بقلم الأديب الكبير : سامي فريد
ثلاث نقاط تحول في حياة كوكب الشرق صنعت لها مشوارها الفني وأثرته.. كانت نقطة التحول الأولى في علاقتها بالشيخ (أبو العلا محمد) الذي سمعها وقال إنها مستقبل الأغنية المصرية ولم تكن أم كلثوم سوى صبية صغيرة كانت تردد أغانيه وكان الشيخ أبو العلا محمد هو الذي اقترح على أبيها الشيخ (إبراهيم السيد البلتاجي) أن تنطلق أم كلثوم من مصر.. من القاهرة من أم الدينا التي تنتظرها لتحدث الثورة في دنيا الغناء الشرقي الذي تطور على يديها..
قال الشيخ أبو العلا محمد: لا طماي الزهايرة ولا السنبلاوين ولا وجه بحري كله أصبح يتسع لموهبة (أم كلثوم).. وتردد الأب ثم وافق على الذهاب للقاهرة بعد أن أصر الشيخ أبو العلا على أن تخلع أم كلثوم عقال الست فاطمة المليجي، وأن تصبح ابنتها بشخصية جديدة في مصر.. لكن أم كلثوم تقنعها أنها ستكون بنفس العقال فلن تلبس إلا الملابس التي تغطيها وتصونها بل تغطي أيضا شعرها.. وهكذا ظلت أم كلثوم منذ هبطت إلى القاهرة سنة 1923 وحتى وفاتها عام 1975 وهى على نفس درجة احتشامها مع أناقتها..
وفي القاهرة كانت صدمتها الأولى عندما هبطت من عربة القطار في محطة مصر لتكتشف سرقة تحويشة عمرها وكانت 15 جينها كاملة فأحست أن القاهرة لا تريدها.. وفي القاهرة بدأت الحرب على أم كلثوم الفلاحة بنت (طماي الزهايرة) التي جاءت لتنافس سلطانة الطرب الست منيرة المهدية..
ولم تشعر السلطانة خطر أم كلثوم عليها إلا عندما انحاز بعض النقاد والصحفيين إليها مدافعين عنها وعن صوتها وفنها ومخارج ألفاظها واختيارها لما تغنيه من الكلمات الراقية ورفضها الأغاني المبتذلة بتلميحاتها الجنسية، وقالوا إن أم كلثوم موهبة فاهمة وتعرف ماذا تغني وتفهم في الموسيقى وليست مجرد موهبة بلا دراسة ولا فهم، فلم يتطور فنها مثلما حدث مع أغاني السلطانة بموسيقاها التركية معتمدة فقط على حب الجمهور لها الذي راح يستمع مندهشا إلى الصوت الجديد الفاهم والدارس والذي يتطور من لحن الي لحن..
وكانت نقطة التحول الثانية هى توجيه (مصطفي بك عبد نجيب) بأن تغني أم كلثوم وخلفها فرقة موسيقية كاملة، وأن يترك التخت القديم وأن تجمع في غنائها بين الموسيقى الشرقية وفنون الموسيقي الغربية، وهى نصيحة آل عبدالرازق (الشيخ مصطفي والشيخ علي) وكانا يلبسان العمامة كمشايخ أزهريين لكنهما كانا يتحدثان الفرنسية.. لكن رامي رفض فكرة الفرقة الموسيقية وأصر على بقاء تخت أم كلثوم بينما هى كانت ترى أنه لابد من التطور..
واهتمت (أم كلثوم) بتدريباتها وعمل أكثر من 30 بروفة على كل أغنية فلا تغني ارتجالا وكانت في داخلها وهى تحفظ القرآن بتجويده وأيضا تخشى أنها لابد أن ينصرها الله يوما ما.. وقد حدث..
ولم تتوقف حرب السلطانة (منيرة المهدية) ضدها وكانت قد استعدت لمجموعة من الحفلات في الاقاليم فعلمت من بعض المقربين منها ان أم كلثوم قد حجزوا لها مسرح (برنتانيا) لتغني فيه إحدي حفلاتها الكبيرة، فسارعت السلطانة إلى إلغاء برنامجها لحفلات الأقاليم لتعود وتغني هى على مسرح (برنتانيا) لتحرم منه أم كلثوم وتمنع انتشارها!!
