بقلم : محمود حسونة
أن تتربع على عرش القلوب 45 عاماً، فأنت لست من الملوك الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، فالملوك بينهم من يجثمون على صدور الناس، يحكمونهم وهم يضعون على رؤوسهم المسدسات وعلى أفواههم الكمامات وفي قلوبهم الرعب، وبينهم ملوك شعبيون، يختارهم الناس ويطلقون عليهم اللقب بعد أن يتسللوا بأعمالهم إلى القلوب، وينفذوا بسلوكهم إلى العقول، وقد اختار عشاق محمد منير له لقب (الملك)، وليس صحيحاً أن اللقب بسبب أنه شارك في بطولة (الملك هو الملك) التي عرضت في العام 1989 وأعيد عرضها عدة مرات، ولكن لأنه (ملك هذا الزمان) على مملكة الغناء المتفرد، الذي لا يشبه إلا نفسه؛ فالملك الذي ابتدعه الكاتب السوري سعد الله ونوس واختار أن يحييه مسرحياً (مراد منير) وجسده الفنان الكبير صلاح السعدني وعبر عنه غنائياً (محمد منير)، كان ملكاً عابثاً مستهتراً خسر مملكته في لحظة بسبب عبثه ولا وعيه، أما (الكينج) محمد منير فهو ملك ظَل على مدار أربعة عقود ونصف حارساً لمملكته، مجدداً فيها، مطوراً ومتطوراً بما يناسب التغيرات الاجتماعية، ولذا فقد أصبح من الملوك الذين يتجاوزون الزمن ويتغلبون على تحدياته ويتمردون مع تمرداته ويستوعبون دروسه.
في نهاية السبعينات انطلق الشاب النوبي بصوته مغنياً في الحفلات الجامعية والتجمعات الشبابية، ارتدى ما يرتديه الشباب، بنطلون جينز وقميص، رافضاً ارتداء البدلة، معتبراً اياها أداة تعالٍ على جمهوره، ومنذ هذا التاريخ وحتى اليوم ظل منير جاذباً للشباب، صوت يعبر عن إحباطاتهم وأحلامهم. جيل وراء جيل ومنير يجذب شباب اليوم ويحتفظ بشباب الأمس، فمن كانوا شباباً ورددوا معه أغانيه، لم ينصرفوا عنه بعد الكبر، ليحتفظ بهم ويحتفظوا به، ومع مرور السنوات وتتابع الأجيال، كبرت مملكة (محمد منير) وتوسعت، ولعل السبب أنه لم يتنازل عن تفرده، لم يغير من نهجه بل طوره وتطور معه، وطوال هذه السنوات وهو يغني في حفلاته الجديد المطور والقديم الذي ظل لامعاً وجاذباً ومؤثراً وكأنه قد تمت كتابته وتلحينه وتسجيله الآن الآن وليس أمس.
الغناء الأصيل لا يسقط مع مرور الزمن، والمطرب الأصيل يظل على العهد مع جمهوره، والجمهور الأصيل يظل على الوعد ملتزماً مع مطربه، ومحمد منير، ملك أصيل ووفي ليس لجمهوره فقط الذي وضعه على العرش والتف حوله حارساً، ولكن لمن ساروا معه في الدرب، ومن ساهموا معه في تشييد مملكته، ولذا عندما تسقط ورقة من شجرة مشروعه الغنائي، يتألم ويحزن ويتوجع، وكلما كانت هذه الورقة عظيمة التأثير كلما كان الوجع كبيراً والألم مزعجاً.. من هنا كان انفجار (محمد منير) بكاءً على رفيق الدرب الموسيقي الألماني (رومان بونكا) خلال الحفل الذي أحياه الأسبوع الماضي في مدينة الأسكندرية.
غنى أمام الآلاف، وكان مع كلمات أغانيه يتذكر مواقف ويعيش الإحساس بالكلمات، وعندما غنى (أنا بعشق البحر) بكى وانهمرت دموعه، ولم يمنعه تصفيق الجمهور الغفير ولا شعاراتهم ولا صرخاتهم تعبيراً عن حبهم له أن يتذكر (رومان) ويبكي عليه ويبلغهم أنه تم دفنه اليوم في بلده بألمانيا، ويطلب منهم الدعاء له بالرحمة ويطلب منهم أن يشاركوه غناء (تعالى نلضم أسامينا.. الفلة جنب الياسمينا) التي كان يحبها الصديق الراحل، حبه لمصر التي تتغنى الأغنية بمدنها الممتدة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً.
