بقلم : ناهد صلاح
أتذكر جيدًا في مارس الماضي، أثناء مشاركتي في تحكيم مسابقة الأفلام الكثيرة للدورة الخامسة لـ (مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة)، كيف اندهش المخرج اللبناني (هادي زكاك) من مداخلتي خلال اللقاء المفتوح الذي أداره، بحضور الممثلة والمخرجة اللبنانية (زينة دكاش) ونخبة من سيدات المجتمع اللبناني تحاورن معه ومع الحضور عن أثر المرأة في السينما وفي الواقع، ذلك في إطار الشعار الذي حمله المهرجان وهو (النساء من أجل القيادة).
مداخلتي خصت بالذكر بديعة مصابني (1892 ــ 1974) كواحدة من رائدات الفن، لها تأثيرها المهم في حركة السينما المصرية والعربية عمومًا، لكن بصراحة حيرتني ردة فعل (هادي زكاك) حين أَلمح إلى أن الكثيرين لا يتذكرون عن (الست بديعة) الآن سوى متجر الألبان، أسسته بعد ما غادرت مصر لأسباب مالية في مدينة شتورة (إحدى القرى اللبنانية في منتصف الطريق السريع الواصل ما بين بيروت ودمشق)، يعني من عميدة الرقص وعرابة لنجومه إلى صاحبة محل للألبان والأجبان، الكلام قاطع وإن حمل معانِ كثيرة تعبر عن مواد الخواء المعرفي السائد.
المهم أنني لم أقصد أن أضع (بديعة مصابني) في مصاف (بهيجة حافظ وعزيزة أمير وفاطمة رشدي واللبنانية آسيا)، نساء قامت على أكتافهن السينما المصرية، واستطعن اقتناص مساحة شديدة الخصوصية تحركن فيها بجرأة، لأن (مصابني) هي حالة شديدة التفرد ولها مساحة إبداعية أخرى، يصعب أن نغفلها أو نسهى عنها.
لا أتحدث هنا عن (بديعة) بوصفها ملكة المسرح الاستعراضي لمدة 30 عامًا، الراقصة التي ابتكرت رقصة الشمعدان الشهيرة وطورتها (شفيقة القبطية) لاحقًا، أو عن وديعة (اسمها الأصلي) تلك الطفلة من أم سورية وأب لبناني اكتسب لقبه من العمل في صناعة الصابون، الشقيقة الصغرى بين 7 أشقاء 4 أولاد و3 بنات، النازحة من الشام إلى (بينوس آيرس) بأمريكا اللاتينية إلى القاهرة.
لن أتوقف عند تاريخها الحافل بالأحداث، من ممثلة صغيرة في فرقة (جورج أبيض)، إلى بطلة في فرقة أحمد الشامي، إلى رفيقة درب زوجها النجم الكبير (نجيب الريحاني)، قدمت معه عدة أعمال مسرحية ناجحة منها: (الشاطر حسن، الليالي الملاح، أيام العز، مجلس الأنس، ريا وسكينة، البرنسيسة) وغيرها، إنما أتخيلها كما هى امرأة قوية عاندت كل عثرات الطريق وتجاوزت مصاعبه الشاقة وهزائمها الخاصة.
تثبت صورتها في ذاكرتي بوضوح يتماهى مع هذه الصورة المحببة لي، وهى تتحدث بثقة مع الإعلامية المصرية الشهيرة (ليلى رستم) في برنامج (نجوم على الأرض) عام 1966، أراها امرأة صلبة، جريئة، فاتنة وهى في الخامسة والسبعين من عمرها، تتحدث الأسبانية والتركية والفرنسية والإنجليزية، وتضلع في العربية الفصحى بحكم عملها في المسرح.
ما يعنيني ويشغلني بالفعل هو كيف تمكنت هذه المرأة من تغيير شكل الشاشة المصرية، لأن بديعة التي تمر ذكرى رحيلها هذا الشهر (23 يوليو 1974)، ذلك أن (كازينو بديعة) هو من أثرى السينما المصرية بمطربيها وموسيقييها وراقصاتها، بما يمكن أن يسمى التيار التعبيري في السينما.
كازينو بديعة في شارع عماد الدين، برودواى مصر وقلب الفن النابض بالمسرح والمنتديات الفنية والثقافية المتنوعة في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، زخر بعشرات الفرق المسرحية: (الكسار، الريحاني، فرقة رمسيس ليوسف وهبي، عبد الرحمن رشدي وفاطمة رشدي، عزيز عيد، جورج أبيض)، غير العشرات من صالات الرقص: (صالة سعاد محاسن، ماري منصور، رتيبة وأنصاف رشدي، ديناليسكا، كازينو دي باري)، أما أكبر الصالات فكانت (صالة بديعة)، مكان (سينما ليدو) حاليًا بجوار مسرح الريحاني.
كرست بديعة لمدرسة جديدة في الرقص وتحولت صالتها التي حملت اسمها لأكثر من عشر سنوات إلى أكاديمية للموسيقى والطرب والرقص التعبيري، تمكنت من ريادة المسرح الاستعراضي وتطوير الرقص الشرقي ليصبح فنًا تعبيريًا راقيًا، كانت أول من شيد المسرح الدائري الذي يتيح للجمهور مشاهدة أفضل للعروض من أي مكان بالصالة، وأول من قدم عروض (الفودفيل) أو (الميوزك هول) المتنوعة ما بين التابلوهات الراقصة والفقرات الغنائية والمونولوجات.
