رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

زيناتي قدسية .. رائد المونودراما والتجريب في المسرح السوري

مهما تحدثت عن ممدوح سأبقى مقصرا

بقلم : محمد حبوشة

يتأسس فعل التواصل الحي بين الممثل والمتلقي على وفق اشتغال طاقة الممثل الأدائية المكونة من قدراته الجسدية والصوتية وكينونته الذاتية المتمثلة بقنوات التعبير الحسية، إن تلك القدرات تتميز ببث العلامات المركبة في قناة مشتركة تعمل كمرسل فاعل لتحقيق غاية العرض التواصلية في إيصال الرسالة الفكرية والجمالية، وقد انطوى أداء الممثل في تشكيل قدراته الإرسالية على نمطين أدائيين مهمين، أحدهما الأول أكد على الحرفة الخارجية للممثل والعناية بتطويرها، والمرتبطة بالرعاية للنواحي الإلقائية والحركات والإيماءات التي تمثلها المدرسة التقديمية في التمثيل، والثاني اهتم بالحرفة الداخلية، من أفكار وإحساسات وانفعالات، وتمثلها الرسالة التشخيصية / الإيهامية في التمثيل، في ضوء ذلك التمايز.

وضيفنا في باب (بروفايل) لهذا الأسبوع الفنان القدير (زيناتي قدسية) هو واحد ممن استوعبوا كل مراحل تطور الأداء التمثيلي المسرحي فقد امتلك نمطي الأداء معا، وجعل لنفسة مدرسة خاصة في الأداء اعتمد فيها على أهم بنيات عمل الممثل وهو الإحساس والإيمان والصدق وتهيئة الوسائل الإجرائية والأدائية من جسد وصوت من خلال التمارين العقلية والحسية والذاكرة والانتباه والتخيل والإحساس وعقلنته وصولا إلى بنية جدلية قادرة على تفسير الدور من قبل الممثل وتجسيد الشخصية بالشكل الفني المؤثر بتوازن سلوكي جسدي ونفسي يضيفان زخما وقوة إلى التعبير الأدائي والجمالي منطلقا من إتيان أفعاله العقلية والنفسية بشكل مستقر ومتوازن.

ويبدو لي من خلال متابعتي لأعمال (زيناتي قدسية) إدراكه الكامل بأن الممثل هو التجسيد العياني الملحوظ لبنية الشخصية المسرحية المفترضة في شكلها الأدبي، ومن خلال مهمة الممثل الأدائية يتم ملء الفجوات الإشارية النصية إلى حالات درامية تشخيصية تتمظهر من خلال اتحاد مستويات الأداء الصوتية والجسدية وقنوات التعبير الحسية، على وفق غنى المخيلة الجمالية للممثل، والتي تنتج أساسا من فهم واع وتصور جدلي مع البنية النصية، ومن ثم يقدمها (قدسية) بمستوى أدائي معين، وبناء على تلك المعطيات الفنية والجمالية التي تؤسس لعمل الممثل المسرحي وأدواته الأدائية الفاعلة في إقامة التواصل مع المتلقي على نحو صحيح ومثالي كما فعل ذلك من خلال مسرحه الحي الذي عمل فيه لأكثر من 50 عاما.

خمسون عاماً وأنا أنزف عرقاً على خشبتي القباني والحمراء

تجربته في المسرح الواقعي

قد يجد أي فنان جديد في مسيرته الفنية ولا سيما بعد إن كانت له تجربة في المسرح الواقعي أن يتأقلم بالعمل مع المسرح التسجيلي والملحمي ما لم يملك رؤية معاصرة للأحداث الواقعية والتي يعيشها ضمن مسيرة مليئة بالأحداث والتواريخ ولا سيما منها الأحداث التي تسببت في انهيار الوضع الاقتصادي والسياسي، لكن (زيناتي قدسية) وعى جيدا أن أسلوب العرض المسرحي في المسرح التسجيلي سيؤثر تأثيرا مباشرا على أداء الممثل في هذا المسرح مما يخلق علاقة مابين الممثل وأدوات العرض الصوري والتي يؤكد عليها الممثل أو الجوقة في تعليق على الأحداث ومن دون معايشة الحدث واستغلال العاطفة، ولهذا عمد (قدسية) في أسلوب أدائه في المسرح التسجيلي إلى خلق العلاقة مابين الممثل والصورة أو التواريخ أو الأرقام للأحداث والوقائع التي حدثت ومن دون تزييف.