(رومان بونكا) تعلم من منير حب مصر، ومنير تعلم منه حب ألمانيا، ومثلما احتضنت مصر (بونكا) الذي كان يعشق التجول في مدنها وقراها وشوارعها وحواريها وحضور موالدها الشعبية، فقد احتضنت أيضاً ألمانيا (منير) ونظمت له الحفلات، ليستمع الألمان والأوروبيون إلى موسيقاه ويصفقوا له وينظموا له الحفلات إعجاباً بتفرده وتقديراً لموهبته واحتراماً لنجوميته.
رحلة (محمد منير) مليئة بالنجاح، ولكن فيها العديد من المحطات المؤلمة، ولعل أكثر أوقاته وجعاً يكون عند فقد عزيز لديه، إبتداءً من والدته والعديد من أقاربه الذين يشكلون له الأمان النفسي، ومروراً برفقاء رحلة النجاح والكفاح والذين يشكلون له الأمان الابداعي، وكان على رأس هؤلاء الشاعر والمكتشف لموهبته وسند البدايات (عبد الرحيم منصور)، ولأن منير وفيّ بطبعه للأصدقاء والشركاء فقد غنى لهم في البدايات (علموني أعشق صحابي وأنسى وياهم عذابي) ضمن أغنية (علموني).
ومن يتتبع رحلته سيجده بالفعل يعشق أصحابه ويحرص على أن تكون لهم مساحتهم الخاصة في حياته، وفي أغانيه، ولذا بعد أن فقد عددا منهم غنى قبل فترة (اللي باقي من صحابي)، ويقول فيها : (اللى باقي من صحابي.. من سجل الذكريات .. ضحكة عالية .. دمعة غالية).
وفاء (محمد منير) ليس لأصدقائه فقط، ولكن وفاءه الأكبر هو لجمهوره، ولعل جانب من الوفاء للأصدقاء هو نتاج لوفائهم معه للجمهور الذي غنى له وعنه على مدار 45 عاماً، ليرد الناس على الوفاء بالوفاء ويختارونه ملكاً متوجاً على عرش الغناء وداخل القلوب، ومن أهم علامات وفاء (منير) لجمهوره هو حرصه على الوصول لأكبر عدد منه، ففي الوقت الذي تجاوز عمرو دياب المعقول بوصول سعر تذاكر حفلته إلى عشرة آلاف جنيه، وعلى دربه سار مقلداً كاظم الساهر ليصل سعر تذكرة حفلته بالساحل ثمانية آلاف من الجنيهات، ليتجاوزا غيرهما ممن وصل سعر تذاكر حفلاتهم إلى خمسة آلاف جنيه، تراوحت تذاكر حفل منير ما بين 250 و500 جنيه، إيمانًا منه بأن حق الاستمتاع بالغناء لا ينبغي أن يحتكره المقتدرون مادياً ويتم حرمان القطاع الجماهيري الأوسع منه، وإباء منه أن يتحول إلى تاجر سعادة، وسلعة لا تتوافر إلا لمن يدفع أكثر.
المبالغة في أسعار التذاكر هى نتاج طبيعي لمبالغة المطرب في أجره وتعبير عن رغبته في أن يراه جمهوره في برج عاجي لا يستطيع أن يصل إليه فيه سوى أصحاب الملايين والذين يدفعون بسهولة ويسر سعرا للتذكرة آلاف مؤلفة ويشترون الرداء المفروض للحفل والذي يتجاوز الألف ويصل إلى الآلاف، ويضعون في الأصابع وحول المعاصم والأعناق ليس الذهب فقط ولكن الألماس وكل ماهو ثمين، يبروز مرتديه ويبروز معه نجم الحفل ويضع الملايين في حسابات منظمه بالبنوك.
الصداقة قيمة عظيمة لدى الأوفياء، وبكاء (منير) في حفل الأسكندرية لحظة وفاء من نجم منح كل وفائه لوطن، تجسد محبوباً في كل أغانيه، بالرمز كثيراً وبالتصريح نادراً، ولكنه استحوذ على المساحة الأكبر في رحلة ملك الأغنية المتفردة والأغنية الرمزية والموسيقى المتمردة.
(محمد منير): صوت وطن ومشاعر إنسان ووفاء صديق ومشروع حلم ممتد في أعماق الزمن وأمامه الكثير حتى يكتمل، والكثير الذي ينتظره منه جمهوره.