بقلم : محمد شمروخ
لم تكن واقعة حصول لاعب اسكواش مصري (سابقا) على جنسية دولة أخرى واللعب باسمها ضد أى بلد ولو مصر نفسها بالواقعة الأولى التى يتخلى فيها لاعب رياضي أو غيره عن جنسيته المصرية ولن تكون الأخيرة!
لكن القضية مصيبتها الحقيقية جاءت مع تصريحات على الفضائيات والسوشيال ميديا نسبت إلى لاعب الاسكواش برر فيها تجنسه بجنسية بلده الجديد الذي يشترط التنازل عن الجنسية الأصلية للتمتع بالجنسية، فقد حولت تصريحات اللاعب القضية من مجرد حزمة إجراءات شكلية إلى قضية تمس صميم الانتماء، فقد ساق اللاعب مبررات تخليه عن جنسيته وأهمها الإهمال الذي يلقاه في مصر مقابل الاهتمام الذي تلقاه في إنجلترا، حتى أن فريقا ليس قليلا من المصريين – لاسيما الحانقين من كل شيء وعلى أي شيء – وافقوه على هذا التخلى بل واعتبروه ضحية كاد يفقد مواهبه بسبب تخلى بلده عنه، فقد رأوا أن التخلى كان من مصر عن اللاعب وليس من اللاعب عن مصر!
ولن أجادل كثيرا في إمكان حدوث ذلك، لكن يمكننى هنا أن أكتب عريضة مطولة بالأشياء التى تحاصر أى مواطن مصري ويجدها في كل مكان، تضيق عليه معيشته وتدفعه دفعا نحو الإحباط، ولكن مع كل ذلك، فإن هذا المنطق عادة هو نفسه الذي يهرع إليه الخونة والجواسيس طوال التاريخ وفي أى مكان لتبرير تعاونهم مع أجهزة المخابرات الأجنبية المعادية لبلادهم، فلو راجعت تحقيقات كثير من الجواسيس والخونة الذين تم ضبطهم يعملون لحساب دول معادية، لوجدتهم وقد أجمعوا أو كادوا على مبررات خيانة ليست بالبعيدة عما ردده هذا اللاعب مع الحفاظ على فارق التتشبيه ودقة القياس، فأنا هنا لا أتهم اللاعب بالخيانة أو الجاسوسية ولكنه أعطى المثل الأسوأ على الانتماء، فهو لم يتخل عن جنسية بلد ولكن تخلى عن انتمائه لهذا البلد، فثمة فارق جوهرى بين الجنسية والانتماء، فهناك آلاف المصريين الذين يعيشون في الخارج وقد تجنسوا بجنسيات بلاد إقاماتهم وأعمالهم ومنهم من قدم طائعا مختارا طلبا بإسقاط الجنسية المصرية عنه بسبب تعارض قوانين البلد الذي يطلب جنسيته أو القوانين المصرية التى تمنع بالجمع بينها وبين جنسية بلاد معينة، الأمر لا يهم كثيرا، فلا يخفى هنا أن الجنسية مجرد ورقة لكسب امتيازات وتجاوز عن إجراءات وتعقيدات ولهم أعذارهم مادامت جنسياتهم الجديدة لن تنتزع انتماءهم لبلدهم الأصلى، فهذا الانتماء لا ينزعه خاتم شعار الدولة أو توقيع لمسئول إدارى، بل تنزعه المواقف والتصريحات والآراء.
ولا أرى أن مصر قد خسرت إلا فيما لحقها من إهانة متعمدة من اللاعب، والإهانة جاءت فقط لأنه تكلم عن مبررات يعانى من مثلها ملايين المصريين يوميا على كل المستويات ولو صمت لكان خيرا له لأنه لم يصرح إلا بأنه فقد انتماءه.