كان مشوار (أم كلثوم) مع الحياة ومع الفن مشوارا طويلا مليئا بالعرق والتعب بل والدموع أيضا.. ولا تنسى أم كلثوم هذا بل تذكره بكل عزة نفس ورضى بقضاء الله، فتقول إنها كانت تسير على قدميها وهى طفلة خلف حمار والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي من طماي الزهايرة إلى القرية أو البلد المقام فيه الحفل الذي ستنشد فيه.. كانت تسير حوالي ثلاثة كليو مترات أو أربعة لقاء مليم واحد (نعم.. مليم واحد) كان يدفعه لها والدها، ولم تكن تشكو فقد كان إيراد الأب لا يتجازو عن كل ما يعمله من إمامة مسجد القرية إلى التواشيح والحفلات.. لم يكن يتجاوز (عشرين قرشا) في الشهر.. كل ما كان يهمها في هذا كله هو طبق (المهلبية) الذي تناوله في الحفل فقط فلم تكن (طماي الزهايرة) تعرف هذه الحلوى حتى اللحظة.
فإذا أضفنا إلى كل هذا ما كانت تلاقيه أحيانا وأحايين كثيرة من الرفض لصغر سنها كما حدث في حفل (عز الدين يكن بك) في حلوان عندما استدعى أحد معاونيه أم كلثوم ووالدها وشقيقها الشيخ خالد، فلم يقتنع البك بتلك الطفلة أو (العيلة) كما وضعها فقرهم بأن تنزل إلى بدروم الفيلا، وأن يستدعوا له الشيخ (إسماعيل سكر) أحد أكابر المنشدين في مصر في ذلك الوقت ليجيء الرجل ويغني ويحيي الحفل بينما أم كلثوم الطفلة ووالدها وشقيقها ينتظرون الفرج في البدروم، لولا أن أحد أصدقاء البك أشار بسماع الطفلة وأخراجها من البدروم لتغني ويسمعها الشيخ (إسماعيل سكر) فينسى نفسه ويروح يكبر ويهلل فرحا بها وبفنها حتى أثار فضول (عز الدين بك( فسأله عن الخبر فقال الشيخ سكر: يا معالي البك هذه البنت ستكون بامر الله هى مستقبل الغناء في مصر!!
في السينما أيضا قالوا عنها إنها كانت تحافظ على مواعيدها بالثانية وكانت تحفظ كلام الحوار وتلتزم بكل حرف فيه وكانت تؤمن بأن ما لقيصر لقيصر وما لله لله.. وكانت لا تناقش رأي المخرج ولا للمصور ولا الماكير، فهي تؤمن بالتخصص.. بعد أن سألها فكري أباظة يوما فقال: كيف إنها وهي سيدة الغناء العربي لم تعزف على عود أو تدق على بيانو؟، فقالت إنها لا تحب أن اثنين أو ثلاثة في أي منه فهي لا ترضى إلا بما قسمه الله لها وهو موهبة الغناء..
اهتمت (أم كلثوم) كذلك بتربية حياتها الأدبية، فقرأت مع أستاذها كما تسميه (أحمد رامي) كتاب الأغاني (15 جزءا) وقرأت ديوان (شوقي ورامي وحافظ ابراهيم)، ومن الشعراء القدامي قرأت للمتنبي وأبو تمام والبحتري وابن الرومي والمعري.. كما جمعت حولها معظم مثقفي مصر في ذلك الوقت فكتب عنها العقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ الذي أطلق اسم كبرى بناته اسم أم كلثوم تمينا باسمها.. كما كتب عنها زكي مبارك وكامل الشناوي ورامي، كما كتبت عنها الدكتورة نعمات أحمد فؤاد..
وعام 1943 أثناء الحرب العالمية الثانية زارت مصر الممثلة الإنجليزية المشهورة (فيفيان لي) وسمعتها، ورغم أنها لم تكن تعرف حرفا من اللغة العربية فقد خرجت من الحفل مبهورة، وقالت إن هذه السيدة هى معجزة الشرق.. كما كتبت عنها (جوردن جاسكيل) في مجلة (لايف) الأمريكية قائلا: إن كل شيء في الشرق يتغير إلا شيئان هما الأهرام.. وأم كلثوم..
