بقلم : محمد شمروخ
مازالت أصداء حفل زفاف السيد الدكتور المسئول الكبير في وزارة الصحة والمتحدث السابق باسم الوزارة، عالية تتردد بقوة وستظل لحين إشعار آخر على مواقع التواصل الاجتماعي، بالرغم من أن هذا الحفل لم يكن من الحفلات الأسطورية، بل إن هناك حفلات زفاف سبقته منذ سنين، تكلفت من الأموال ما هو أكثر بكثير مما تكلفه فرح الدكتور (خالد مجاهد) الذي صار حديث المشرقين منذ نشر مقتطفات منه وعنه وصورا حية للمشاركين فيه من علية القوم.
ولكل قوم علية، شاء من شاء أبى من أبى وارتجى من ارتجى وحنق من حنق!.
ولعل من بيننا من يتذكر أن حفلا للزفاف قريب العهد لابن رجل أعمال من (اتحاد ملاك مصر السابقين) قد أقيم في إحدى الدول الأوروبية وتم حجز طائرة خاصة لنقل المدعوين وكانت إقامتهم كاملة على حساب رجل الأعمال، وهناك من استأجر جزيرة يونانية لإقامة حفل زفاف ابنته وهناك من حجز فندقا او منتجعا سياحيا من بابه لإقامة حفل عيد ميلاد أو سبوع لمولود، كل هذا مع توزيع هدايا تساوى ثروات يحلم بها بعض الناس لحل مشكلاتهم المعضلة أو تحقيق أحلامهم المؤجلة.
وعموما.. فالإسراف والبذخ في حفلات زفاف رجال الأعمال من الأمور المعهودة في تلك الفئة التى تنفق أموالا طائلة على سبيل التفاخر بالمكانة والتباهي بالنفوذ والتكاثر بالأموال، وهى تعى تماما أن كل مليم أنفقته سيعود إليها أضعافا مضاعفة إن عاجلا أو آجلا، فتلك الأفراح في حقيقتها ما هى إلا مناسبات لتدعيم وتقوية الصلات بين رموز مجالات الأعمال المختلفة وفتح مسالك جيدة تدر بالمليارات في حسابات البنوك.
ولكن لأننا لم نسمع عن البذخ العلنى منذ فترة طويلة مع أزمات وإغلاقات كورونا وما تبعها من موجات غلاء تفاقمت مع حرب روسيا وأوكرانيا.
ولكن المصيبة الجديرة بالدراسة المتفحصة، هى أن غالبية الحانقين على الفرح وأصحاب الفرح – ومنهم بلا فخر كاتب هذه السطور – لم يروا في فرح الدكتور بذخا بقدر مارأوا أن الظرف العام غير مناسب بسبب حالات ضيق التنفس الاقتصادى الذي يجثم على صدر المجتمع المصري مع هبوط الدخول بشكل ملحوظ أمام موجات ارتفاعات أسعار جنونية بشكل لحظى.
لكن من فضلك، اترك كل هذا وحاول أن تفكر معى في هذه الاقتراحات التى أطرحها على الباحثين عن نموذج تطبيقى يصلح لتحضير رسالة دكتوراه تقوم بتقديمها للهيئات العلمية المختصة، إذا كنت متخصصا في أى من هذه العلوم الاقتصادية بتشكيلاتها المتحلقة حول الاقتصاد من اقتصاد بحت أو اقتصاد سياسي واجتماعى ويمكن إضافة الاقتصاد الثقافى والإعلامي.
فهذا الفرح يشكل فرصة رائعة لفكرة إعداد ماجستير أو دكتوراه لدراسة ما يمكن تسميته بـ (الاستفزاز الاستهلاكى)، ويمكن وضع عنوان لهذه الدراسة (ظاهرة تزايد الإنفاق المستفز تحت ظروف اقتصادية خانقة.. البواعث والأسباب والنتائج والتطبيقات).
