بقلم : محمد شمروخ
كأى متابع للأحداث أحزننى وآلمنى ما حدث في المنصورة من جريمة الذبح التى راحت ضحيتها الطالبة (نيرة)، تلك الفتاة التى كانت تبدو كإشراقة الصباح في صورها المنشورة على صفحتها بموقع فيسبوك والتى أدخل رحيلها الحزن في القلوب النقية، وصارت في غضون ساعات حديث كل بيت في مصر بل والناطقين باللغة العربية على مواقع التواصل الاجتماعى، وربما جذبت انتباه كثيرين من غير الناطقين بالعربية في عصر التواصل بين كل بقاع الأرض.
لكن فلتسمحوا لى أن أخالف من رأي أن جريمة ذبح نيرة تشكل (ظاهرة) جديدة في نوعها على المجتمع أو أن ارتكاب الجرائم بهذا العنف وبهذه الجرأة وبتلك الوحشية أمر مستجد على الشارع المصري.
فجريمة قتل فتاة في وسط الشارع قد سبقتها وقائع يمكن لو تتاح لك الفرصة أن تطالعها في سجلات الجرائم الجنائية في المراكز والأقسام والنيابات والمحاكم، كذلك في أرشيف الصحف والمجلات منذ عقود طويلة.
فما حدث ورغم وحشيته، إلا أنه لم يفاجئنى لدرجة هذا الهلع، فقد حدثت وقائع قتل في الشارع لفتيات أو غير فتيات بدوافع كثيرة ومتنوعة في العديد من المناطق، حتى أستطيع أن أدعى أنه ما من مدينة أو قرية إلا وشهدت مثل هذا الحادث في القريب أو البعيد في تاريخ سجلها الجنائي.
ومن بين هذه الجرائم العلنية قتل شابان لفتيات ربط بينهم الحب، سواء بادلته الفتاة المشاعر أم لم تبادله، كانت مسئولة عن انفصالهما أم غير مسئولة.. المهم أن سفك الدماء بسبب الحب أمر له سوابقه العديدة!
وربما يتذكر الكثيرون لاسيما طلاب جامعة القاهرة في نهاية عقد الثمانينات، أن حادثا يكاد يتطابق في الدافع والنتيجة والوسيلة، مع حادثة مقتل (نيرة المنصورة)، بل وكان في قلب الحرم الجامعى وعلى دقات ساعة الجامعة الشهيرة وليس بالقرب من باب الجامعة كما حدث بالمنصورة، ووقع كذلك جهارا نهارا، عندما قتل طالب بإحدى الكليات زميلته الطالبة بالكلية نفسها، بعدما هام بها عشقا ولكنها لم تأبه به كما لم تأبه نيرة بمشاعر قاتلها، فلما تملكه القنوط من الارتباط بها انهال عليها طعنا بسكين وسط ذهول زملائهما ولم يتركها حتى فاضت روحها.
وظلت الصحف اليومية والأسبوعية تتابع الحادث الذي أعقبته أصداء واسعة في تلك الأيام وصار حديث الجميع!
والحادث كان حادثا فرديا، وهى كذلك غالبية الجرائم من تلك النوعية التى تقع لأسباب شخصية بعيدا عن المؤثرات الاجتماعية التقليدية للجريمة، ثم نجد القاتل يؤكد في التحقيقات بأن (الحب) هو دافعه للجريمة وأنه لم يتصور أن تمضي حياته بدون حبيبته أو يتركها لرجل آخر سواه ولا يفتأ مؤكدا أن قتله إياها دليل على حبه وليس العكس!، بل ويزيد بالتأكيد على أنه لم يزل يحبها وأنه يرجو لقائها في الحياة الأخرى، بعد أن تأكدت أنه أحبها لدرجة الجنون الذي أفضى به إلى قتلها!.. (ومن العشق ما قتل).
ففى درجة جنون من العشق إن لم يقتل العاشق نفسه، قتل معشوقته أو سبب لها أذى يذكرها به طوال ما بقى من عمرها، مدفوعا بشهوة الانتقام لحبه الجريح!.
