مهرجان الجونة : تضامنً مشْروط .. وعودة مطلوبة
بقلم : سعد سلطان
الحريق الذي طال ستائر وحِيطان القاعة الرئيسية لمهرجان الجونة قبل يوم من انعقاد الدورة الماضية، كان نذيراً لما ستؤول إليه الخواتيم.
تَباهَى سميح ساويروس بعمال ومهندسي أوراسكوم لاحتواء الحريق، وأظهرهم بجانبه على المسرح أثناء كلمته الافتتاحية للمهرجان في دورته الأخيرة، شاكراً شجاعتهم وسرعتهم.. ولكنها هكذا الحرائق، تُعمى العقول عن الحقائق.. فاته أن يلتقط ما وراء الحريق (وربما التقط .. ولكنه استمر في عِناده) ..!
قبل يومين من انعقاد المهرجان، قال المهندس سميح في المؤتمر الصحفي إنه (لا يفهم في السينما)، عَاجَله حِينها الأخ الأكبر نجيب ساويرس مازحاً: (.. ولا في الهندسة).. ضحك الحضور.. ولكن ما قِيلَ مزاحاً صار واقعاً.. بدت إدارة مهرجان الجونة في الدورة الأخيرة غريبة ومتنافرة.. تناثرت فيها الخلافات، فانتهت بإستقالات وإقالات.
سلَّمتْ (أوراسكوم) نفْسها مبكراً لإدارة مجموعة محددة من ذوي الولاءات المشكوك بها، الذين هم جزء من منظومة دولية تملك سلطة اختيار الأفلام وبرمجتها ضمن المهرجانات، وانتقاء لجان التحكيم، وضمان الجوائز لأفلام بعينها.. وفق أجندة احتكارية تطول أهدافها وتتنوع سياسياً واجتماعياً وأيديولوجياً أفقدت المهرجان توازنه تجاه تيارات سينمائية أخرى في العالم، إدارة لم تضع مستقبل المهرجان في بالها بقدر ما ابتغت تنفيذ أجندتها وتشبيك مصالحها، ولم تستهدف السينما كصناعة مصرية، ووجوب أن تتمدد وتواصل دورها الإقليمي، فراحت باستراتيجية (أوراسكوم) إلى ما يٌحتَّم الصدام ويُعجِّل بالحرائق، ولو المهرجان في أيد أمينة لفكرت إدارته – مثلا – في التوجه إلى أفريقيا بنجومها وأفلامها والجديد فيها (نوليوود نيجيريا) سبقت هوليود في عدد الأفلام والشاشات، أوغندا في الطريق.. كما أن مصالح مصر وورائها أوراسكوم مصيرية في هذه القارة، فآخر زيارة للمهندس نجيب ساويرس كانت للسنغال وهناك التقى رئيسها (ربما كان هذا التوجه كفيلا بالابتعاد عن مكامن التربيطات، ومنبع الحرائق، وتفادي السقوط والإلغاء تحت عنوان التأجيل.
الجونة أسرع مغترا في عرض أفلام واستضافة نشطاء ومنح جوائز وفقا لاشتراطات لوبي المهرجانات العالمية.. وضع أولويات برامج السفارة الأمريكية وأفلامها ومِنحِها في المقدمة، ترك السلطة للسفير الهولندي يفرض شروط الاتحاد الأوروبي فيمول من يشاء أفلاما.. ويسقط العطايا عمن يشاء.. صال خبراء (نتفليكس) والموالون لهم في تصميم المشاريع السينمائية المُسموَّمَة، وبجرأة غير معهودة في مشروعات أوراسكوم الفنية، تلبست إدارة الجونه نزعة الاستقلالية عن (سياسة التحرير) التي تقود صناعة السينما في مصر، المشهود لها بانحيازها الواضح لجمهورها في قضاياه المصيرية، واقتحامها باحتراف قضايا الفقر والعدالة الاجتماعية، فصاغتْ على مدار إرثها أصولاً وأرست قواعداً.
الجونه عرضَ فيلم (أميره)، وهو من إنتاج وإخراج وتمثيل الأذرع الاستعمارية الجديدة بمصر وفلسطين، اللاعبون الرابحون دوما بفلسطين وأصحاب الحظ والمجد والفرص مع السينما الأمريكية، وهم المُؤتَمرون والمُدرَّبون على تفكيك القضية الفلسطينية وإنهاء وجودها في أذهان الأجيال الجديدة سينمائيا، في الفيلم القضية مجرد حيوان منوي لأسير فلسطيني مُهًربً إلى زوجته للحمل منه، يستبدله ضابط السجن الإسرائيلي بحيواناته المنوية..! فتولد (أميرة) – رمز القضية – من أب إسرائيلي وأم فلسطينية..!!، الفيلم خالق لتعاطف بلا مقابل، وممهد لإذعان بلا ثمن.
