كتب : محمد حبوشة
يقول الكاتب والناقد المغربي (خليفة بباهواري): النقد العلمي عملية مضبوطة لافساح المجال لرؤية أعمق لعمل ما، وهو يشتمل أولا: على التحليل والتمحيص وفرز المعطيات قبل إعادة تركيبها وإدماجها في هياكل أقرب للإدراك العام، عمل من هذا القبيل يكون له دوران: إعطاء حياة جديدة للعمل بمعنى تقريبه من المتلقي بشرحه وتوضيحه وتحليله وبمعنى الدعوة إلى تناوله وإعادة تناوله بالقراءة أو بالمشاهدة، والثاني: البحث عن نقط التوافق والاختلاف في مجموعة من الأعمال ودمجها في عمارة نظرية تؤسس لتيار أو مدرسة أو اتجاه فكري ما، والنقد عملية تقييمية وليس عملية تقويمية، فدور الناقد الأول هو تحديد مكامن الضعف والقوة في عمل ما، وليس من حقه أن يدعو إلى إعادة الإنتاج وإلى البحث عن صيغ أخرى غير التي ظهر فيها العمل لأن ذلك من حق صاحبه فقط.
وكلام (هواري) من وجهة نظري الشخصية هو أبلغ رد على كثيرين ممن كتبوا على مسرحية (الحفيد) المأخوذة عن رواية (الحفيد) للكاتب عبدالحميد جودة السحار، بتداخل بسيط من رواية (أم العروسة) للكاتب نفسه، والتي انتهى موسمها الثاني قبل أسبوع تقريبا المسرح، حيث تناولها البعض بالنقد اللاذع الذي لايستند إلى منطق بقدر ما يعبر عن انطباعات شخصية وعواطف أبسط ما يقال عنها أنها مختلة، فبحسب الدكتورة وفاء كمالو: (الحفيد.. تجربة لا تليق بالمسرح القومي المصري)، حيث قالت: (تأتى مسرحية الحفيد التى يقدمها المسرح القومى الآن، كاندفاع غير مسبوق إلى ردة فكرية وفنية مفزعة، تعلن بوضوح سافر عن موت الوعى والمعنى والفكر والجمال، تتبنى الزيف والاستلاب والتغييب، تكرس لسقوط الهوية ومنظومات القيم، وتستبيح العقول والعيون والإدراك، وإذا كانت مسرحية الحفيد لا تليق بالمسرح القومى المصرى العريق، فإنها لا تليق أيضا بالمسرح بشكل عام أيا كانت هويته، فالتجربة شديدة التواضع لا تمتلك شرعية الانتماء للفن، تغيب عنها الأصول المبدئية للدراما وقيم الجمال وحرارة التواصل وفلسفة الطرح، تتجه نحو التصعيد المستفز للخسائر الفكرية والثقافية، كل مفردات العرض كانت دون المستوى، ولا شىء سوى الإسفاف والركاكة وإهدار الحس والذوق، والاستهانة بقضايا الواقع وعقول الناس.
وبعد مشاهدتي للمسرحية أرى أن هنالك تحامل شديد من جانب (كمالو) على العمل المسرحي برمته، خاصة أن العرض جيد جدا في بعض الأوقات مركزا على هدفه مهتما اهتماما دقيقا بالتفاصيل، وفي بعض الأوقات مرتبك ومهمل للتفاصيل ويحشر الرسالة التي يريدها بمشاهد سطحية ومباشرة، لكنه إجمالا يجلب المتعة للجمهور من خلال أداء بالغ الروعة من جانب كل فريق العمل التمثيلي وعلى رأسهم القديرة (لوسي) في مقدرة خرافية على التجسيد، العرض هو مسرحية داخل مسرحية، وهو ما يوضح أن كسر الإيهام في البداية لم يكن حقيقيا، فـ (عاطف) الذي كبر وأصبح مخرجا يقدم قصة حياة أسرته، والمسرحية لا تركز على زمن زواج البنات كأم العروسة أو قدوم الأحفاد في فيلم الحفيد، بل تعود للوراء قبل ذلك وقت زواج (زينب) التى تجسد شخصيتها (لوسى) و(حسين) الذى يجسده (تامر فرج) وتمتد لوقت إنجاب ابنة (نبيلة)، أي أن (نبيلة) تصبح جدة في المسرحية، و(زينب) هي الجدة الكبرى.
