بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
تناولت عدة أقلام ، و برامج متعددة قضية مقتل فتاة جامعة المنصورة (نيرة أشرف)، بسبب بشاعة الجريمة ، و بسبب أيضا ردود الأفعال عليها ، حتى لم يبق ما يقال عن تلك القضية أو فيها ، فتصريحات البعض عن الجريمة أثارت عاصفة من الاعتراضات و الجدل ، و خاصة ممن يحسبون على الأزهر ، مما اضطر المؤسسة العريقة للخوض فى الجدل الدائر إثباتا لموقف الأزهر الذى لا يتفق معهم . و لكن بشاعة الجريمة و ما كشفت عنه التعليقات أثارت داخلى عدة ملاحظات .
الملاحظة الأولى : أن العنف ضد المرأة قد ازداد ، نتيجة أن المجتمع تسوده موجة من التدين الزائف ، نتج عنها إلصاق كل نقيصة بالمرأة و أنها سبب الغواية ، و أن الرجل ضعيف أمام أى ( فعل مؤنث ) ، و أعتقد أن هذه الموجة تزداد يوما بعد يوم بسبب أن بعضا ممن ينتسبون إلى العلماء يبحثون عن الشهرة و المال عن طريق كثرة التداول على صفحات التواصل الاجتماعى – أو ركوب الترند بلغة العصر -بأحاديثهم الصاخبة التى تدين المرأة فى أى موقف و أى تصرف . و بما أننا مجتمع ذكورى فمثل هذه الأحاديث تنتشر بسرعة و تجد صدى لأنها تريح الرجل ، و تزيح عن كاهله أية مسئولية ، فهو مفعول به و ليس فاعل ، يغويه الشيطان عن طريق المرأة و لا يملك لهذا دفعا . و بالتالى ليس مسئولا عن أفعاله الناتجة عن تلك الغواية، و أن على المرأة أن تخرج فى (قفة أو شوال) لكى تتجنب أن تفتن الرجل الذى لن يتورع عن قتلها لو لم تستجب لرغباته .
و مثل هؤلاء الشيوخ المتحاملين على المرأة لابد من منعهم من الظهور الإعلامى سواء الرسمى أو الخاص ، فعلى المستوى الدينى فهم يروجون لأفكار تنتسب إلى غلاة المذاهب اليهودية التى تحتقر المرأة و تراها من أخرجت آدم من الجنة ، بتحالفها مع الشيطان ، و هذا عكس موقف الدين الإسلامى ، فلقد نص القرآن على أن الشيطان وسوس لآدم فعصى ربه ( سورة طه )، و لم تأت أى إشارة لتعاون حواء مع الشيطان إلا فى تفسيرات بشرية . و فى نفس الوقت لم تذكر المرأة بهذا القدر من التبجيل فى الكتب السماوية كما ذكرت فى القرآن ( مريم – أم موسى – إمرأة فرعون .. إلخ )، أما على المستوى الاجتماعى فهؤلاء المشايخ يزيدون الموقف اشتعالا ضد المرأة ويحرضون على احتقارها و بالتالى العنف ضدها .
الملحوظة الثانية : هى مسارعة بعض الأفراد إلى إدانة الفن فى أى جريمة عنف تحدث ، و أصحاب هذا الرأى يريحون أنفسهم بعدم البحث عن الأسباب الحقيقية ، فالفن صورة من المجتمع يصور ما فيه و يستمد موضوعاته منه – إلا فيما ندر – وليس العكس ، فأفلام مثل (المرأة و الساطور) قدمت بعدما أن قامت امرأة بالجريمة لأول مرة و ليس العكس ، و أفلام المخدرات تم تقديمها بعد أن انتشرت فى الثمانينات، و أفلام البلطجة ليست جديدة على الشعب المصرى بل هى نسخ شعبية رديئة من أفلام الكراتيه التى انتشرت فى السبعينات . و لكن الباحثين عن الشهرة سواء من بعض أعضاء المجالس النيابية الذين دأبوا على إدانة الفن و الفنانين ، و كذلك بعض المحامين الذين نصبوا أنفسهم حماة للمجتمع وراء هذه النظرة القاصرة التى تلجأ لإدانة الفن طلبا للشهرة .
و الحقيقة أن العنف زاد فى المجتمع إلى حد كبير يستوى ما هو ضد المرأة و ماهو ضد الرجل ، فبينما تعقد أولى جلسات محاكمة قاتل الطالبة نشرت الصحف خبر قتل رجل لأمرأته و حرق جثتها بسبب حملها فى فتاة و ليس صبى !!! ، و فى نفس الصحف خبر محاكمة مذيعة قتلت زوج اختها !! فهل الفن ما دفع هؤلاء لإرتكاب جرائمهم ؟ أعتقد انه آن الأوان للبحث عن الأسباب الحقيقة بدلا من تعليق الأمر على شماعة الفن .
