بقلم الفنان التشكيلي الكبير : حسين نوح
من مظاليم المناخ الفني المصري ورغم بقاء أعماله يعرف قدرها الكبار عقلاً وقد يوافقني الكثيرون من الذين تعاملوا معه إنه (موتسارت العرب) بليغ حمدي، هذا الفنان الذي أجزم ومعي كثيرون إنه من الصعب أن تجود الحالة الموسيقية بمصر بمثله.
نعم وبكل ثقة لقد اقتربت من الرجل وكان في أعظم مراحل تجلياته العبقرية، تعرفت عليه وهو يقدم (محمد نوح) مغنيا في الإذاعة المصرية في مسلسل (حبي أنا) مع عفاف راضي في السبعينيات، وكنت شابآً يافعآً مفتونا بالموسيقي، وكان ذلك قبل أن يصبح بليغ شبه مقيم معنا في (ستديو النهار) في بداية الثمانينيات وأنا المسؤل عن إدارته وأحياناً أعزف معه بعض الأعمال، وهنا تعرفت علي بليغ الفنان البوهيمي والإنسان العاطفي المسكون بالنغم، وكنت ألاحظ أنه من القلائل الذين يكتبون (البارتاتورا – النوته الموسيقية لكل آلالات)، فهو غير معظم ملحني تلك المرحلة كانت قدراتهم الموسيقية تعتمد على تنغيم الكلام أو العزف علي آلة ويأتي الملحن بموزع موسيقي يصيغ اللحن ويقدمه موزعآ للعازفين.
بليغ حمدي لمن لم يعرفه وتعامل معه كائن مبدع شديد الخصوصية كثيرا ما أجده في أحد أركان الاستديو يجلس وحيداً يشاور الإيقاعات أو يدخن بشراسة ويعتصر النيكوتين في صدره وكثيرآً يختلي بأحد العازفين ليطالبه بما يتمناه في طريقة الأداء للعزف. رجل سريع الحركة في الاستديو ولكن قد يجلس في مكان يتحدث أو يعزف أو يناقش فلا تستطيع أن تخرجه من تلك الحالة، ومن ذلك لا تستطيع أن تجده ملتزماً بأي موعد فكانت الفرقة الماسية تنتظره والمطربة تنتظره، وأحيانا كثيره يأتي بعد الموعد بأكثر من ساعتين ويعتذر بلطف، ولكن الكل يعرف وكانت العظيمة (وردة الجزائرية) تدرك ذلك، وكنت حين أخبرها أن الاستديو محجوز والحجز بالساعة وسيآتي وقت الحجز التالي كانت تخبرني إنه بليغ، ولو حضر لا يكون بليغ ممكن يكون مع البيانو أو العود أو يتحدث منفعلا وتضحك واحتمال نائم ولا يستطيع أحد ايقاظه.
وحين سألت أحد أفراد الفرقة الماسية أخبرني أن بليغ يوم عقد قرانه على وردة ذهب بعد الميعاد بأكثر من ثلاث ساعات، والعجيب أن معارفه وأصدقاءه ومحبيه يدركون ذلك.
ولكنه بليغ المبدع القصير العملاق فنآً أكبر محب للأحذية ويجمعها ويأتي باحدث الموديلات من مصر والخارج وحبيب الكل، لقد ذكرت تلك التفاصيل ولدي الكثير لأتحدث عن كيف ظلم (بليغ حمدي) نفسه فهو البوهيمي العملاق إبداعآً العاشق للسهر والنغم والآلات والحديث وحميمية الصداقه وبوهيمية الأداء فيأتي إليه الأصدقاء من كل مكان ويعزمهم بكرم وحفاوة، وكثيرا ما كان يآخذ أصدقاءه إلى منزله، وإحدي المرات وأعتقد غالبه النوم ودخل لينام، وحدث أن اختلفت إحدى الضيوف مع أحد الحضور وقفزت منتحرة، ومرت الأيام ولا نعرف إلا أحكام القضاء والتي نجلها ونعرف أن الكل سواء أمام القضاء العادل.
وسافر بليغ وانقطعت أخباره إلا حين يأتي إلى الاستديو فنان أو صديق أو موسيقي ويبلغنا أن بليغ في المغرب أو الجزائر أو في باريس . كان نوح يتردد على باريس كثيرا، وفي إحدى المرات وكنت معه قال لي عاوز تشوف مصريين هم دائماً في منطقتين (سان ميشيل)، وقهوة (الفوكيت بالشانزليزيه)، واتفقنا أن نأخذ الغذاء في (كافيه دي باري) وقطعة (الانتركوت) المتميزة، ثم يأخذه (نوح) القهوة في (الفوكيت) وبمجرد جلوسنا قام نوح مندفعاً وهوينادي (بليغ) حبيبي، كان محب له جدا ويعرف قدره كموسيقي، فهو من شجع (نوح) علي الغناء، وأدرك بوعي الفرق بين المغني والمطرب صاحب الصوت البديع، وتعامل معه في حب معي أنا مع عفاف راضي وعمر خورشيد، وكان بليغ معه أحد الشباب المغاربة واعتذر لهم وأتي وجلس معنا، ولكنه شاحب حزين واشتكي لنوح من الغربة والسبب اللا منطقي في حادثة (سميرة مليان) وانتحارها من شقته بالمهندسين.