فقد وجدنا شكلا من أشكال الإنفاق فى ظل أزمات طاحنة متوالية كتوالى الأنباء السوداء في الليالي الغبراء، ففيما يبدو أن ظاهرة الإنفاق ببذخ عند أصحاب الثروات الضخمة تشكل نوعا من التنفيس عن مخزون الثروات المتضخمة، إذ إن ظاهرة تكدس الأموال تفرض بشكل ملح ضرورة إيجاد منافذ للصرف يتخد من المناسبات الاجتماعية فرصا سانحة للتدفق، لكن هذا التدفق عادة لا يتجه نحو أعمال استثمارية لتنمية الثروات لتعود لالنفع العام على الناس بشكل مباشر كالزراعة والصناعة أو أى شكل من أشكال الاستثمار التقليدى وغير التقليدي الذي يستهدف التنمية، بل يصبح هذا التصريف موجها لأوجه الترفيه والترف والرفاهية التي لا تعود بفوائد مباشرة على باقي قطاعات المجتمع، فتذهب الأموال من فئة ثرية إلى فئات ثرية أخرى فتدور الأموال في دوائر مغلقة دونما أى عائد اقتصادى كبير للدولة أو للمجتمع.
فعملية تدوير الأموال بين فئات الطبقة الغنية هو غاية هذا البذخ، فكأنها عملية نقل أموال مباشرة من حساب لحساب آخر دون وجود عملية إنتاجية يستفيد منها قطاع من قطاعات المجتمع.
وهذا الإنفاق تحرص عليه الطبقات الغنية في المناسبات الاجتماعية لهو ملمح أساسي من ملامحها التى تميزها وتحقق أغراضها الوجودية في المجتمع!.
ومن هنا يمكن أن نجد مدخلا آخر لفرع آخر رئيسي من فروع علم الاقتصاد وهو الاقتصاد السياسي، يمكن أن يكون هذا محور لمبحث من مباحث رسالة الدكتوراه، كما يمكن أن يكون مدخلا لدراسة مستقلة في رسالة منفردة في الاقتصاد الاجتماعى، إذ أن إنفاق الأموال الطائلة في حفلات الزفاف أو أى مناسبة اجتماعية أخرى عامة أو خاصة أو إنفاقها ولو في هدايا شخصية باهظة الثمن يستفيد منها أفرادمعينين (أو فردات معينات).. هو سلوك مرتهن بتضخم الأموال عند طبقة ما تحرص على إثبات تميزها الاجتماعى بهذه المظاهر، وهذا السلوك يدخل في سيكلوجية هذه الطبقة إذ أن إنفاق الأموال بإسراف وبذخ ويصل أحيانا إلى حد السفه يجعلها تشعر بعلو منزلتها وتميز وضعها، إذ أنها تدرك تماما وجود طبقات أخرى يستفزها هذا السلوك منها، ولكن هذا البذخ هو سمة أساسية لها ومظهر ملازم لمظاهر معيشتها التى تقوم على الإسراف تحت اعتقاد بأنها تمارس حقها الطبيعى في التصرف بمالها حسب رغباتها والاستفزاز مقصود لذاته للتمتع بشعور التعالى والتميز!.
ولذلك ترى أن الخلفية الثقافية لهذه الطبقات تكون لها قاعدة فكرية تقف وراء هذه السلوكيات فتراها تتبنى أفكارا ومبادىء من شأنها أن تبرر لها هذا الإسراف الذي تراه حقا ولو كانت تلك المبادىء تتناقض مع بعضها البعض، فأول مبادئها المعلنة هو إيمانها المتطرف بالحرية الاقتصادية في العملية الإنتاجية والتجارية والتسويقية، وهذا الإيمان يتيح لها مجالات واسعة لممارسة أنشطتها بالإلحاح على ضرورة ممارسة نشاطها الاقتصادى بأقل قدر ممكن من القيود التشريعية والتنفيذية ولو أدت لتبنى فرض منظومة أفكار سياسية اقتصادية تصبح فيها السياسة تابعة للاقتصاد وتخضع إيدلوجيات الدول والمجتمعات لمصالحها الخاصة في صورة تطبيق دعوات سياسية تراها نموذجا للدول والمجتمعات العصرية، باحتكار تحديد (مفهوم العصرية) حسب ميولها ومصالحها.
كذلك تعكس هذه المنظومة النظرية على حياتها العامة فتكون داعية لإطلاق الحريات الاجتماعية لتبرير سلوكياتها المنحرفة أخلاقيا وتحاول فرضها على المجتمع عن طريق دعوات تراها هى النموذج الأعلى لرقي الإنسان وتدعو لإعادة إنتاج مفهوم جديد للأخلاق يماهى متطلباتها ورغباتها، بل ومفاهيم محددة لمطلقات تعاد صياغتها لتعود نسبية كالحرية والملكية وتلك النسبية تصبح حسب طبيعتها كلمة مطاطة لتبرير كل أنواع الانحراف وتقديمه في صورة جديدة تسوغه كنموذج واجب التطبيق.