وفي حياتى السابقة كمحرر لأخبار الجريمة في قسم الحوادث والقضايا بالأهرام لا أكاد أحصى هؤلاء الذين قتلوا أنفسهم انتحارا تحت وطأة جنون العشق، كذلك لم يخل القتل من أن يكون العاشق قاتلا!
وكان ومازل رأيي أن هذه الدرجة من العشق هى درجة من درجات الجنون الحقيقي، فلطالما ارتبط العشق بالجنون (ورحم الله مجنون ليلى)، كذلك ارتبط الحب بالموت، ونحن في التعبيرات الشائعة نصف شدة الحب بأنه (حب بجنون) أو نصف شيئا أحببناه بأنه (يجنن)، كذلك اقترنت شدة الحب بالموت وأشهر مثل عن الحب العميق أن يصرح العاشق لمعشوقته بأنه (بيموت فيها).
لكن لأسباب ما غالبا ما تكون في شخصية العاشق نجده وقد تحول من جنونه الافتراضي إلى الجنون الحقيقي، فلا غرو بعدها أن يتحول موت الحب المجازى إلى موت حقيقي!
ونحن جميع وقفنا مذهولين جراء حادث المنصورة المؤسف، ورحنا نحاول تفسير ما حدث بتحليله بالبحث عن أسباب لسيادة البلطجة وانتشار العنف من الأفلام والمسلسلات، وأن المتهمين الحقيقيين (عبده موته والألمانى وإبراهيم الأبيض)، هم الذين قتلوا (نيرة!).
ونصبت المحاكم لمحاكمة الدراما المتهمة الحاضرة، بالمسئولية عن نشر ثقافة العنف وإبراز البلطجة!.
ولن أجادل في أن هذا يمكن – لحد كبير – أن يكون من بين أسباب العنف السائد، لأن هناك بالفعل من يتأثرون بالدراما، لكن العنف كان موجودا في كل عصور ما قبل الدراما، ولم يحدث أن خلا مجتمع إنساني أى كانت درجة رقيه من الجريمة، ولكن اتهم الدراما كما تشاء، إلا في قصة فتاة المنصورة لأن القتل باسم الحب جريمة واقعة ومتوقعة، إن لم تكن معتادة بسبب عوامل عدة قد تدخل فيها الظروف التفسية وقد تلمسها الظروف الاجتماعية، لكن لا تستغرب أن يكون الحب بجنون وحده سببا كافيا لما حدث.
فموضوع الانتقام من المحبوبة، من الجرائم المعتادة، فقد كان هذا يحدث في مناطق مختلفة وداخل طبقات وثقافات اجتماعية متنوعة، فالعاشق الولهان الذي بتحول إلى مجرم عارض، لا يبغى من إجرامه إلا عرضا واحدا، هو أن يثأر لكرامته التى أهدرت وقلبه الذي انكسر!
بل أحيانا يأتى الانتقام فيما هو أكثر من القتل!
وهل هناك أكثر من القتل؟!
نعم.. بأن يحول العاشق القاتل حياة محبوبته إلى جحيم لا يطاق، بأن يقوم مثلا بسكب مادة حارقة على وجهها (غالبا ماء نار) أو نشر صور أو كتابات تفضحها وكل ذلك بسبب أن انصراف المحبوبة عن حبيبها، يجعله مجالا للسخرية، فعندما تفقد المحبوبة جمالها بماء النار أو تتشوه سمعتها بالشائعات، يكون المحب قد انتقم منها ومن الحب نفسه لأنه أنهكه، ومن الجمال ذاته لأنه أذله!.
وبالفعل فإن هذا الانتقام أشد وطأة وجنونا من القتل، إذ يحول حياة المحبوبة إلى حجيم مع من حولها.
ومحاولات إيجاد تفسير عقلى لما فعله قاتل (نيرة المنصورة) البريئة، ستذهب جميعها سدى، قد نجد تفسيرا لدى الطب النفسي أو العقلي، لكن البحث عن سبب بالريموت كنترول، فلن يجدى إلا خداع النفس!