استطاع الممثل القدير (زيناتي قدسية) باستيعاب مبكر أن الأثر الذي يتركه التمثيل المسرحي في النفوس أعمق وأبلغ مما يتركه (فيلم سينمائي)، فهو إذن أهم من السينما، والممثل الذي سبق له العمل في المسرح يستطيع أداء أدواره في العمل السينمائي إذا أسندت إليه أدوار سينمائية بشكل رائع أفضل مما يؤديه ممثل سينمائي عادي، وكثيرون من الممثلين البارعين في الأداء السينمائي الذين نالوا شهرة واسعة بدأوا – أول وهلة – الاشتغال والاهتمام بالفن المسرحي، لهذا تجد قدسية مختلفا في أدائه في الدراما التلفزيونية عنه غيره من أقرانه بدرجات متفاوتة على مستوى حركة ولغة التجسيد في تجسيده لشخصية تاريخية أو شعبية أو حتى شخصية كاريكاتورية تهدف إلى الضحك من فرط التراجيديا.

المسرح في عالمنا العربي لم يكن حرا ولا مقاوما في يوم من الأيام!

رائد المونودراما في المسرح

عرف (زيناتي قدسية) بأنه رائد المونودراما في المسرح السوري والفلسطيني، وعلى الرغم من أنه سادت في الآونة الأخيرة عروض مسرح المونودراما، إذ لا يخلو مهرجان مسرحي على مستوى العالم و العالم العربي من عروض مسرحية تنضوي تحت هذا التصنيف، حتى باتت أشبه بموضة مثيرة للتجربة، إلا أنه كان على عكس كثير ممن ولجوا عالم (المونودراما) الذين كانوا مدفوعين بالإنفراد الذي يحققه هذا النوع من العروض المسرحية، والذي يغذي نرجسية الممثل الذي بدوره يبحث عن ذاته مؤمنا بقدراته، لكنه غالبا ما يجد نفسه في ورطة الوحدانية، ولهذا فـ (قدسية) من القلة من ممثلي المسرح العربي القادرين على تولي مسؤولية التورط في محنة  الوحدانية على المسرح، لأنه غالبا لا يمتلك الكثيرون من أدواته أكثر من موهبة (السير والحوار والبكاء) وهى أقصى غايات الإبداع لديهم، وكلها قاصرة عن تقديم عرض فني متكامل، كما يفعل قدسية في مسرح المونودراما.

ولد الممثل السوري من أصل فلسطيني (زيناتي قدسية) في قرية (إجزم)، في حيفا، وانتقل إلى دمشق عام 1971، وظلت ذاكرته تعبق برائحة بلده الأم، إذ لازمت القضية الفلسطينية معظم أعماله، منذ البدايات وحتى الآن، بدأ تجربته في المسرح الجامعي ومسرح الهواة، وكان معاصرا لتجربة (سعد الله ونوس) مع المخرج (فواز الساجر)، وقد قدم مع الأخير عدة أعمال مسرحية منذ عام 1977، بعد ذلك أسس فرقة (أحوال المسرح)، فقدم فيها أعمالا مونودرامية حملت توقيع الكاتب المسرحي والشاعر والروائي (ممدوح عدوان)، ليحققا شراكة فنية أنتجت ثلاثة عروض ساهمت في تكريس اسم قدسية كواحد من الأسماء الشهيرة في عالم المونودراما العربية.

قدم (زيناتي قدسية) عددا من الأعمال التي تتناول المأساة الفلسطينية، وأخرج مجموعة من الأعمال الجماعية للمسرح القومي السوري، ربما كان أبرزها مسرحيته (رأس الغول) التي زاوج فيها بين أعمال الأديبين محمد الماغوط وزكريا تامر، وقدم للمسرح السوري عدة مسرحيات منها (عنتر وعبلة، تياترو، وحيد القرن – تأليف وإخراج، في حضرة الغياب، الملك هو الملك، حكاية بلا نهاية، حرم سعادة الوزير، دونكيشوت، جويا، زيارة الملكة، نبوخذ نصر، حلاق بغداد، فرح شرقي، مقام إبراهيم وصفية، وأخرج عددا آخر من المسرحيات منها (سيف اليزن، الهلافيت، التحقيق)، حفلة على الخازوق، وإعدام من إعداده وإخراجه، القيامة 2 (مونودراما) وآخر أعماله في نهاية يونية الماضي (الجلجة)، ولم تقتصر إنجازاته عند ذلك، حيث أسس فرقة القدس المسرحية عام 1988، كما تعاقد بصفة خبير لشؤون المسرح مع وزارة الثقافة السورية، إضافة إلى ترؤسه عددا من المهرجانات المسرحية وعمله في المسرح القومي منذ عام 1980 وحتى الآن، وقدم للإذاعة (شخصيات روائية، وخزائن العرب).