في تقديمهما لفيلم (أميرة)، خطب المخرج اسْتعماريا متباهيا، جاوره المنتج سيدا على مسرح الجونة مُبشْرين بأن هذا هو الحل لفلسطين.. !، بينما في مهرجان البحر الأحمر بالسعودية الذي بَرْمَج الفيلم ضمن عُروضه، كاد الغضب الشعبي الفلسطيني أن يدق أعناق كل صناع الفيلم، وهبَّتْ حملةً فلسطينية وأردنية وعربية مَهولَة قادَها فنانونُ ومثقفون وإعلاميون حَطَّتْ من قدْر الفيلم والمشاركين فيه، فسحبت الهيئة الملكية الأردنية ترشيحَها للفيلم من تمثيل البلاد في المنافسة على أوسكار أحسن فيلم أجنبي، وقالت وزارة الثقافة الفلسطينية: (الفيلم يسيء بطريقة لا لبس فيها إلى تاريخ ونضالات الحركة الأسيرة الفلسطينية)، ومن ثم تفهمتْ إدارة مهرجان البحر الأحمر أبعاد الأزمة فمنَعتَ عرْضه ثم تراجع المخرج مذعورا ًفي بيان مطول خوفا وجبنا، وتأسَّف المنتج وإنسحب شركائه وابتلعت الصحراء آخرين مشاركين في الفيلم، لم تلعب السينما المصرية هكذا دور سلبي في القضايا المصيرية، فإلى أي طريق كان يأخذنا لوبي مهرجان الجونة؟!.
على إثر العاصفة التي طالتْ عرض فيلم (ريش) في الجونه، وامتدت عربياً وعالمياً في تصاعد منضبط – بدا مخططاً هو الآخر- استضاف المهرجان تكريم مجلة تابعة لمافيوز المهرجانات (فارايتي) – ثاني أيام الأزمة – للفيلم ومخرجه في إشارة تأييد ومناصرة فجَّة.
ورغم وصف المخرج الكبير مجدي أحمد علي لفيلم (ريش) بأنه كاذب، إلا أنه مُنِحَ جائزةً وفق ما هو مُقدَّر ومرسوم، ومن بعد دارت ماكينة الجوائز في قرطاج حيث منح – تحديا – أكثر من أربع جوائز وأخرى من مهرجان البحر الأحمر، وقتها أمطرنا إدارة الجونه بوابل أفعالها عبر هذا الموقع وتوقعنا سقوطها، ولكن أحدا لم يشتم رائحة (الشياط) المتصاعد من الأجناب والمنذر بحريق آخر قادم، ولو أن إدارة المهرجان تعي التوازنات لاستوعبت أن المهلة التي أتيحت لها للإعراب عن تقديرها (لجهود مبذولة لإصلاح أحوال البلاد والعباد) كانت فرصة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكنها استكبرت، ولم تدرك أن ما قبل (ريش) ليس مشابها لما بعده .. ولم يفكر أحدً لحظة في الفأل السيىء الذي يحمله (انتشال التميمي) مدير المهرجان على كتفه.
كتب الصحفي السعودي خالد ربيع: (للملياردريات نزواتهم، التي لا ندركها، ولكننا نصدقها ونتوهم أن هماً حقيقياً يشغلهم، وهى مجرد نزوات.. هكذا خطر ببالي عندما علمت بإلغاء مهرجان الجونة، اللعبة معادلتها كالتالي: استعراض إشباع غريزة الأنا، اقتحام الأوساط السينمائية، حصد معجبين، ثم استثمار عبر الترويج للمنتجع.. والآن انتهت النزوة وتمت المهمة وتحققت الأهداف “.. ما كان للعقل الفني والسياسة التسويقية في أوراسكوم أن ينحرفا هكذا انحراف، ويتسببان في وصْفً لا يليق بفكر المهندسين نجيب وسميح).
يُمثْلني ما كتبه الدكتور زياد بهاء الدين الاقتصادي الكبير الذي رأي إلغاء المهرجان خسارة كبيرة، وأشاركه دعوته للتضامن مع المهرجان، فالجونة صار حدثاً له وزنه وناله بريقاً وسمعة وإسماً كبيراً، شارك في صناعته كثيرون – إعلاماً وجمهورا ونجوم سينما – في نُموه وكبره وعالميته، من الجيد أن يعود الجونه السينمائي، متحرراً من إدارته التي أسْقطته في هذه الفِخاخ، منحازاً للصناعة السينمائية في مصر وقضاياها المصيرية.