بقلم الروائي والفنان التشكيلي : عبد العزيز السماحي
إنه لا يمثل أدواره بل يمثلني أنا ويمثل الملايين من أبناء جيلي ..
ليس أصعب مهمة من تجسيد حلم للوطن وأحلام الأجيال التي تعيش فوق أرضه لسنوات وعقود .. ذلك أن تلك المهمة تحتاج لبشر من نوعية خاصة بقدرات خاصة وأفكار وعقول فريدة .. الفنان فقط من لديه القدرة على تجسيد الحلم والأمل والطموح ودواخل النفوس كنسَّاج يغزل بالخيط يومًا بعد يوم ليكتمل النسيج .. والفنان القدير الراحل (نور الشريف) كان من أولئك النُسَّاج وكانت أدواره تشبه الغزل المتين الذي يلتحم وتضفَّر بالعبقرية والجمال والمقدرة .. استطاع أن ينسج لنا أحلامًا صارت واقعًا واستطاع أن ينسج واقع صار حلمًا وصار بعيد المنال تهفو إلى عودته القلوب.
حين أصابنا الانكسار والهزيمة في الحب – وكلنا قد فعل – جاء (حبيبي دائمًا) ليرصد حالة شديدة التميز والألق ويلمس أرواح الجماهير بل ويثر في نفوسهم الشجن .. وحين اضطرتنا الظروف أن نتحمل المسئولية كالأخ الأكبر الذي يحمل في عنقه مشقة الحفاظ على تماسك الأسرة وعلى إرث أبيه من الضياع جاء (سواق الأتوبيس) ذلك الفيلم العبقري الذي اعتلى فيه نور الشريف عرش التألق .. وحين استخدمنا الفن والرسم والقلم في النضال والتصدي للأعداء وإحياء القضية جاء (ناجي العلي) بمهابته وجرأته ونضاله وقد صرنا على الشاشات بطلًا لا يقل عن أبطال الواقع فالفن أحيانا بطولة مزدوجة حين تأخذ على عاتقك قضية شديدة الخطورة والأهمية.
وحين استلهمنا من قصص الأولين الحكمة والتقوى والإيمان تقربًا إلى الله (عمر بن عبد العزيز) ذلك العمل الذي أضاء النفوس والأرواح بضياء السيرة التي بدت ملامحها على وجه العبقري طوال مدة عرض المسلسل، وحين استطعنا بمهارة وقدرة وتخطيط الأبطال أن ننال من أعدائنا (الثعلب)، وحين بحثنا عن هويتنا وثقافتنا العربية (المصير) .. في كل التقلبات والأحداث والتحولات والأنواء كان حاضرًا ومؤثرًا ونسَّاجًا يغزل بقوة وبرفق ولين ورهافة كل ما جرى.
هكذا أرى هذا النجم الكبير الذي لم يكن مجرد شخص يقوم بتجسيد النصوص المكتوبة على الشاشة بل كان يتجاوز ذلك المفهوم الصغير الضيق محلقًا في سماوات أخرى ليصنع ذاكرة ووجدان وتاريخ لهذا الوطن.
(نور الشريف) الأقرب إلى عقول وقلوب الجماهير وكأنه الأخ والجار والصديق والأب حين ينقل لنا أحاسيس الحب والحزن والشموخ والانكسار فيجتاح القلوب ويتوائم مع الروح ويؤثر في النفوس.
(نور الشريف) الحكيم الفيلسوف الذي ينضح بالرؤى والحكمة أينما حل وكأنه الحكيم الكبير غاندي الذي يكشف لمن حوله الطريق متسلحًا بنور البصيرة وبُعد النظر فلا تملك حياله سوى الإكبار والانبهار .. فنان قدير بدرجة مثقف جدًّا ومُحب للوطن بدرجة عاشق .. له شخصية فنية معتبرة وكاريزما نادرة .. من أولئك القلائل الصادقين الذين يؤكدون حقيقة المقولة الخالدة (الفن رسالة) فهو تجسيد واضح لهذه العبارة، وإذا لم يكن نور الشريف في مقدمة أولئك الذين يحملون مشاعل التنوير فمن يكون ؟!
حبَاهُ الله بوجه صبوح فحين يبتسم على الشاشة تشعر بأن البهجة قادمة ترفرف حولك كالفراشات، وحين يحزن تشعر كأن البكاء يحاوطك من كل جانب، وحين ينتفض تشتعل بداخلك أحاسيس الحماسة والنضال .. أدواره التاريخية وكأنها ديوان للذكرى وللتذكرة وكأنه يسطر بالأداء سطورًا سوف تخلد في متون التاريخ وبين صفحاته الكبيرة.
(المصير، عمر بن عبد العزيز، حبيبي دائمًا، سواق الأوتوبيس، كتيبة الإعدام، هارون الرشيد، ناجي العلي، الثعلب، عمرو بن العاص) كانت رسالات عظيمة أرسلها (نور) إلى العالم ليقول أننا نمتلك إرثا كبيرًا من النضال والإيمان والقوة والحب حتى وإن غابت أو أصابها الخفوت .. (نور الشريف) حتى لحظاته الأخيرة ظل يؤمن برسالته ويحمل بيده مصباح التنوير حتى وإن ظل الفن من حوله غارقًا في غياهب الظلمات.