ما ملكت أيمانكم
هولاكو في (الظاهر بيبرس)
جوقة عزيزة

خمسون عملا في التليفزيون

شارك زيناتي قدسية بالدراما السورية في ما يقارب خمسين عملاً، نذكر منها (عز الدين قسام، عام 1981 ، الدخيلة – 1992، طرائف أبي دلامة – 1993، حنظلة أبو ريحانة – 1995، عودة الفارس – 1996، العوسج – 1997، رمح النار، وجواد الليل – 1999، ليل المسافرين، والبواسل – 2000، هروب، والمقامات الصحراوية، والبحث عن صلاح الدين – 2001، آخر الفرسان – 2002، عذراء الجبل – 2004 ، الظاهر بيبرس – 2005، خالد بن الوليد، وحكايا الليل والنهار – 2006، عنترة – 2007، صراع على الرمال، وابن قزمان – 2008 ، ما ملكت إيمانكم – 2010، الحسن والحسين – 2011، بواب الريح – 2014، إمرأة من رماد – 2015، باب الحارة (8) – 2016، هارون الرشيد، ووهم – 2018، مقامات العشق 2019، وآخر أعماله (جوقة عزيزة – 2022).

 لقب زيناتي قدسية بـ (فنان المونودراما) هذا اللقب الذي رافقه طويلا، فرغم عمله في السينما والتلفزيون وفي أعمال مسرحية كبيرة، إلا أن اسمه ظل لصيقا بفن الممثل الواحد، وما يميز عمل قدسية كممثل، أنه يطغى بشخصه عليها، فأسلوبه التمثيلي يحاول مقاطعتها مع أسلوب أدائه، الأداء الذي يمكن وصفه بالكلاسيكي، ورغم تكرار زيناتي لهذا الأسلوب، إلا أن له شكله التمثيلي الخاص الذي يوثق لعلاقته مع الجمهور العربي، وإن كانت الصورة ذاتها: صلعة زيناتي تلمع تحت بقعة الضوء الباهتة، أصابعه نحو الأعلى وجسده منكمش نحو الأسفل، يستند على قدمه اليسرى واليمنى تسبقها بسنتيمترات قليلة، هذه الصورة أضحت من الذاكرة المسرحية المحلية، والتي تصور الوضعية التي يتخذها قدسية بالأداء دائما، كما يمكن القول بأنها صارت جزءا ةلا يتجزأ من مسرح الحمرا أو القباني في دمشق.

أبو شتار

مونودراما (أبو شنار) تمثله

وفي مجال مسرح المونودراما قدم (زيناتي قدسية) عدة أعمال منها: مونودراما (غوايات البهاء) في عام 2004، التي تصنف من نتاجات مرحلة جديدة جمعت بين قدسية والكاتب السوري (موفق مسعود)، حيث اتجه قدسية إلى تقديم أعمال ذات طابع فلسفي، حيث لا شخصيات حقيقية، والشخصيات هشة مفككة، وكأنها أفكار مجردة، والحوار في هذه الأعمال كان أقرب للمناجاة الشعرية منه للمسرحي، وقدم (قدسية) أيضا مع (مسعود) عدة أعمال في هذه الفترة منها (كأس سقراط الأخير – 2006)، وفي العام 2011، عاد قدسية إلى صيغة الأعمال التي حققت شعبيته، حيث قدم الراوي الفلسطيني مونودراما (أبو شنار)، ساردا بعض من حكايا الداخل الفلسطيني، و( أبو شنار) الذي يحلم بالعودة إلى قريته (إجزم) هو نفسه (زيناتي قدسية) في الواقع، إذ أن الحكايا التي قدمها خلال أربعين عام من العمل المسرحي، تشبه كثيرا حال الفلسطينيين، وحاله، كواحد منهم، هو الحالم والراغب بالعودة حتى ولو طال الانتظار.

