بقلم الأديب الكبير : سامي فريد
(جليل البنداري) .. شخصية قد لا تتكرر قبل مائة إلى مائة وخمسين سنة مقبلة.. لكن يعش بيننا طويلا شأنه شأن كل عظماء جيله من أصحاب المواهب التي لاتتكرر (1916 – 1968)، كانت بداية عمله في مصلحة التليفونات التي انتقل من العمل بها إلى العمل في جريدة الأخبار كأحد أشهر كتاب العمود الصحفي.
كان صاحب عدد من المواهب، ازدحمت كلها في رأسه العبقري، فهو مؤلف أغاني وكاتب العديد من سيناريوهات الأفلام والقصص السينمائية، وهو مؤلف ومنتج وكاتب سيناريو الفيلم (المفاجأة) الذي حقق أعلى جماهيرية في السينما وهو فيلم (الآنسة حنفي)، بطولة (إسماعيل يس وعبدالفتاح القصري وماجدة وعمر الحريري وزينات صدقي ووداد حمدي ورياض القصبيجي وسليمان نجيب)، وهو أيضا كاتب فيلم (العتبة الخضراء) ومنتجه، بطولة (حمد مظهر وصباح وإسماعيل يس وزينات صدقي ورياض القصبجي)، وذلك النصاب الذي باع العتبة الخضراء للقروي إسماعيل يس الباحث عن المكسب السريع بعدما وصف له النصاب (أحمد مظهر) إيرادات مصلجة البريد والمطافيء وقسم البوليس وما بينها من الحملات التجارية، لأن وراء كل نصاب طامع يبحث عن المكسب السريع.
وهو أيضا صاحب فيلم (موعد من إبليس) المأخوذ عن رواية (فاوست) التي باع فيها الطبيب المعروف (زكي رستم) روحه أوعقله وكيانه للشيطان من أجل الثروة..
ونجح الفيلم من بطولة (محمود المليجي ومنير مراد وكريمان).
أما عن كتابة الأغاني فهو مؤلف شكتش (تاكسي الغرام) في فيلم (تاكسي الغرام)، من بطولة (عبدالعزيز محمود وهدى سلطان والسيد بدير وحسن فايق) وغيرهم، وهو (جليل البنداري) مؤلف عدد كبير من أجمل اغنيات الفنانة شادية مثل: (يادبلة الخطوبة ويا سارق من عيني النوم وسقوق على مهلك)، ولن ننسى له أغنية فايزة أحمد الشهيرة (يا تمر حنة) مع (رشيدي أباظة ونعيمة عاكف وأحمد رمزي وسيتفان روستي).
وهو الذي كتب أجمل أغنية عاطفية لزوجته يقول فيها:
منايا في قربك أشوفك سعيد
وأشوف نفسي جنبك
دا شيء موش بعيد..
وتحكي ابنته (أهداف البندراي) المحررة بالاهرام في قسم التحقيقات وواحدة من ألمع نجوم التحقيقات، وكانت تحمل الكثير من شخصية والدها، أنه قال لها يوما أنه أحد أهم من كتاب في مصر وأكثرهم رواجا وشعبية.
كتب في عمود اليومي في (ليلة السبت) في الأخبار أكثر من مرة يدعو إلى لقاء السحاب بين كوكب الشرق والموسيقار عبدالوهاب، وقد أعجبت الفكرة الرئيس عبدالناصر فطلب من مطصفي أمين الصحفي المعروف أن يتبناها حتى تصبح حقيقة، وقد كانت وبدأت معها أم كلثوم عهدا جديدا من غناء ألحان بليغ وسيد مكاوي بعد أن كانت تغني للقصبجي وزكريا أحمد ورياض السبناطي، كما دخلت الفرقة الموسيقية معها آلات مثل الأورج والجيتار وكل هذا بسبب كلمة بدأها (جليل البنداري) في عمود (ليلة السبت) في الأخبار ليتحول إلى واقع جديد بسبب شجاعته وشجاعة أفكاره.
وقد لا يعرف الكثيرون منا أنه هو الذي أطلق على عبدالحليم حافظ لقب (العندليب الاسمر) فالتصق به اللقب حتى اليوم بعد وفاته!!
ويحكي العندليب تلك القصة الغريبة التي حكاها للأستاذ محمد حسنين هيكل، وكان يعمل محررا في الأخبار حول (لحن الوفاء وبنات اليوم وحكاية حب)، أن الاستاذ جليل البنداري كلمه تليفونيا ليجري معه حوارا بعد نجاحه فاعتذر عبد الحليم بسبب انشغاله الشديد، وحكي عبدالحليم الحكاية ألاستاذ هيكل فنصحه ألا يرفض أي طلب للأستاذ (جليل البنداري) خاصة انه هو الذي أطلق عليه لقب (العنديب)، وقال الأستاذ هيكل في نصيحة لعبدالحليم أن (جليل البنداي) لن ينسى هذا الاعتذار لعبدالحليم الذي يبدو أن الشهرة قد شغلته عن أشياء كثيرة.