وأخذ نوح يخفف عنه، وأبلغه أنه أكيد راجع لمصر ومعظم المصريين يدركون أنه بريئ، ولم يمر الكثير وبعد أن أكمل تسع سنوات معاناة في الغربة عاد بليغ إلى مصر واستقبله معظم نجوم الفن والصحافة، ولكن للأسف زاد مرضه وتوفاه الله على أرض مصر معشوقته. قررمحمد نوح ان يقيم حفل تأبين لبليغ حمدي على (مسرح النهار) فنوح عاشق لبليغ ودائما يتحدث عن كرمه وعطائه وأنه بريئ من أي اتهامات، فالرجل فنان ومشهور عنه بطيبة قلبه ودائما بداخله فيض من موسيقي ويعزف كلما وجد بيانو أو عود ويدندن، وهذا يجعله دائما غير دقيق في مواعيده، اعتاد أن ينتظره محبيه والجميع محب لبليغ، من منا لا يتذكر موسيقي فيلم (شيئ من الخوف، مولد يا دنيا، أفواه وارانب)، والمسرح (ريا وسكينة)، غير ألحانه لوردة وعبد الحليم حافظ ومحمد رشدي وكوكب الشرق أم كلثوم.
أحضر نوح فرقة صلاح عرام وقرر أن يغني له ويلقي كلمة في وجود أخيه الدكتور (مرسي سعد الدين) وأخته ومحبيه ومنهم (مديحة يسري) وكثير من نجوم الفكر والفن، وغني (نوح): (سلم سلم يا بليغ، ومع السلامة يا بليغ، وانت اسم على مسمي، فأنت البليغ)، وتحدث أن الفنان بفنه لايموت وإن مات يموت جسدا لكن فنه باق، وهناك أشخاص تموت وتبقي وهناك أشخاص تموت بموت الجسد ولا يبقي منها شيئ، أنت باقي في قلوبنا بالحانك يابليغ.
لا يسعني أن أكمل فكثير من أسماء انسحبت والبعض مات قهراً، وأرجو أن ندرك خطورة تلك الحاله التي أصابت كثيراً من كتاب ومبدعين وصحفيين وفنانين، وعلى فترات نسمع أنين البعض منهم كما حدث مع (نجوي فؤاد) أخيرا بعد أن كانت تملىء شيراتون القاهرة وحفلات الملوك والرؤساء بهجة . لماذا نتجاهل بعض الكبار؟، هل رأيتم كيف كان يستقبل (كيرك دوجلاس وميكي روني وچاك ليمون ولي مارڤن) قبل أن يرحلوا؟، والآن كيف يحتفي بـ (جين فوندا وصوفيا لورين وميرل ستريب)؟.
هل تتابعون كيف تتعامل أمريكا مع النجوم الكبار ويعملون دائمآ فنجد (مورجان فريمان) مازال يمتعنا وموسيقي مثل (كوينسي جونز) صاحب الاثنين والثمانين عاماً من أهم الموسيقيين في القرن العشرين صاحب موسيقي فيلم (في لهيب الليل) الحائز على أوسكار للعظيم (سيدني بواتيه ورود شتيجر)، والموسيقي التصويرية لفيلم (اللون الأرجواني) لأوبرا وينفري، وهو من جعلها تمثل من إخراج العملاق (ستيفن سبيلبرچ) ويعمل للآن، ولكن لدينا نجوم تختفي ولا تظهر.
وأندهش من اختفاء (نيللي وسميرة أحمد وأسامه عباس ونبيل الحلفاوي ومحسنه توفيق) إلى أن ترجلت!، ولدي المزيد من الأسماء وفقط تلك أمثلة مصر تاريخ فني ورائدة للتنوير وثاني سينما، والتي بفضلها تعرفت معظم الدول العربية علي اللهجة المصرية، وانتشرت الكوميديا المصرية في العالم العربي بـ (نجيب الريحاني وعلي الكسار وإسماعيل ياسين وفؤاد المهندس وعادل إمام وسعيد صالح) إلى الآن، ولكن أين شركات اكتشاف النجوم؟، وأين شركات صناعة النجم أمثال: (شركة رمسيس نجيب وأفلام ماري كويني وأفلام محمد فوزي وشركة القاهرة للإنتاج السينمائي، والسينمائيين المصريين)، شركات كانت تقوم بصناعة النجوم واكتشاف المواهب.
أري أن مصر تستحق الآن مجهود كبير لتقف في مكانها الطبيعي في ريادة الحركة الفنية والثقافية فمصر هى هوليود الشرق ومصنع تفريخ وانتشار المبدعين في شتي المجالات .. مصر تنطلق وتستحق.