ياسر عرفات في (حضرة الغياب
زيناتي قدسية يخوض المأساة الإغريقية عبر نص روسي
مقام إبراهيم وصفية

بقي مخلصا لتجربته الطويلة

يقول (زيناتي قدسية) عن تجربته المسرحية: (خمسون عاما حاولت خلالها أن أمسك بتلابيب هذا الفن الصعب والمعقد، وبعد كل هذه السنوات لا أستطيع الادعاء بأني أفلحت في تحقيق هذا الهدف، ولكني ومنذ وقت مبكر أدركت أني مقبل على خوض معركة استثنائية قد تطول، ومع مرور الزمن أدركت أكثر أن المسرح قضية كبرى وتحتاج إلى رجال على مقاسها).

لكن يبدو لي واضحا (قدسية) بقي مخلصا لتجربته الطويلة مع (ممدوح عدوان) التي بدأت عام 1972 في المسرح الجامعي في سورية واستمرت 33 عاما، مرورا بالمسرحين، الفلسطيني والقومي، وانتهاء بفرقة (أحوال) التي أسست لفن المونودراما – عشق قدسية المستمر – تجربة يعتبرها قدسية من أجمل وأنضج التجارب التي عاشها مع رفيقه الكاتب الكبير (ممدوح عدوان) الذي على حد قوله: (يعبر في كثير من رؤاه الإنسانية والشعرية والجمالية عن أدق الخلجات في نفسي، إنه كاتب متجدد يتعامل مع بشر من لحم ودم، لا يتصيد مواضيعه من السماء، بل يلتقطها من على أرصفة الشوارع وأزقة الحارات وزوايا البيوت، ويكشف ما وراء الجدران بمجهر قلاب).

غير أن (قدسية) خلال حديث له عن رفيق دربه (عدوان) الذي تركه وحيدا يواجه الوحشة بالإبداع، لا ينسى ذكر تجربته مع رائدي المسرح السوري، (سعد الله ونوس وفواز الساجر)، اللذين أسس معهما المسرح التجريبي في سورية، لكنه يفصح عن شعوره بالخوف والارتباك، كلما تحدث عن هذه التجربة التي أنتجت عددا كبيرا من العروض والحوارات العميقة في شؤون المسرح والفن عامة، ويكتفي بوصفها بـ (الأكاديمية المزدوجة)،

وننصرف مع قدسية عن سرد ذكرياته مع رفاق الدرب الذين رحلوا ليسرد قصة راحل آخر أسس لوعيه الفكري والفني، إنه (غسان كنفاني) الأديب الفلسطيني الكبير الذي شكل أدبه مرآة صادقة للواقع الفلسطيني البائس بدءا بالنكبة وانتهاء بالشتات، يقول قدسية: (كنت أقرأ قصة قصيرة لغسان فأتعرف على جزء من نفسي والمحيط الذي أعيش فيه، كل قصة لغسان كانت تشكل بالنسبة لي إجابة عن سؤال كبير وصعب، كل رواية من روايات غسان كانت ولم تزل تفتح أمامي أبوابا مستعصية، وتدخلني في عوالم كنت أعتقد باستحالة اكتشافها، غسان هو الذي جعلني أدرك الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تلك الهزيمة الكبرى.. باختصار هو معلمي الأول، فاتحة إدراكي لهذا العالم).

الجلجلة

المسرح المقاوم شغله الشاغل

ومن جانب آخر يقدم قدسية الحكواتي الفلسطيني العظيم تصورا مختلفا عن المسرح المقاوم الذي يرى فيه شرطا أساسيا للدفاع عن حرية الإنسان وكرامته في الحرب والسلم، مشيرا إلى أن (المفكرين والمثقفين والعلماء والشعراء ورجال المسرح في مختلف أنحاء العالم، حين ينتصرون للإنسان من أجل حريته وكرامته الإنسانية وحقه في الطعام والماء والصحة والتعليم والحب وإبداء الرأي والدفاع عن حقه في الوجود، إنما هم ينتمون بشكل أو بآخر إلى الثقافة المقاومة، العلوم المقاومة، الشعر المقاوم، المسرح المقاوم، وإن لم يضعوا إنجازاتهم العلمية والثقافية والإبداعية تحت هذا العنوان المباشر).

وحول مفهوم المسرح التجريبي يؤكد (قدسية) أن التجريب في المسرح يعني: (هضم واستيعاب كل تجارب الماضي، وبهذا المعنى يصبح التجريب الحقيقي نقيضا للتبعية والتقليد والنسخ)، ولهذا ينتقد قدسية محاولات المخرجين العرب المبهورين ببعض النزعات الغربية لجهة التعاطي مع مفردات تجريبية غريبة، ليس لها علاقة بالابتكار، إضافة إلى محاولتهم (هتك النص وإزاحته كما حدث في أوروبا وأميركا)، لكنه يؤكد بالمقابل على أهمية النص في العرض المسرحي ويعتبره في موقع القلب من الجسد، مشيرا إلى أن كبار المخرجين المسرحيين التجريبيين الذين قدموا إضافات مهمة في مجال المسرح لم يفكروا بإزاحة النص أو نفيه.

