بقلم : محمود حسونة
عجيب أمر بلادنا، شغلت الدنيا منذ فجر التاريخ ومازال علماء العالم عاجزين عن فك ألغاز حضارتها الممتدة في أعماق التاريخ سبعة آلاف عام، والتي سبقت في بعض علومها ما تعيشه الإنسانية اليوم، وما تزال تشغل العالم وتنال مساحة كبرى في الإعلام العالمي وإن كان كثيره اليوم يكتفي بالتنقيب عن ما يؤخذ عليها، وعندما لا يجد ما يريده يفبرك ويختلق ما يملأ به مساحته الورقية أو الفضائية أو الإليكترونية.
وبعد أن كانت مصر القديمة شاغلة الدنيا وهى عاكفة على بناء المجد ووضع لبنات العلم وتشييد ما ظل خالداً ومبهراً ولغزاً حتى اليوم، أصبحت اليوم شاغلة – بجانب العالم الخارجي المتربص والمتآمر والمتحالف والمتعاون – لقطاعات من أبنائها، وبينهم الحاقد على تاريخها وجغرافيتها والذي يريد هدمها وإعادة بنائها على مقاسه، ومنهم الوطني الذي يعمل ويكد لأجل أن تستعيد مكانتها المفقودة بين أمم العالم المتقدم، ومنهم الفاسد الذي يسطو على حقوق غيره ليجمع أموالاً تمكنه من الغرق في عالم اللهو والملذات، ومنهم المقهور العاجز عن اقتناص فرصة عمل وغير القادر على توفير أدنى متطلباته وتلبية أدنى احتياجات ذويه.
العالم كله يعيش في أزمة تضخم، ونار الغلاء أصبحت أكثر خطورة على سكان الكوكب من نيران الحرائق التي أكلت ملايين أفدنة الغابات وآلاف الكيلومترات الخضراء في أوروبا وغيرها خلال الفترة الماضية، ومصر ليست كوكباً مستقلاً ولكنها جزء من هذا العالم اكتوى أهلها بنار الغلاء، والذي كان بمثابة فرصة وهمية لخرفان الجماعة الإرهابية على مواقع التواصل، والذين خرجوا من دون أي معطيات للادعاء بأنها على شفا حفرة من الإفلاس، وأنها تسير على طريق سريلانكا المتهاوية، وهم لا يبصرون ما يحدث في الساحل الشمالي من إسراف وبذخ يؤكد أن هذه الدولة لن تفلس أبداً ولن يصيبها أي مكروه.
نعم، هى مصر التناقضات، وتناقضاتها تظهر بشكل جلي خلال الصيف، حيث ينقسم المصريون إلى فئة تنتقل للعيش واللهو والاستمتاع في الساحل الشمالي وهو حق لكل مقتدر لا نحسده عليه، وفئة تغلق عليها أبوابها تعاني وتضرب أخماساً في أسداس بحثاً عن سبل لتوفير أدنى احتياجاتها، وهذه الفئة الثانية تتابع عبر مواقع التواصل الاجتماعي بذخ الفئة الأولى، نادبة حظها وصابة جام غضبها عليها تعبيراً ولكما بالكلمات عبر مواقع التواصل، فئة تَستفِز وفئة تُستفَز، وهو ما يخلق أحقاداً طبقية ويثير نعرات نحن في غنى عنها في ظل التحديات التي تواجهها مصرنا ويواجهها العالم أجمع.
ما زاد الطين بلة، الأرقام الفلكية لأسعار الحفلات الغنائية التي تنتعش هذا الصيف في قرى ومنتجعات ومدن الساحل الشمالي، وهى أرقام لا تستفز الفقراء فقط ولكنها تستفز أيضاً الطبقة المتوسطة المتلاشية والمقتدرين الذين يستطيعون تلبية احتياجات ذويهم بشكل معقول ومن دون إسراف وبذخ. أن يدفع الفرد في حفل لكاظم الساهر ثمانية آلاف جنيه فهو تجاوز للمعقول، وأن يدفع الفرد عشرة آلاف جنيه لحضور حفل عمرو دياب مع شرائه لرداء أبيض قد يكلفه نفس قيمة التذكرة فهو استفزاز لكل عاجز عن توفير وجبة عشاء لأولاده وأيضاً استفزاز للقادر باعتدال، وأن يصل سعر التذكرة لحفل روبي 52 ألف جنيه كما ذكرت صحيفة معنية بالمال والاقتصاد أو حتى 35 ألف جنيه كما ذكر أحد المواقع فهو جنون في جنون، وهو ما لا يثير الاستفزاز فقط ولكنه يثير الحنق والغضب لدى قطاعات عريضة من الشعب المصري، فهذه الاثنين وخمسين ألف جنيه لا تحل مشكلة فرد بل قد تحل مشاكل أسر تعاني الحرمان والجوع وتعاني لأجل توفير أدنى حقوقها المعيشية والحياتية.
المال وسيلة للعيش، ومن حق من يمتلك منه الكثير أن يستمتع به، كما من حق شركائه في الوطن المحتاجين والمعوزين أن ينالوا منه إحساناً وزكاة وصدقة، وحقهم الأكبر هو أن لا يستفزهم ويخرج لهم لسانه بالصور والفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن حق الدولة أن تراقب هؤلاء العابثين، وأن تضبط جنوح وجموح منظمي الحفلات، وأن تحرص على أن لا تستفز طبقة اجتماعية طبقة أخرى.
الكينج محمد منير حدد لحفله في الاسكندرية سعراً لا يتجاوز 500 جنيه، لأنه ملك في خلقه وكينج في غنائه وفنان يحترم جمهوره بصرف النظر عن قدراته المادية وإنسان يحترم مجتمعه ويحرص على سلمه الاجتماعي، أما المغنين الذين يبالغون في أجورهم ويتسابقون استفزازاً للناس، فالفن بالنسبة لهم وسيلة وليس غاية، والمال بالنسبة لهم غاية وليس وسيلة، والسلم الاجتماعي أمر لا يعرفونه ولا يدركون له أبعاداً.
نعم، لا يمكن إنكار أن لدينا طبقة بل طبقات تعاني، ولكن أيضا لدينا من يملكون الكثير من المال ولدينا من يسرفون في إنفاقه ولدينا القادرين على تحمل مسؤولياتهم باعتدال، أما الخرفان الذين يستغلون الظروف العالمية وعواقبها على العالم ومن ضمنه مصر، والتي أدت إلى ارتفاع الأسعار هنا وهناك وارتفاع أسعار بعض العملات أمام الدولار وعلى رأسها اليورو الأوروبي فهم مغفلون، ولا يبنون شائعاتهم على أي أسس علمية أو على أي معطيات، ويكفي ما تم إعلانه رسمياً أن 12 مليون مصري عبروا بوابات الطرق المؤدية للساحل بمدنه وقراه ومنتجعاته للاصطياف، ويكفي حركة البيع والشراء على شاليهات وفلل القرى الممتدة على الساحل من الأسكندرية وحتى السلوم، ليدركوا أن مصر ليست فقيرة واقتصادها لن ينهار وشعبها سيظل في رباط في مواجهتهم وفي مواجهة غيرهم من المتربصين والمتآمرين إلى يوم الدين.