رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

د. ثروت الخرباوي يكتب : يا عزيزي كلنا لصوص !

بقلم الدكتور: ثروت الخرباوي

بعد غياب فكرت أن أكتب لكم اليوم مقالا مقتبسا من مقال سبق وأن كتبه ناقد فني، لا تظن بي السوء فأنا لن أسرق مقالا وأنسبه لنفسي كما هو الحادث في حياتنا الفنية والأدبية والسياسية، فلن يحدث أبدا أن أسرق بيتا من الشعر من تأليف الشاعر (عادل صابر، وأقدمه للفنان (منير)، فأنا (أكرم) من ذلك، وإذا كانت لي محاسن فهذا هو (حسني)، لذلك  فإنني سأقتبس مقالا فنيا، والاقتباس كما قلت لكم غير السرقة، فالاقتباس هو مجرد توارد خواطر ليس إلا، والاقتباس مسموح به عند أمة تعودت على النقل والتقليد، ننقل من القديم وفي الغالب ننقل دون فهم، إذ يكفي القديم حُسنا أن يكون قديما كي نقدسه، فضلا عن أننا أصبحنا منذ أجيال وأجيال ننقل من الأمم الأخرى، وهكذا دواليك، وعندنا في ذلك ألف عذر، فنحن منذ قرون لا نستطيع إنتاج المعرفة، نستطيع فقط نقل تلك المعرفة، أو تقليدها، ولنا في المقتبسة (غادة والي) التي اقتبست من فنان روسي لوحة ووضعتها على مترين ورق ثم لصقتها على جدار محطة المترو وقالت: هذا هو إبداعي، والذي ترونه الآن هو لوحة جدارية وليست ورقية!! ولله في لوحات المقتبسين شئون، ولكن ليس للمقتبسين سجون.

ومن طرائف المقالات المسروقة أن أحدهم ذات يوم سرق مقالا بالحرف الواحد من مقال قديم لي عن جماعة الإخوان، ويبدو أنه عثر عليه في صفحة فيسبوكية لأحد الذين سرقوا مقالي ولم يكتب أسفله أنه منقول، فقام السارق الثاني بأخذه ونشره على أنه صاحبه، ومن نكد الدنيا عليَّ أن أرسل صديقنا السارق هذا المقال لي ليأخذ رأيي فيه باعتباري متخصصا في هذا النوع من المقالات!! ، فما كان مني إلا أن أرسلت له ردا هو: (حاجة عظيمة في فن السيما وما يطلبه المستمعون)، ولم يفهم السارق شيئا من ردي.

التمثال لايعبر عن نهضة مصر الحقيقية

ولكن دعونا الآن من هذا وذاك ولندخل إلى المقال مباشرة، ومقالي هو عن الفن كما قلت لكم، وقد اخترت أن أكتب لكم عن تمثال (نهضة مصر) لصاحبه المبدع المثال الكبير محمود مختار عليه رحمة الله، هذا التمثال الذي أصبح علامة مائية لمصر، وضعناه ذات يوم على عملتنا الورقية ذات الخمسة وعشرين قرشا ، ولكن اسمحوا لي أن أختلف مع هذا التمثال ثم مع صاحبه محمود مختار عليه رحمة الله، ( ففكرة هذا التمثال مسروقة، أو قل مقتبسة من (صحيفة مصورة) نشرت في أوائل الحرب العالمية الأولى صورة رمزية شبيهة بتمثال نهضة مصر ولكنها تُمثل موقف انجلترا حيال فرنسا، و(جان دارك) التي ترفع يدها لتصد الإنجليز عن بلادها، ولا يصح لمصر المقدسة بفنونها وآثارها، إذا شاءت أن تصور نهضتها الحديثة، أن تختلس الفكرة التى تصورها بها اختلاسًا من فضلات الفن فى أمة أخرى، ومع ذلك فإننا لا نعلم ماذا تمثل الفتاة فيه؟، وماذا يمثل أبو الهول.. فإذا كان أبو الهول هو مصر الناهضة، فمن تكون الفتاة الماثلة بجانبه؟ وإن كان أبو الهول هو مصر الأولى فما معنى حركة تاريخها الباقى وهو مصون مجيد سواء نهضت مصر الحديثة أو لبثت قيد الجمود والهوان؟.

وإذا كانت الفتاة هى مصر بتاريخها القديم ونهضتها الحديثة فما شأن أبى الهول؟ الشيء الثابت هنا هو أن فكرة التمثال مسروقة أو مسبوق إليها، وأنها على ذلك جاءت غير متقنة، بها عيوب أخرى، ذلك أن أبا الهول المصور بهذا التمثال لا يشبه فى شيء من ملامحه أبا الهول القديم الذى بناه الفراعنة، وإنما هو صورة منقولة عما فى معابد البطالسة باليونان.. أما التحجج بأن التمثال يمثل رمزية للتقدم فإن الارتكان إلى أبي الهول لا يؤدي إلى ذلك ولكنه يشير إلى الجمود والتقليد والاستناد إلى القديم.

