بقلم : بهاء الدين يوسف
يقولون في الأمثال الشعبية أن الفنون جنون، وقد اعتدنا في الحقيقة على جنون الفنانين وهم أحياء في ذروة مجدهم المهني وشهرتهم التي تجوب العالم العربي، لكن الجديد بالنسبة لي على الأقل ما طالعته مؤخرا عن جنون ما بعد الموت، أو بمعنى آخر وصايا بعض الفنانين وما طلبوا من ذويهم أن ينفذوه بعد وفاتهم، حيث تخطى الأمر حدود المعقول في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى كانت الوصايا إنسانية مثل التي يمكن أن يوصي بها أي شخص طبيعي.
لعلكم تتذكرون بالطبع أن أغرب الوصايا هي التي تركتها الفنانة اللبنانية (جانيت جورج فغالي) المعروفة باسم (صباح) والتي عرف عنها عشق الحياة والاستمتاع بها، لكن الغريب إنها قررت مواصلة الاستمتاع بما بعد الحياة، حيث أوصت أن يغيب الحزن والنجيب عن جنازتها وأن تشيع الى مثواها الأخير في زفة تشبه زفة الأفراح، كما أوصت أن تدفن في قبر متفرد عبارة عن حجرة مزينة بالديكور وملونة الحوائط.
ليس بعيدا من تلك الوصية التي يراها الكثيرون غريبة، وصية الفنان الراحل (أحمد رمزي) الذي اشتهر بدور الشاب الشقي في أفلام الستينات، ثم اعتزل الفن والناس في سنواته الأخيرة، وأقام كما قيل في شاليه يملكه في الساحل الشمالي، وربما كان اعتياده على الحياة هناك وعزلته عن الناس هما السبب في أن يوصي بدفنه في الساحل الشمالي، لكنه لم يدرك إن المكان بعد سنوات قليلة من وفاته لن يبقى معزولا وإنما على العكس سيتحول الى واحد من أكثر مناطق مصر ازدحاما في شهور الصيف.
الأمر الملفت للنظر أن أغلب أصحاب المزاج الرائق في الدنيا وعلى الشاشة حملت وصاياهم للموت نفحة من ذلك المزاج الرائق، وبعد (صباح ورمزي) يأتي دور الفنان (رشدي أباظة) رمز الرجولة ومعبود الفتيات في ستينات القرن الماضي، والذي عاش حياته بالطول والعرض كما يقولون واغتنم من الدنيا كل المتع التي يمكن أن يطولها، ولهذا لم يكن غريبا عليه أن يوصي مساعده الخاص بأن يعطر قبره بالريحان والحنة قبل ساعات من دفنه ربما لإنه لم يكن يطيق الروائح السيئة.
في المقابل كانت وصية الفنانة (سامية جمال) غريبة بعض الشيء حين طلبت أن ينزل (النعش) الذي يحمل جثمانها من سلم الخدم دون أن توضح سببا منطقيا لذلك الطلب الغريب، و بدرجة أقل كانت وصية الفنان الراحل (نجيب الريحاني) الذي طلب أن تدفن معه صورة له من فيلم صاحب السعادة الذي أدى فيه لأول مرة شخصية (كشكش بك) وكان سببا في نجوميته السينمائية، فأراد أن يحتفظ معه في قبره بذكرى نجاحه.
وبين الموت الرائق والرحيل المتواضع هناك وصايا منطقية أو إنسانية لفنانين آخرين، مثل وصية (فاتن حمامة) بألا يقام لها عزاء ولا يحزن عليها أحد، أو وصية الفنان (نور الشريف) بأن يعرض يوم وفاته مشهد ختام مسلسل (عمر بن عبد العزيز) الذي يجسد وفاة الخليفة الأموي الذي اشتهر بكونه خامس الخلفاء الراشدين بفضل عدله.
ربما يظن البعض منكم أن طلبات الفنانين مبالغ فيها وتتماشى مع حياة الشهرة والترف التي تمتعوا بها، بل يمكن القول إنها لا تتناسب مع جلال الموت ورهبته، لكنها في الواقع لا تبتعد كثيرا عما يحدث مع المشاهير والأثرياء في الغرب الذين يطلب بعضهم أن يدفن في الفضاء، ويطلب البعض الآخر نعوشا بمواصفات وخامات معينة تليق بهم وكأنهم يقيمون حفل استقبال للملائكة وليس أنهم ذاهبون إلى حيث لا ينفع مال ولا بنون وبالتأكيد ديكورات أو نعوش مطرزة بالعاج ومزينة بالأحجار الكريمة.