وأستطيع أن القول بأن من عيوب العمل الواضحة أن ديكورات العرض كثيرة وتتغير باستمرار ونرى العمال وهم يجرون التغييرات، لكن ما لم يمكن فهمه أن يرى المشاهدون (حسين) الذى توفي قبل دقيقة وهم يبكونه في الخارج يقوم من السرير للخروج من خشبة المسرح، نظرا لتغير الزمن، ويبدو ملحوظا أن المسرحية تحمل اسم (الحفيد)، لكنها في الواقع تتمحور حول الجدة، صحيح أن المسرحية تبدأ بمشهد (سبوع) ابن إبنة (نبيلة)، أى الجيل الرابع في العائلة، وهو أيضا مشهد ختام الفصل الأول، ثم مشهد ختام الفصل الثاني والمسرحية، التي تمتد لثلاث ساعات تقريبا، لكن محور العمل كله (زينب)، ولذا فالمسرحية قدمتها منذ أن كانت ابنة 18 عاما – ولم يكن موفقا أن تقدم لوسي دور (زنيب) فى سن صغيرة – وصولا إلى أن تكون الجدة الكبرى.
وقد يبدو لي أن اسم المسرحية غير مناسب لهدف أو رسالة المسرحية منعكسا على الأحداث، فالجمهور يشاهد مشاهد كثيرة من رواية أو فيلم (الحفيد) لكن كثيرا منها ليس في صلب الموضوع نفسه، الأمر الآخر أن المسرحية غرقت في نصفها الأول فى الكوميديا بشكل يصل إلى إضحاك من أجل الإضحاك فقط، مستخدما كوميديا الموقف والألشات والمفارقات والإيفيهات الإيحائية والسف على الشخصيات العامة أحيانا، في المقابل غرق العمل في الجزء الثاني في الميلودراما بشكل أكبر مما يحتمله الأمر، لكن كل هذا لا ينفى أن الكثير من المتعة الكوميدية، وكثيرا من المشاهد الجادة كانت مؤثرة بالفعل، ونجح الممثلون سواء (لوسى وتامر فرج وعابد عنانى) وبعض أعضاء فرقة المسرح القومى فى تقديمها بشكل جيد على مستوى الحركة والأداء ولغة الجسد فائقة الجودة.
وأيضا في المقابل كانت الموسيقى والإضاءة واستخداماتها جيدة في أغلب الأوقات، في حين كان يشتت المشاهد بسبب كثرة الممثلين على المسرح، وكانت يجرى حوار طويل بين اثنين ممثلين فقط، ويوجد 10 آخرون لا يفعلون أي شىء إلا الحديث سرا في تجمعات على الخشبة، أو يجرى أكثر من حدث في الوقت نفسه على الخشبة، وفي الوقت نفسه يجب الإشادة بالتداخل الجيد بين الأزمنة على مستوى الكتابة والتنقل بينها، وكذلك إخراج وكتابة مشاهد كانت تكمل بعضها البعض بين أكثر من طرف لعرض مشكلة واحدة بأكثر من معالجة، وتوظيف الأغاني معها، لكن رغبة صناع العمل في مناقشة كل شيء تقريبا يخص الأسرة، وهو أمر شبه مستحيل، كان يحتاج لتصاعد درامى في أزمنة متتالية دون تداخلات بينها.
رغم ما شهده العرض من بعض الارتباك والكوميديا الصارخة والميلودراما المقحمة أحيانا، فإن مسرحية الحفيد بها جهد كبير مبذول من مخرج العمل (يوسف المنصور) وكذلك أبطاله وكل صناعه في الديكور والإضاءة والموسيقى والملابس، وغيرها من عناصر فنية تظهر أن كلام الدكتورة (وفاء كمالو) فيه قدر من الإجحاف لصناع مسرحية الحفيد، خاصة في قولها: (من المؤكد أنه حين تختل القيم الجمالية وتغيب المعايير الفنية، نصبح أمام مواجهة حتمية لسقوط الفن والمعنى والرسالة، حيث تذوب الحدود الفاصلة بين المفاهيم المبدئية المعروفة علميا، وبين ذلك الخلط العشوائى المخيف، الذى أثاره عرض الحفيد، وقد كان من المؤسف أن يشهد المسرح القومى المصرى تلك المحاولات البائسة، التى يقدمها فريق عمل المسرحية للوصول إلى مستوى عروض مسرح مصر، التى أدانها المسرحيون والمفكرون والمثقفون، فتأتى أكثر لحظات مسرحية الحفيد إبهارا وانضباطا هى تلك التى قدمتها الفنانة زينب العبد بأسلوب نجمات مسرح مصر على مستوى الأداء السوقى والحركة الوحشية والحوار المبتذل والملابس والإيقاع).