ولذلك فإنني في هذا المقال أعترض على تنصيب تمثال (نهضة مصر) فى الميادين العامة ، فليست هذه الميادين محلا لعرض خطوات التدرج فى تعلم الفنون وترتيب النماذج فى أطوار مرانها، وإنما محلها فى مدارس الفن أو فى المتاحف الخاصة، أما الميادين فلا تتسع لغير الأعمال الصحيحة التامة التى تُجارى الأمم فى حياتها وتستمد حقها فى البقاء من المقدرة الخالدة لا من التغاضى والمحاباة.

لقد كان لمصر فن جليل ولكنه ليس مبهجا ولا رشيقا ولا باذخا، وما ذلك إلا لأنه نشأ من فكرة الموت المقدس والخلود، فخلا من بهجة الفن الإغريقى، ورشاقة الفن البيزنطى، وبذخ الفن الفارسى، وتنسيق الفن العربى، ولكنه مع ذلك امتاز بالضخامة ومسحة الدوام والثبوت، فلم يضارعه فى هذه الميزة فن من الفنون.

ثم هل يلقى فن التصوير، أو كما يطلقون عليه فن (النحت) عند جمهورنا ما يستحقه من العطف والتشجيع، أو هو دون ذلك؟ فإن المرء يلاحظ خلال جولته بالمتحف المصري قلة العارضين، وقلة المشجعين والمشجعات للمتحف، ويُرجع السبب إلى ما بين الحياتين السياسية والفنية من علاقة ظاهرة فى تلك السنوات.

الفنان التشكيلي أحمد صبرى

وسنترك محمود مختار جانبا لكي نتحدث عن إبداع الفنان الكبير المبدع أحمد صبرى رحمه الله الذى رسم لوحة (رأس الخفير)، إذ يخيل لمن يرى هذا الرأس أنه فى غنى عن الحياة، وأن الخفير قد يستطيع عند الضرورة أن يستغنى برأسه هذا المصوَّر عن رأسه المركَّب على جسده، والحق أن الفنان المبدع الراحل أحمد صبرى قد أجاد فى تمثيل (رأس الخفير) إجادة يهنأ بها الفن المصرى، وقد أعجبتني لوحتين لمسيو (سكارسللى)، ومسيو (كمباجولى)، الأولى صورة فتاة فلاحة يجرى فى وجهها المُشرق ببشاشة العافية وصباحة الشباب، ذلك الدم العربى المصرى الذى نراه على كثرة فى أقاليم الصعيد الدنيا، وفى قليل من قرى ريف مصر التى يمتزج فيها العرب والفلاحون، ولكننا لم نر هذا الوجه على جسد الفلاحة التي في تمثال نهضة مصر، فقد كان وجها لايشي بشيء ولا يدل على جنسية صاحبته، مصرية كانت أم من بلاد الفرنجة. 

أما الثانية فصورة سيدة أجنبية على ما يبدو من قسمات وجهها، ولكنها تأتزر بالملاءة التركية، وتتلثم بنقاب شفاف تلوح من خلفه ابتسامة كيسة مهذبة يشوبها ملل خفيف قد يكون من ملل الترف والنعمة ، إنك تقرأ فى كل لمحة من لمحات الصورة أنوثة المرأة التى تريد أن تكون أماً، ولا تشبع من إحساس الأمومة، كأنما بينها وبين إشباع هذا الإحساس حائل.

عباس العقاد

هل انتهينا من قراءة هذا المقال الممل السخيف؟  يبدو ذلك، ولكن انتظروا قليلا، فأنا معكم مختلف مع كثير مما جاء في هذا المقال عن تمثال نهضة مصر، ولكنني أحب فقط أن أشير إلى أن هذا المقال ليس لي، ولكن بما أن الحياة عندنا في مصر أصبحت تدور حول (السرقة) وبمعنى أكثر لطفا (الاقتباس والمقتبسين)، وبمعنى أكثر تحضرا: (توارد الخواطر)، فإنني اقتبست بدوري هذا المقال مع شيء من التصرف وإعادة الترتيب من مقالين للكاتب الكبير عباس العقاد، أحدهما منشوربجريدة الأفكار، فى أغسطس، 1922، والآخر منشور بجريدة الأهرام في سبتمبر 1922 ، وأنا أظن أن العقاد لو رأى تمثال (رأس نفرتيتي) الذي تم تنصيبه في مدخل مدينة سمالوط بالمنيا عام 2015 لكتب قصيدة مدح في تمثال نهضة مصر يعجز الشاعر البحتري عن الإتتيان بمثلها، إذ سيكون العقاد قد اقتبسها بدوره من إحدى قصائد المتنبي، ولكي يكتمل الاقتباس فإنني سأجعل عنوان المقال هو (يا عزيزي كلنا لصوص) المُقتبس من عنوان رواية للمبدع كبير المقتبسين الروائيين إحسان عبد القدوس.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.