ولا تكتفى تلك الطبقات بهذه الانحرافات الاجتماعية والاقتصادية بذلك، بل تحاول فرض إرادتها بقوة تأثير المال عبر صلاتها بالسلطة الإدارية للدولة باختراقها بعناصر تابعة لها عبر الجهازين البيروقراطى والتشريعي، لتشكل كوادر داخل هذه الأجهزة المحركة لأجهزة الدولة والرقيبة عليها تدين بالولاء الطبقى بل والفئوى أحيانا، لتسهل لها بسط نفوذها لتجعل آلة الدولة الإدارية والتشريعية خاضعة لها وتنفذ مخططاتها الاقتصادية بكل خلفياتها النطرية.
فهذا الإسراف والبذخ المازم لمظاهر الاحتفالات يصبح في الثقافة العامة تحت تأثير كل ما سبق نوعا من ممارسة الحقوق، وغاية ما يوجه إليه من نقد يكون في أنه فقط جاء في ظروف غير مناسبة للأجواء العامة والمناخ المحيط، تماما كمن يقوم بتشغيل أغنية عبر مكبر صوت بالقرب من مأتم، فالاعتراض فقط سيكون على (الظرف) وليس على السلوك ذاته!
ولكن هذه الطبقة نفسها تبدو شديدة المحافظة عند تهديد مصالحها الذاتية، فتراها تروج لأفكار رجعية بالحفاظ على الشكل الكلاسيكسي للتميز الاجتماعى وتبنى تقاليد بالية في المعاملات الاجتماعية، مع ممارسة الحنين الدائم لشكل المجنمعات الكلاسيكية، بالإصرار على تفعيل أشكال التمييز الطبقى والقانونى في مواجهة بعض المشكلات التى تعترض مصالحها،
فترى هذه الطبقة تتحالف مع كل ألوان الطيف السياسي والثقافى، من أجل الحفاظ على هذه المصالح والدفاع عن السلوكيات المستفزة ولو وصلت إلى حد ارتكاب جرائم جنائية واقتصادية للدفاع والتبرير عن هذه السلوكيات!.
لذلك حرصت هذه الطبقة على استقطاب بعض رموز الثقافة والإعلام بفتح أبوابها لبعضهم والسماح لهم بدخولها والانضمام لمنتدياتها وأحياتا الشراكة معها لاصطناع واجهة إعلامية ثقافية من خلال هؤلاء الإعلاميين لتدافع عن حقوق هذه الطبقة أو تثير من الأفكار والقضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية، ما يلفت الانتباه عن تمدد نفوذ وسيطرة هذه الطبقة وتجاهل جرائمها بل وأحيانا إبداء التعاطف معها وتبريرها!.
وعودة إلى قائمة المدعوين في حفل الزفاف تجد تفسيرا مفصلا لكل ما سبق، كذلك ردود فعل الإعلام الذي وقع منذ عقدين من الزمان، تحت سيطرة هذه الطبقة بفئاتها المختلفة والتى نجحت في سحب البساط من تحت أقدام الإعلام الرسمي للدولة وألجمت الإعلام الحزبي بوقوع الأحزاب نفسها التى براثن هذه الطبقة، فليس ثمة إعلام سوى إعلامها!.
حتى الإعلام العشوائي الشعبى في مواقع السويشيال ميديا ما بين تويتر وفيسبوك ويوتيوب، فكل حنق مرتاديها ذهب فقط إلى نقد شكل ممارسة (حق الإسراف) دون التطرق لمناقشة صحة المبادئ التى جعلت من هذا الإسراف من بين الحقوق المدعاة.
عموما هناك جوانب عدة لولا الإطالة لطرحناها على الباحثين لإعادة صياغتها وتطويرها بشكل علمي منهجى في دراسات يمكن توسيعها للحصول على درجة الدكتوراه قد تكون مفتاح حامليها لدخول هذه الطبقة ليمارسوا يوما هذا الإسراف بزعم أنه (حقها)!
(حقها ولا مش حقها؟!).
(الله يرحمك يا روقة) 😥