رائد المسرح التجريبي في سوريا

إنجازاته التجريبية في المسرح

وهنا يقول قدسية: (لو تذكرنا شكسبير أحد عمالقة التجريب في العالم، فإن ذاكرتنا ستمضي حتما باتجاه نصوصه العظيمة التي ورثها للبشرية والتي حملت في ثناياها كل إنجازاته التجريبية، وهذا ينطبق على ستانسلافسكي التجريبي الفريد، والذي خلف لنا منهجا خلاقا ما زلنا وسنبقى ننهل من كنوزه ونكتشف أسراره يوما إثر يوم، وكذلك الأمر بالنسبة لبريشت كواحد من عباقرة التجريب في القرن العشرين، والذي ولدت في زمنه أعظم النصوص المسرحية، وفوق كل هذا يحدثنا (قدسية) عن أهمية (لغة الجسد) في العرض المسرحي، مشيرا إلى محاولات بعض المسرحيين الغربيين لجهة تمجيد عنصر النص المكتوب على حساب عناصر العرض الأخرى، خاصة لغة الجسد بما لها من أهمية قصوى في التعبير عن مكنونات النفس البشرية، ويشير إلى ظهور دعوات من بعض المسرحيين في ثلاثينات القرن الماضي للاهتمام بلغة الجسد وعدم إهمالها كي لا يفقد المسرح حيويته وسحره، لكنه يؤكد أن هذه الدعوات أخذت منحى مغايرا لدى بعض المسرحيين العرب الذين أوغلوا في تمجيدهم لغة الجسد على حساب النص تحت شعار التجريبية والحداثة.

أما النقد المسرحي بالنسبة لقدسية، فهو مرتبط جدليا بالفعل المسرحي لأن النقد عامة هو (نتيجة لقاء ذهنية الناقد بذهنية المبدع، لا كما هي في ذاتها بل كما تحققت في المنتج الإبداعي، بتعبير آخر، لا يجوز لناقد مهما علا شأنه أن يلبس المنتج الإبداعي رداءه الفضفاض، ثم ينعته بالهزل، وشتان بين أحجام هزيلة تتعامل مع النقد بهذه الرداءة وبين القامات الشامخة للمبدعين الحقيقيين، ومن ثم يرى أن واقع النقد المسرحي في العالم العربي ما زال يسبح في بحيرة المتاهات العجولة والتعليقات الهشة والباهتة والهامشية، وليس له أي أثر أو انعكاس في الواقع الاجتماعي بمعنى أنه لم يحقق شيئا على الإطلاق، مبررا ذلك بكون تجربة المسرح في العالم العربي ما زالت دون المستوى المطلوب.

وبالنسبة لقدسية تكمن أهمية المسرح ودوره يتجلى في (إنعاش الذاكرة وتنشيطها وتحريك الوجدان واستنهاض الذائقة الجمالية والمعرفية، وبالتالي تحضير المجموعات البشرية للدخول الواعي في قابليات الازدهار الإنساني)، ولهذا فإن المسرح خصوصا والفن عموما هو الإمكانية الوحيدة للتعويض عن انعدام التوازن بين ما نعيشه وما ينبغي أن نكون علي، لهذا قضى أكثر من خمسين عاما وهو يقف صلبا على خشبة المسارح، خمسون عاما يدافع عن قضايا جوهرية ليثبت أن الفن من الإنسان وإليه، فنان حمل قضيته في قلبه واستطاع في كل شخصية قدمها أن يترك أثرا له طعم خاص في عقل وقلب ووجدان المتلقي.

المسرح السوري سيبقى في طليعة المسارح العربية

أشهر أقوال زيناتي قدسية :

** أنا أجزم بأن هناك شيئا ما في الممثل المتوهج غير واضح المعالم، لكن تجليات هذا الشيء تبدو واضحة في الألق الذي يضيفه على كل لحظات العرض.. شيء لا يتم الإفصاح عنه! ويكتفي بالقول على طريقة المصطلح الشعبي: سر الصنعة!