وهنا أقول: إذا كان النص هو أساس العمل المسرحي، فهناك عروض مسرحية يغيب فيها النص بمعناه الحواري، ومن هنا وجب مقاربة العرض المسرحي من خلال ما تراه العين، فعلى مستوى الديكور: ينبغي على الناقد أن يقف عند وجوده أو غيابه، وأن يبرز عند حالة وجود الديكور ما إذا كان ضروريا للعرض أو زائدا، وإذا كان ضروريا هل كان نافعا وفعالا ووظيفيا، وفي حالة وجود ديكورات متزامنة يجب أن نسأل حول تقاربها وتداخلها أو تباعدها، وحول تأثير بعضها في بعض، وهو مالم تتعرض له (كمالو) من قريب أوبعيد بشكل تفصيلي يظهر مواطن القوة والضعف، كما أنها لم تدلي بدلوها في حركة الممثلين: هل هى تزامنية مع الحوار أم تسبقه أم تتبعه؟، هل تتم الحركة على كل الفضاء المسرحي الذي يشغله الديكور أم تتجاوزه أم لا تشغله كاملا؟، ثم إنها لم تقل لنا وجهة نظرها في مدى تفاعل الممثلين مع الخطاب الذي يصدرونه، ومدى تفاعلهم مع الشخصيات التي يؤدونه أومدى نسبة تقمصهم لهذه الشخصيات، أيضا مدى التعبيرية الجسدية التي يظهرونها، فيجب على الناقد هنا أن يقف عند ضبط لحظات الكلام والصمت، ووقت الحركة والوقوف وأن ينظر إلى مدى تجاوب الممثلين فيما بينهم وإلى مدى إبرازهم للتعبير الطبيعي أثناء تخاطبهم.
ولم تلقي (كمالو) بالا بالإضاءة التي كانت تبدو ضعيفة في كثير من المشاهد، وقوية في مشاهد أخرى، ومعروف أنه حسب نوعية المسرحية يمكن للإضاءة أن تلعب دورا عاديا أو دورا مهما، فهي تشكيل – خصوصا في المسرحي – جزءا من السينوغرافيا، ويجب أن ينتبه الناقد في كل الحالات إلى تركيبها، ألوانها قوتها وضعفها، ويجب عليه أن ينتبه بشكل أدق إلى ثنائية النور والظل ومدى تأثيرها على المشهد المعروض سلبيا أو إيجابيا، كما تلعب الأصوات دورا مهما في العمل المسرحي من حيث أنها تساعد على إضفاء التعبيرية اللازمة لمضمون الخطاب المسرحي.
ورأي الشخصي أن الإلقاء ومدى فصاحته من حيث مخارج الحروف وضبط النطق بالكلمات ومدى ضبط المقاطع الجملية مع المضمون المعبر عنه، كانت جيدة للغاية من جانب (لوسي، وتامر فرج، وعابد عناني) وباقي الممثلين الشباب، فلديهم الانتباه الكافي لمتى يلجئون إلى رفع النبرة وخفضها، وهذا ما كان يساهم في التعبير عن الحالات النفسية المختلفة بطريقة متقنة إلى حد كبير.
إذن لكي يقوم النقد المسرحي بواجبه، على الناقد أن يلم بكل هذه المعطيات، ولا يحق له أن يغفل أحدها فتفشل عملية النقد أو تكون ناقصة، وإذا كان من الواجب على الناقد الإلمام بكل هذه المعطيات لمقاربة عمل مسرحي ما سواء كان ملهاة أو مأساة أو شكلا تجريبيا، فإن الحيز الذي يمكن أن يخصصه منبر غير متخصص من صحف وملاحق ومجلات لايمكنه أن يضم عملا نقديا متكاملا، ولذلك فما يمكن أن يقدم على هذه المنابر لا يمكن أن يكون سوى مقاربات نقدية، كالتي قامت بها (كمالو)، ومن ثم فإنه يلزم للقيام بعملية النقد على أحسن وجه يجب أن تنوفر للناقد مجموعة من الأدوات الوظيفية فيجب أن يتوفر على النص المكتوب للعمل المسرحي، وإذا أمكن على النص المكتوب للإخراج، ويجب أيضا أن يشاهد العرض أكثر من مرة حتى يمكنه ضبط كل آلياته.