الملحوظة الثالثة : و مادمنا نحاول البحث عن الأسباب الحقيقة ، فلابد أن نعترف أن هناك أسبابا متعددة للعنف نغفلها و لا نبحث خلفها ، و لا يشغلنا أمرها ، لعل أهمها انتشار الأمراض النفسية فى المجتمع ، فنسبة المصابين بالأمراض النفسية ارتفعت إلى 25 % من عدد السكان – و أنا انقل هنا عن بيان رسمى للمسح القومى للصحة النفسية الذى تم فى 2018 – و أن الاضطرابات الأكثر انتشارا هى اضطرابات المزاج (اضطرابات الاكتئاب على وجة التحديد)، والتى بلغت 43.7% وبلغت اضطرابات تعاطى المخدرات 30.1٪ . وكشف المسح عن أن انتشار الاضطرابات النفسية أكثر فى المناطق الريفية من المناطق الحضرية، وهو ما يشير إلى الحاجة لتوجيه الخدمات النفسية إلى تلك المناطق ، و جاء فى ذلك المسح أن 0.4 % من الذين يعانون من اضطرابات وأعراض نفسية فقط يلجأون للعلاج ، و هى نسبة منخفضة للغاية مقارنة بالذين لديهم مشاكل أو اضطرابات نفسية .
و لكننا نتجاهل تلك الأمراض و بعض الأطباء للأسف يعتبرون أن الصالحين والأتقياء لا يصيبهم المرض النفسي وأن ذلك ضعف إيمان.. ولكن الحقيقة أن مرضا نفسيا مثل الفصام هو مرض عضوي في المخ مثله مثل باقي الأمراض التي تصيب أمراض الجسم . و قد صرح الدكتور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسى فى يناير 2020 أن الصحة النفسية يجب أن تعد أولوية إنسانية ، وعلينا أن نوفر العلاج لمرضاها ، لافتا إلى أن عدد المنتحرين في العالم حوالي مليون شخص ، 70% منهم يعانون من الاكتئاب ، مؤكدا أن الاستثمار الحالي في خدمات الصحة النفسية يقل بكثير عن اللازم .
الملحوظة الرابعة : أن المرأة أحيانا – دون قصد – ترسخ للتفرقة بين الجنسين ، بالدفاع عن حقوق المرأة ( فقط ) و جعلها شغلها الشاغل ، فعلى سبيل المثال قامت مجموعة أطلقن على أنفسهن ( نسويات وصحفيات وناشطات حقوقيات ) بإصدار بيان ضد حملة التحريض ضد المرأة ، يطالبن فيه النائب العام بالتدخل لوقف ما يحدث من تحريض ضد النساء والفتيات سواء من بعض الشيوخ أو على وسائل التواصل ، ويطالبن بقانون موحد للعنف يحمي نساء مصر لا يحمي الجاني ( على حد قولهن ).
و هذا البيان برغم اتفاقى مع ما جاء فيه و تضامنى مع كل مطالبه ، إلا أن إصداره بشكل نسوى جعل البعض يحجم عن التوقيع عليه ، و كان من الواجب أن يصدر باسم المصريين جميعا ، فالكل فى نفس الأزمة ، فالخوف على الشقيقة و الزوجة و الابنة سيدفع الجميع إلى التوقيع على هذا البيان و لا يجب تخصيصه فقط للمرأة و تكريس تلك التفرقة .
إن على المجتمع أن يعود إلى صيغة عدم التفرقة بين الذكر و الأنثى ، التى كانت سائدة فى الستينات و قضى عليها المد الوهابى . فكلا منهما مواطن له نفس الحقوق و عليه نفس الواجبات ، و هذا ما يجب على كل الجهات الرسمية و الشعبية أن تعمل على ترسيخه ، و أن التفريق بين الجنسين خطوة فى طريق اهدار حقوق المرأة .
الملحوظة الخامسة : أن استخدام تلك الحوادث لتصفية الخلافات السياسية بات أسلوبا ممجوجا و سخيفا ، بل إن الفصيل الذى يضع تلك الحوادث فى باب سيئات النظام هو من أدخل العنف الى حياتنا السياسية ، و كلنا نتذكر جرائم ذلك الفصيل ، قديمها وحديثها . و محاولاته للمتجارة بتلك الأحداث يثبت فشله فى مناقشة أى أمر بشكل جاد و موضوعى ، فأسباب العنف متعددة و لا تقتصر فقط على أسباب سياسية بل يشاركها الاقتصاد و الاجتماع و علم النفس ، صحيح أننا نعتمد على الحكومة لإزالة الأسباب و لكن الجزء الأكبر يقع علينا كمواطنين و يجب أن نتكاتف فيه . إلى جانب أن مثل هذه الحوادث تقع فى بلدان أخرى يختلف نظامها السياسى عنا تماما .
تلك ملاحظات مبدأية تحتاج إلى تفكير أعمق فى السبب وراء عنف المجتمع.