ولا ينسى التاريخ أن أم كلثوم كانت السيدة الوحيدة التي سارت خلف نعش أستاذها (أبو العلا محمد) عند وفاته عام 1927، وكان أبو العلا محمد هو الذي علمها أغاني عبده الحامولي ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوي، كما لحن لها قبل وفاته جملة من الأغاني أيضا..
والذي قد يعرفه الكثيرون أن لأم كلثوم لحنين من وضعها لم يذاعا بعد أن رفض الملحنون تلحنيهما فقامت هى بتلحينهما..
ويقول الكاتب الكبير (رجاء النقاش) أن الحياة ابتسمت لأم كلثوم بعد مشوار التعب لكن أم كلثوم لم تبادلها الابتسام فقد كانت حياتها كلها مشوار من العرق والتعب لم ترتح لها يوما، ورغم ذلك يندهش الكثيرون لظرفها ولطفها ودماثة خلقها.. وهى صاحبة نكتة وقفشة وسريعة البديهة والملاحظة.. في تونس وقد أقاموا لها حفلا كبيرا وكانت هى على رأس الموائد المكتظة بألوان الطعام، أشارت هى إلى سائق سيارتها فأسرع خارجا ليعود لها (بعامود) طعام خاص بها فتحته لتتناول ما فيه من الحساء والسلطة والأرز.. واندهش الحاضرون لهذا وسألوها عن هذا العامود فقالت وهى تبتسم انه العامود الفقري!..
وكانت على موعد مع الشيخ (سيد مكاوي) في الواحدة ظهرا في فيلتها فتأخر الشيخ السيد إلى الرابعة عصرا وعندما جاء خرجت أم كلثوم لتقابله وتلقنه درسا في احترام المواعيد، وكان المفروض أن تسمع منه لحن (يا مسهرني)، لكن الشيخ سيد امتص انفعالها وقال: وانا اعمل ايه يا ست.. الشوارع زحمة وانا اللي كنت سايق!
وكتمت أم كلثوم ضحكتها وأعجبتها سرعة بديهة الشيخ سيد متسامحة وجلست تسمتع إلى اللحن..
ويحكي الشيخ سيد أيضا عن حفل في أحد الفنادق الكبرى وكان معها بصحبتها رياض السنباطي والشيخ زكريا والقصبجي، ثم فجأة انطفأ النور لمدة دقائق فاذا به يسمع صوت أم كلثوم تقول له: بقينا ف ملعبك يا شيخ سيد.. انت الوحيد اللي شايف دلوقتي.. اسحبنا بقى!!
وكانت أم كلثوم قد دعيت في الاتحاد السوفيني في سبتمبر عام 1970 وبعد البروفات استعدادا للحفل جاءها خبر وفاة عبدالناصر يوم 28 سبتمبر من نفس العام فانهارت واعتذرت عن الحفل وغزا جسمها كل الإرهاق بعد انهيار مقاومة جسدها القوي، وهو جسد فلاحة لا تعرف المرض ولا التعب غير إصابتها بورم الغدة الدرقية سمعت بخبر وفاة ناصر فانهارت تبكي.. وألغت حفل البولشوي ومرضت بالغدة التي أصابتها في الخمسينات ولم تجد لها علاجا في مصر فاتصل عبدالناصر بالسفارة الأمريكية طالبا تسهيل سفرها على نفقة الدولة لتعالج في مستشفى البحرية الأمريكية..
كان عبدالناصر يكن تقديرا واحتراما شديدين لصوت (أم كلثوم) إضافة إلى احترامه الشخصي لها ولدورها في خدمة الوطن، عندما غنت داخل مصر وخارجها من أجل جمع المال للمجهود الحربي.
ومنذ وفاة عبدالناصر بعد أن انتشرت الأمراض في جسمها وتراجع الضوء عنها في المرحلة التي تلت جمال عبدالناصر، حتى أنها لم تغني في حفل واحد حتى وفاتها بعد عبدالناصر عام 1975، أي بعد وفاته بخمس سنوات ليدخل على مصر سنوات الانفتاح الاستهلاكي وتباع فيلتها في الزمالك، وكان ممكنا أن تكون مزارا ومصدرا للمال لمصر لكن الانفتاح الاستهلاكي أطاح بما يظنونه أو كانوا يظنون أنها ذكراها، لكن (أم كلثوم) باقية كالهرم ولن ينساها الشعب المصري مطلقا.. ولا الشعب العربي كله.. بل ولا العالم نفسه!!