك النفسي منحرف فهو كفيل باعتداله إلى حالة السعادة الفرح والشجن، وأنا شخصيا عندما كنت أشاهد هذا المسلسل كنت في غاية الاستماع فاضحك وابتسم ولدي سعادة غامرة من الداخل، حيث يقدم البساطة والقناعة في أبسط صورها، كما أنك تسطيع أن ترى الحياة ملونة بألوان قوس قزح في بهاء ورقة وعذوبة، وتمنيت أن يكون هذا المسلسل أكثر من عشر حلقات، لكن النهاية السعيدة والمفتوحة يمكن أن تشجع صناعة على استكمال أجزاء أخرى.
هنالك أكثر من ماستر سين في ثنايا الحلقات العشرة، لكني أتوقف عند مشهد لقاء (ضحي) بـ (جلال) على سلم القسم المحجوز فيه على ذمة قضيتي (انتحال صفة طبيب) وتبديد (عفش زوجته الأولى) بعدما قررت الانتقام منه على طريقة كيد النساء، وقد جاء على النحو التالي :
يقف كل من (ضحى وجلال) على السلم حيث يقول (جلال): مش عاوزها تعتبيني .. تسألني؟!
ضحي : الست الكويسة تقف جنب جوزها في وقت محنته .. لما المحنة تعدي يجيي وقت العتاب.
جلال : بس أنا مش جوزك .. جوزك جلال فرحات .. دكتور في الخيال .. أنا جمال فرحات .. عامل في شركة أدوية هربان!.
ضحى : هى الواحدة منا لما تتجوز ما بتتجوزش اسم في بطاقة .. بتتجوز راجل من لحم ودم .. وانته جوزي .. سواء انته شايف كده أو لأ .. عايزني أعاتبك .. حاضر : ليه كذبت على ؟.
جلال : كنتي عاوزاني أقولك ايه ؟ .. أقولك الحقيقة ؟ .. أقولك ان أنا فاشل .. أنا مش مهم .. أنا ماليش لازمة .. أنا كنت كل ما احبك أكتر أخاف تعرفي .. أديكي عرفتي .. أنا حاريحك .. خلاص مفيش داعي تيجي تشوفيني تاني .. بس عاوز أطلب منك طلب: ده رقم واحد صاحبي اسمه ختم النسر .. كلميه قوليه إن جمال اتقبض عليه .. وهوه حيشوفلي محامي .. بعد كده انتي مش مضطرة تعملي أي حاجة تاني.
ضحى : انته ليه كذبت على يا جلال ؟ .. ليه ماقولتيش انك متجوز.
جلال : عشان أنا كداب .. بس مش أنا الوحيد اللي كدبت في العلاقة .. انتي كمان كدبتي!.
ضحى : انته كنت عارف ؟
جلال يهز رأسه : أيوه !.
ضحى : من إمتى ؟
جلال : إسألي عبده وردة.
عندئذ تنكشف حقيقة الكذب بين (ضحى وورة) لكنها تصر على مواصلة الطريق وتذهب لختم النسر ويقوم بنتكليف محامي وتحكم المحكمة على (جلال) بالسجن لمدة سنتين، وتنظر ضحى خروجه (جلال) من السجن ليبدأ حياة جديدة في أحضان الريف المصري حيث حياة البساطة وراحة البال بعيدا عن صخب المدن المشحونة بالغضب.