فمثل هذا الفتى القاتل قد بلغ به عشق الفتاة مبلغا سبقه إليه كثيرون تجاه معشوقاتهم، ولعلك مصدوم أن يكون الحب سببا في مثل تلك الفاجعة، لكنه نوع من الحب المريض المجنون، فالحب يصاب بالجنون، كما تصاب أى مشاعر أخرى، فلا يغرنك ما قد قيل عن الحب في الشعر والأغانى وهذا الهوس الذي يصيب البعض بمجرد نطق الكلمة بل ويجعلونها مبررا لكل انحرافاتهم السلوكية، ولو كان بقتل فتاة في مثل براءة (نيرة المنصورة)، فهذا الحب ليس كيانا منفصلا عنا كآدميين، فهو يعيش فينا يتطهر إذا تطهرنا ويتدنس إذا تدنسنا، فتلك الصورة المثالية للمشاعر الإنسانية لا تحدث بهذا النقاء المتصور إلا بالسذاجة وخداع الذات وقلة الخبرة بالناس وبالحياة، فما لم تكن هناك إرادة واعية توجهه نحو الخير، فالحب يصبح أسوأ ما يكون، خاصة إذا ما تلبس بالأنانية ليصير خليطا من المشاعر العشوائية والاندفاعات اللامسئولة التى تبرر للإنسان كل شر لأنه يجعله مرجعه الأول تحت تحكم شهوات وإطلاق نزوات يراها معبرا أساسيا عن هذا الحب المريض.
ومسألة فلان بيحب فلانة وعلانة بتحب فلان، صارت من ضروريات الحياة عند فئات عمرية معينة، فلابد من معشوقة وإن كان رغما عنها، أضف إلى ذلك بأن هناك اعتقاد ساذج خاطئ تافه، بأن المحبوب لابد أن يبادل المحب مشاعره وبنفس الدرجة، ويبلغ مرض العشق منه مبلغا يجعله يتصور أنها تفكر فيه مثلما يفكر فيها ثم يصبح يقينا أنها ستكون له لأنها تحبه مثلما يحبها!
وعند هذه المرحلة يرى أنها صارت ملكا له، حتى إذا ما تكشفت له الحقيقة، وهى لابد أن تتكشف، يتهم الفتاة بأنها تخلت عنه وغدرت به، فحينئذ تستحق العقاب ولو كان تشويها لسمعتها أو إيذائها نفسيا أو بدنيا حتى لو وصل الأمر إلى جريمة قتل، ثم تراه حزينا على ما جنت يداه متمنيا لقاءها يعد الموت وهذا ما حدث بالضبط في حادث نيرة وما ذكره قاتلها في التحقيقات!.
لكن جنون القاتل لم يكن الجنون الوحيد فإذا بجنون يوازى جنونه الذى نتج عنه فاجعة نيرة، فنسينا مأساة فتاة زهقت روحها في أجمل سنوات عمرها وإذا بالحادث يؤخذ عنوة لتصفية حسابات بين هذين الفريقين الأكثر حماقة واللذين ابتلينا بهما خلال العقدين الماضيين من السنين والقادرين على تحويل أي قضية إلى منافسة بين فريقين متناحرين، فإذا بالبحث في أسباب الجريمة يسفر فجأة عن أن نيرة، قتلت لأنها خرجت بشعرها!، وإذا بالخوف والتخويف يعم أولات الشعور من هذا الذي يتربص بهن لأنهن يسرن بدون حجاب أو إيشارب!
إذن فالجنون قد صار سمة هذا العصر وليس سمة القاتل وحده، وهكذا قتلت (نيرة) مرتين مرة بيد عاشق مجنون ومرة بسب حماقة فريقين ينجحان في كل مرة في تحويل الأنظار نحوهما لتحقيق مكاسب مادية أو دعائية تكون نتيجتها هذه الحالة من الجنون الجماعى الذي يجتاح كثيرا من الناس بدوافع أبعد ما تكون عن حقيقة الواقعة ولكن (كل يغنى على ليلاه).
وطالما ورد ذكر (ليلى) فلابد لها من مجنون! وها نحن صرنا جميعا (قيس بن الملوح) الباحث عن ليلى ليبرر جنونه!.