وعمل عبدالحليم بالنصيحة فاتصل بالأستاذ جليل البنداري ليحدد معه موعدا للحوار وقال انه ليه أنه سيكون في الأخبار في مكتب الأستاذ هيكل، وفهم الأستاذ جليل البنداري المقصود فجاء في الموعد وفي يده ورقة مطوية وسلمها إلى عبدالحليم حافظ قبل إجراء الحوار قائلا: ده أول سؤل يا حليم.. اقرأه على مهلك وبعدين نبدأ الحوار.
فتح عبدالحليم الورقة وقرأ فيها: (بقى جايبني هنا في مكتب الأستاذ هيكل عشان خايف مني اني اشتمك يابن الكلب!).
طوى عبدالحليم الورقة بهدوء ووضعها في جيبه والتفت إلى الأستاذ خليل البنداري قائلا:
انا تحت أمرك يا أستاذ جليل.. اتفضل!
وبعد انصراف الأستاذ جليل البنداري أخرج عبدالحليم الورقة وقدمها للأستاذ محمد حسنين هيكل الذي قرأها وضحك قائلا: أنا مش قلت لك انه لا يمكن ينسى ثأره ابدا!
وكان (جليل البنداري) هو الوحيد في مصر وإلى اليوم وبعد وفاته الذي يستطيع أن يقول للأعور في عينه: (أنت أعور ولا يهتم بشخصية من تقال له مادام يعرف أن من قيلت له يستحقها).
وكان من أهم سمات شخصية (جليل البنداري) هو إصراره على النجاح ورفضه للهدايا والدعوات، وكان ينصح أبناءه بأن يعيدوا كل ما تلقوه من الهدايا إلى أصحابها لأنها تفتح الباب للمجاملات والتنازلات.
كتب عنه أحمد رجب فقال: انه (جحا القرن العشرين)، وكتبوا عنه في الصحافة المصرية انه (شهريار النجوم).
وكان الوسط الرياضي أيضا يحتصن شخصية مثل شخصية (جليل البنداري) كان هو المحلل والناقد والرياضي (نجيب المستكاوي) الذي سمى الاهلي والزمالك (العتاولة والعناتيل)، وكان يعطي اللاعبيين درجات لا تجاوز في أعلاها 4 أو 6 من عشرة، وقد تهبط إلى 3 أو خمسة تحت الصفر ثم يدخل النادي مرفوع الرأس يحترمه الجميع رغم اعتراض بعض النجوم من اللاعبين عليها لأنهم كانوا يرون نتائج هذه الدرجات في المبارايات التالية عندما يحاول اللاعبون الهروب من هذه الدرجات.
أما المقلب الذي تلقاه الأستاذ خليل البنداري بكل حسن النية فكان من الموسيقار (محمد عبدالوهاب) الذي تلقى تليفونا في فترة الظهيرة من جليل البنداري يطلب لقاءه ليجري معه حوارا حول أحدث اغانيه (ست الحبايب).
وسأله الأستاذ خليل بصراحته المعروفة:
اتغديت يا أستاذ عبدالوهاب؟
فيرد عبد الوهاب: لا والله لسه.
خلاص أنا جاي اتغدى معاك!
لو ترق الفكرة في رأس عبدالوهاب الذي يعلم حجم الخلاف بين الفنان (مدحت عاصم) وبين (جليل البنداري) فرقع السماعة ليطلب مدحت عاصم في الإذاعة ويسال ماذا يعمل الآن؟
قال مدحت عاصم:
أنا نازل رايح آخد (عايدة) مراتي ونروح سوا وسأله عبدالوهاب ما هو الوقت الذي يمكن أن يستغرقه من الإذاعة إلى منزل عبدالوهاب في الزمالك؟، ورد مدحت عاصم: يعني 5 دقايق.
فقال عبد الوهاب: حلو قوي .. أنا ح سيب لك الباب مفتوح تدخل.
خير.. ليه؟
لأن صاحبك هنا عندي
صاحبي مين؟
جليل.
طيب أنا جاي حالا.
عبد الوهاب: على فكرة أنا في الأوضة اللي على النيل مشغول في اللحن ماليش دعوة بيكم.. مفهوم.
مفهوم.. مفهوم..
ودخل مدحت عاصم إلى المطبخ يسال إن كان الأستاذ عبدالوهاب قد تناول غداءه ورد البواب بأن صينية البطاطس ستكون جاهزة بعد 10 دقائق.
ثم دخل الأستاذ مدحت عاصم من الباب المفتوح ليبدأ فاصلة من العتاب الساخن من الاخذ والرد وتبادل الاتهامات انتهت بأن خرج الاستاذ مدحت عاصم الذي كان متزوجا من السيدة (عايدة البنداري) الي تعمل مع المجلة التي بها من كاتب هذه السطور، ويخرج الأستاذ جليل لبنداري دون أن يجري أي حوار مع الموسيقار الكبير.. الذي نادي عليه:
مش حنتغدى سوا يا أستاذ جليل
ورد الأستاذ جليل
لا شكرا.. يا أستاذ عبدالوهاب متشكر جدا.