فتلك المتاعب التى نعاني منها من بيروقراطية وفساد وظلم، هى نفسها الاختبارات الحقيقية للانتماء، أما الذين لا يؤمنون بحديث الانتماء من الأصل ويرونه طنطنة وشعارات جوفاء، فحديثى ليس موجها إليهم، فماذا عن البلد الجديد؟!.. هل ستمارس معه قاعدة التخلى نفسها عند أول مشكلة.
فتعريف الوطن بأنه فقط أرض وشعب وأنظمة اجتماعية وقانونية وسياسية وحقوق وواجبات لهو عين التعريف الناقص فبدون الانتماء إلى هذا البلد لا قيمة لكل ما سبق، فأنت لست مواطنا مستأجرا لشقة من مالكها ولا سائحا تتخير الفنادق التى تأوى إليها في رحلاتك الترفيهية، فبدون هذا الانتماء لا معنى للوطن ولا لأى جماعة إنسانية تقع ضمن التشكيلات التقليدية وغير التقليدية على كوكب الأرض!
لكن منظومة الأخلاقيات الناتجة عن الثقافة الاستهلاكية الفارغة المنتشرة، هى التى مهدت لتلك التربة الخبيثة التى نمت فيها مثل تلك الشخصيات فأصابت جذورها بالعفن فاجثت من فوق الأرض، فخلال النصف قرن الماضي طفت وطمت وطغت أساليب ومصادر للتربية تعمل على زرع الأنانية في نفوس الأفراد بحجج فوق الحصر، مرة حرية ومرة حقوق ومرة تقدم ومرة حداثة، لا أقصد التربية الأسرية أو المدرسية التقليدية فالتربية العامة تتجاوز هذين الوسطين، فقد شاركت وسائل الانتشار الثقافية عبر الوسائط الإعلامية والثقافية والفنية في تلك التربية التى أنتجت لنا أجيالا مشوشة ومشوهة بشكل أكثر كثافة مما يتلقونه من الأسرة والمدرسة، مع التركيز على ثقافة الترفيه التى تخلق شخصيات هشة تافهة أنانية لا تصمد أمام أى اختبار حقيقي أو شبه حقيقي، فتفقد انتماءها نتيجة موقف ما في مكان ما من شخص ما.
فأي منا لم تساء معاملته في جهة أو موقف أو شعر بالظلم لانتهاك حق من حقوفه؟!
أى منا لم يتعرض لمشكلة واجه فيها فساد أو تلكؤ أو إهمال من موظف حكومى أو غير حكومى؟!
فمن منا يا أعزائي، يعيش حياته في هذا البلد وكأنه نزيل غرفة في فندق 5 نجوم؟!
ثم تعال هنا أيها اللاعب: أنت لست جنديا مقاتلا معرضا لدفع حياته ثمنا لاستقرار وطنه، فآثر الحياة تحت وطأة غريزة حب البقاء.
أنت تعلم أن هناك من فقدوا حياتهم على مر الزمان، وهناك من يضع رأسه على كفيه من أجل أن يعيش الناس آمنين في وطنهم، فماذا ستقول لجندى لم ينل طوال فترة تجنيده ما تناله أنت في مباراه واحدة عندما تسيل دماءه بسبب إرهابى أو عميل باع انتماءه لسبب من الأسباب من بينها ما ذكرته عن نفسك.
ثم لا تنس أنك أنت لاعب للعبة المترفين من الناس، فلن نحزن لرحيلك ولن يفرح بك البريطانيون ولن يشعر بوجودك إلا المستفيدون منك ومن لعبتك، فلم يكن للاسكواش كلعبة أى قيمة أو أى تواجد قبل الرئيس الراحل حسنى مبارك والذى كان يفضلها عن أى نشاط رياضي آخر كوسيلة للتريض الجسدى، ولذلك وضعت في عهده هذه اللعبة في مقدمة اهتمامات الدولة (والناس على دين ملوكهم) فنظمت لها بطولات كبرى ودعايات عظمى نفاقا للسيد الرئيس، فأنفقت عليها الدولة من ميزانيتها من أرزاق العمال والفلاحين والموظفين لتلعبها أنت وغيرك في قاعات مكيفة وتصفق لكم الجماهير التي تكاد تحصى بالواحد في المدرج، لأنها لم تكن أبدا لعبة شعبية ولن تكون لأن تجهيزاتها تتطلب إمكانات لا تتناسب من البيئات الشعبية البسيطة التي تخرج لنا الأبطال الحقيقيين في كل مجال رياضي وغير رياضي، كما أنها ليست ضمن الألعاب الأوليمبية من الأساس.