في حديثها مع ليلى رستم قالت: (زمان كان كله رقص بطن أنا نوعت الرقص ودخلت عليه الإسبانيولي والتركي والعجمي.. وأنا اللي دمجت المزيكا العربي مع الأفرنجي)، ومن هذه الأكاديمية تخرجت أسماء كبيرة مثل: (محمود الشريف، فريد الأطرش، محمد فوزي، محمد عبد المطلب، عبد الغني السيد، عبد العزيز محمود، إبراهيم حمودة، تحية كاريوكا، حورية محمد، فتحية أحمد، ببا عز الدين وحتى زينات صدقي وإسماعيل ياسين وشكوكو وثريا حلمي وأبو السعود الإبياري) وغيرهم، كل هؤلاء نقلوا فن (بديعة) إلى السينما وهو ما يفسر هيمنة المدرسة التعبيرية على الفيلم الغنائي.
هنا يجب ألا ننسى أيضًا أن ملكة المسارح افتتحت كازينو آخر بميدان الأوبرا، على بُعد خطوات من دار الأوبرا الملكية التي أقامها الخديوي إسماعيل عام 1869 ، أول أوبرا في الشرق الأوسط، كان الاقتصادي الكبير طلعت حرب قد عهد إلى بديعة بإدارة كازينو ومسرح الأوبرا، أنشأه كجزء من اهتمامه بالفنون، حيث اشترت شركة مصر للتمثيل والسينما وهي إحدي شركات بنك مصر آنذاك فى العام 1936 عمارة البيطار المطلة على كل من ميدان الأوبرا وشارع عابدين (الجمهورية الآن) وشارع عبدالحق السنباطي، ثم هدمت وأنشي مكانها محلات تجارية وسينما أوبرا والكازينو، تكون من أربعة طوابق ما بين مقهى ومسرح ومطعم وحديقة بالسطح، أشرفت (بديعة) بنفسها على تزيينها بالنباتات واتخذها نجيب محفوظ وأدباء آخرون مقرًا لعقد ندواتهم ولقاءاتهم، كما كان مقصدًا للملك فاروق وجميع حاشيته؛ كذلك تجمع فيه كبار الضباط الإنجليز أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث كان مقر قيادتهم في (فندق الكونتننتال) بميدان الأوبرا، منه اندلعت أول شرارة لحريق القاهرة فى يناير 1952.
أما في الصيف كانت بديعة تنتقل بنشاطها إلى كازينو آخر حمل اسمها (كازينو وكباريه بديعة الصيفي) على نيل الجيزة، موقع (فندق شيراتون القاهرة) حاليًا، ولأن الحركة الوطنية المصرية كانت فى أوجها آنذاك، فقد رفض المصريون تسمية الكوبرى الذى كان يقابل الكازينو بكوبرى الإنجليز بعد أن كان (كوبري الأعمى) سابقًا، وفضلوا أن يطلقوا عليه كوبري بديعة، واحتفظ بذلك الاسم حتى عام 1952، حيث أطلق عليه كوبرى الجلاء بعد ثورة 23 يوليو.
المقصود من هذه المداخلة الطويلة نوعًا هو تأكيد أن بديعة امرأة مترعة بالتفاصيل الغنية، والمثيرأنها على الرغم من تأثيرها في السينما، من خلال تلاميذها الذين استحوذوا عليها تمثيلًا وغناءً وموسيقى ورقصًا، لكنها لم تقدم سوى أدوار قليلة، علمًا بأن السينما المصرية بدورها أفسحت مساحات للراقصات، سواء في الأفلام الاستعراضية التي تعتمد على تيمة الرقص من البداية إلى النهاية، أو عبر مشاهد تتخلل أحداث لا علاقة لموضوعها بالرقص، بل أن بعض الراقصات كن لهن إسهامهن في الإنتاج السينمائي مثل (بمبة كشر) على سبيل المثال في العشرينيات من القرن الماضي، فلولاها لما ظهر ثاني فيلم روائي مصري طويل (ليلى – 1927)، وهو من إنتاج (عزيزة أمير) وزوجها (أحمد الشريعي) الذي قامت عائلته بالحجر عليه لأنه يبعثر أمواله فيما لا نفع له وهو إنتاج الأفلام، هنا تدخلت (بمبة كشر) وأنقذت الموقف بعد أن أعطت مصاغها لعزيزة أمير، فتغلبت على الأمر الصعب وأكملت مع زوجها المشوار.
المثير أيضًا أن بديعة التي ظهرت في فيلم (ابن الشعب – 1934) إخراج الفرنسي (موريس ابتكمان) هى نفسها التي أنتجت فيلم (ملكة المسارح – 1936) إخراج الإيطالي (ماريو فولبي)، لكن لسوء حظ هذا الفيلم الذي حشدت له كل عناصر الاستعراض أنه فشل، ما تسبب بديهيًا في خوف الآخرين من خوض تجربة مماثلة، استمر ذلك فترة طويلة امتدت إلى منتصف الحرب العالمية الثانية، حيث تغيرت الخارطة الفنية عمومًا إثر الحرب، وحتى (بديعة) نفسها امتنعت عن تكرار التجربة، إلى أن ظهرت في دور صغير بفيلم (الحل الأخير – 1937) إخراج عبد الفتاح حسن، ودور راقصة بفيلم (ليالي القاهرة – 1939) إخراج إبراهيم لاما، ثم مع ماري كويني في فيلمها (فتاة متمردة – 1940) إخراج أحمد جلال، ومعهما أيضًا شاركت في فيلم (أم السعد – 1946).
توالت الأفلام الاستعراضية واستمرت السينما تتماهى مع الرقص الشرقي، تتعاطى معه بأشكال مختلفة حتى مرحلة السبعينيات، ثم خف هذا الحضور بشكل ملحوظ، لكن يبقى أن أغلب الذين صنعوا هذه الأفلام تخرجوا من مدرسة (بديعة مصابني)، أو تأثروا بها بشكل أو أخر.