** كثيراً ما تحدثت عن (ممدوح عدوان)، عن نشأة العلاقة وتطورها إلى أن وصلنا عبر عشرين عاما إلى شراكة إبداعية من نوع خاص…وفي كتاب (القابض على الجمر) أحاديث في هذا الإطار، لكن مهما تحدثت عن ممدوح سأبقى مقصرا ولن أفيه كل هذه الأحاديث وأضعافها حقه.

** المسرح في عالمنا العربي لم يكن حرا ولا مقاوما في يوم من الأيام!، ولو كان كذلك لاختلف الوضع والنتائج التي تمخضت عنها التجربة المسرحية العربية خلال مئة وسبعين عاما مريعة وتدعو إلى الرثاء.

** في كل دول العالم هناك دائما حضور لافت للمسرح المقاوم وإن اختلفت أساليب التعبير عن روح المقاومة من مسرح لآخر وما دام هناك قاطعوا رؤوس وآكلو قلوب وأكباد، وما دامت هناك قابلية لنشوب حروب كونية ومادام على الأرض أرباب يعملون على تخريب العالم وتدمير أمنه عبر التاريخ.

** خمسون عاماً وأنا أنزف عرقاً على خشبتي القباني والحمراء.. رائحة جلدي امتزجت برائحة الجدران والستائر والمقاعد والكواليس، كيف يمكن للإنسان أن يتعرف على نفسه خارج هذا المكان الذي شكل ملامحه الأساسية على مدى هذا العمر؟

** أنا مصمم على أن أعمل في المسرح حتى الموت، هذا خياري ولكن هذا لا يعني مطلقا ألا أعمل في السينما والتلفزيون والإذاعة وغيرها.

** أنا ممثل، هذه مهنتي وينبغي أن يكون لي نصيب في العمل مثل كل زملائي حتى لو كنت ممثلا سيئا مع إنكم تعرفون جيدا قائمة الأوصاف التي يطلقونها على زيناتي قدسية الممثل ..لا أقول هذا من باب مدح النفس وإنما أذكرك به من باب المفارقة، إذا أين تصرف قائمة الأوصاف هذه؟ أهو إهمال أم ماذا؟.

** المسرح السوري سيبقى في طليعة المسارح العربية فهو لا يزال يقف على قدميه ويقدم أعمالا تستحق التقدير، لافتا إلى أنه حالته اليوم لا تسمح بالعودة إلى مرحلة الترهل والاعتباطية في الإنتاج المسرحي، وهذا يستدعي الدخول في عملية الصناعة المسرحية والإبداعية بشكل جاد ومدروس وبعناية شديدة.

** من بين أسباب ظاهرة التجريب في المسرح الحديث الذي يكاد يخلو من الحوار بين طرفين هو عزلة الإنسان وتحوله عن نمط المسرح التقليدي، حيث ينتهي الحدث الدرامي وتحول المشاهد إلى كائن معزول عن جاره الذي يشاهد العرض معه وعن المجتمع خارج المسرح.

أنا مصمم على أن أعمل في المسرح حتى الموت

وفي النهاية لابد لي تحية تقدير واحترام للنجم السوري الفلسطيني (زيناتي قدسية) الذي يعد واحد من القلة القليلة التي بقي المسرح في خاطرها (دار، ووطن، امرأة  تاركة  وولد بكر)، وهو من يعتبر المسرح شأن وطني بقدر ما هو شأن فني، مستمرا بالعطاء المسرحي دون انقطاع، ملتصقا بهذا الفن النبيل منذ أكثر من 50 عاما في الوقت الذي أصبح فيه هذا العمل الفني أشبه بالعمل المجاني، دون أن يتخلى ولو قليلا عن مفردة (الإتقان) كمحفز له لتقديم العمل الأجود، ولهذا تعتبر مسيرة (قدسية) في المسرح دليل على حيوية هذا الفن ودينامكيته التي يمكن توصيفها بالجملة الماركسية الشهيرة (خطوة للوراء.. خطوتان إلى الأمام)، ومن هنا يبقى فنانا يمثل نبض الشارع العربي عموما والفلسطيني بشكل خاص عاضا بالنواجذ على الجراح المفتوحة في الشتات؛ السمة الأكثر وضوحا في أعماله المسرحية، متخذا من جمهور المسرح فرجاره في رسم دوائر النجاح أو الفشل الأقل على جزعه الفني .. أمد الله في عمره ومتعه بالصحة ليمتعنا أكثر بإبداعه المسرحي التليفزيوني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.