عذرا لا تطنطنوا بكلمة رياضة وأنها رسالة وليست ترفيها، لا يا سادة، الرياضة نفسها تحولت الآن إلى سلعة لها تجارها وسماسرتها ودعاتها الذي يحاولون بإصرار إفسادها بمواقف مخزية كأنهما تعمدوها لتشويه صورة الرياضة والرياضيين مع تصريحات بذيئة أبعد ما تكون عن الأخلاقيات التى تربينا على أنها أساس الرياضة، كادت تفقد روحها لما تسلل لمحيطها كثير من التافهين والمغرضين، حتى صارت سوقا رائجة لتجارة البشر وابتزاز الجماهير، فتحول النشاط الرياضي نفسه إلى مادة تباع وتشترى ومورست تجارة البشر فيها بكل أريحية وعلانية بتشجيع دولى منقطع النظير في مجالات أخرى، بعد أن تحكمت في منظوماتها قوانين السوق من تسويق ووساطة ودعاية واحتكار واستغلال، وحولتها لصفقات تجارية تجرى فيها أنهار المال بالمليارت
عذرا لو كنت الوحيد الذي يعتقدها فسوف أقولها وأنا مؤمن بها: (مهما بلغت قيمة أى رياضي في أى – لعبة – فلن تساوى عندى قيمة فلاح انحنى على فأسه ليخرج لك غذاءك من الأرض أو عامل وقف على ماكينة لتنسج لك ملابسك أو جندى يقف تحت منزلك أوعلى حدودك ليحرسك أنت ووطنك الذي تخليت عنه).
فماذا فعلت أنت لمصر؟!
قل لى ماذا تعرف عن أحمد عبد العزيز أو عبد المنعم رياض أو شفيق سدراك أو محمد مبروك أو أحمد منسي، أو الآلاف من شرفاء مصر الحقيقين، قدموا حياتهم ثما لانتمائهم، فماذا يساوى أى شيء مقابل الحياة؟!
سمعنا عن لاعب بـ 100 مليون دولار أو أكثر، لكنا لم نسمع عن ضابط أو عالم أو مدرس أو فلاح أو عامل أو مجند يباع ويشترى، لا لأن أعمالهم أقل أهمية عن غيرهم، بل لأن أعمالهم تلك لا يمكن أن تقدر بحق قدرها لأنه لا غنى لأى مجتمع عن هؤلاء، فيمكن لأى مجتمع أن يستغنى عن لاعب كرة أو لاعب تنس أو اسكواش، ولكنه لن يستغنى عن أى من هؤلاء المجهولين الذين لا تتوجه لهم كاميرات التلفزيونات ولا ميكروفونات الإذاعات أو تدور بأسمائهم مطابع الصحف ولا كانوا أحاديث المواقع الإخبارية.
إن الصدمة لم تكن فقط من تصريحات إعلامية للاعب فقد انتماءه وتفاخر بلجوئه الرياضى إلى بلد آخر سيعيش فيه بمستوى مادى مرتفع، لكن الصدمة من دفاع لكثيرين عنه بدافع الحنق – ولم يلاحظوا رفع يده بعلامة رابعة – ذلك الحنق الذي خلق لنا جواسيس وخونة قدموا مبررات خيانتهم كمسوغات تثبيت عمالة لأعدى أعداء مصر، فكان جزاؤهم الخزى والعار أينما ثقفوا!.