سر اختفاء نشيد عبدالوهاب الذي أخرجه سينمائيا محمد كريم وذلل صعوباته جمال الليثي !
كتب : أحمد السماحي
انحاز الموسيقار الكبير (محمد عبدالوهاب) إلى ثورة يوليو 1952 بعد قيامها مباشرة، حيث أمن بمبادئها التى نادت بها، لهذا قدم لها العديد من الأغنيات أولها كان النشيد الذي تم منعه في عهد الملك (فاروق)، وهو نشيد (الحرية) كلمات الشاعر الكبير كامل الشناوي، الذي يقول مطلعه (كنت في صمتك مرغم)، الطريف أن ثاني أغنية قدمها لثورة يوليو كانت نشيد (الوادي) كلمات مأمون الشناوي الشقيق الأصغر لشاعرنا الكبير (كامل الشناوي).
حيث قدم النشيد بعد توقيع اتفاق بين حكومتي (مصر وبريطانيا) في الثاني عشر من فبراير 1953 بخصوص حق السودان في تقرير مصيره، وذلك بعد فترة انتقالية ثلاث سنوات يتم فيها سودنة الوظائف وانسحاب القوات المصرية والبريطانية من السودان، وقيام جمعية تأسيسية يتقرر بعدها مصير السودان إما أن تختار تلك الجمعية ارتباط السوادن بمصر أو انفصاله واستقلاله عنها، وكان النشيد يدعو لاستمرار وحدة مصر والسودان.
هذا النشيد تم تصويره سينمائيا من إخراج المخرج (محمد كريم) الذي أخرج لـ (عبدالوهاب) كل أفلامه السينمائية، وكان يعرض في دور العرض عام 1953 قبل عروض الأفلام السينمائية التى كانت تعرض في مصر في هذه الفترة، وقد قامت مجلة (الكواكب) في عدد 9 يونيو 1953 بعمل تقرير خاص عن هذا الفيلم القصير جدا الذي أخرجه (كريم) في مدة لا تزيد عن خمس دقائق.
وقد جاء في التقرير الذي كتبه وليم باسيلي: يعرض في جميع دور السينما خلال هذه الأيام فيلم (نشيد الوادي) وهو من تأليف مأمون الشناوي، وتلحين وأداء محمد عبدالوهاب، وإخراج محمد كريم، وتصوير محمد عز العرب، وعندما أخذت مكاني في قاعة العرض الصغيرة باستديو مصر لأرى وأسمع (نشيد الوادي) الجديد ساورتني أزمة ثقة حادة فقد أخذت أسائل نفسي ترى أيمكن أسمع شيئا جديدا حقا أم أن الذي سأسمعه لا يختلف في كثير أو قليل عن تلك الأناشيد التى تنصب في غزارة من ميكرفون الإذاعة على رؤوس المستمعين ليل نهار وفي غير شفقة ولا رحمة؟!
وتذكرت أن البعض قد حمل على موسيقى الأناشيد التى لحنها (عبدالوهاب) بدعوى أنها رقيقة لينة، وفات هذا البعض أن اللحن الحماسي ليس معناه أن تشترك (المطارق) مع الآلآت الموسيقية لتدق على رؤوس المستمعين وتسبب لهم الصداع، وليس معناه أن تكون الموسيقى عنيفة صاخبة قريبة الشبة بأصوات طرق النحاس في سوق النحاسيين، فالنشيد الوطني إنما يخاطب العاطفة والشعور، ولم يقل أحد أن مخاطبة العاطفة والشعور تكون (بالنبوت والروسيات والشلاليت)!.
ومضيت أفكر في دور المخرج صاحب الذوق المصقول (محمد كريم) وهل وفق في إبراز معاني النشيد وترجمتها إلى مناظر ومشاهد على الشاشة، واستفقت من خواطري على ذلك الانتقال الفجائي من النور الساطع إلى الظلام الدامس، توطئة لعرض فيلم (نشيد الوادي)، وتوالت عناوين الفيلم، ثم انسابت المقدمة الموسيقية تعطر أرجاء القاعة وانساب صوت (عبدالوهاب) يقول : (عاشت مصر حرة والسودان).
وتتابعت كلمات النشيد تصحبه المشاهد المنوعة ذات الانتقالات البارعة، وكان لكل كلمة ولكل عبارة منظر آخاذ يعبر عنها أجمل تعبير، ومما أثار إعجابي حقا، ذلك الانسجام العميق بين كلمات النشيد وتلحينه وأدائه، وبين مشاهدة على الشاشة إذ أنها تؤلف وحدة كاملة من العسير جدا أن تفصل بينها، وهذا في رأيي هو النجاح الجدير حقا بتلك العبقريات التى تضافرت على إخراجه فى هذا الإطار الفني البديع.
محمد عبدالوهاب يتحدث :
* بعد المشاهدة كان لابد من مقابلة الأستاذ (محمد عبدالوهاب) وسألته ماهو الجو الذي عشت فيه خلال تلحين نشيد الوادي؟
** بعد فترة صمت قصيرة كان يستجمع خلالها أفكاره قال: أن الجو الذي عشت فيه هو جو الاستعراضات الشعبية الكبيرة التى نظمتها القيادة عقب قيام الحركة المباركة، ففي تلك الاستعراضات شاهدت المواكب العسكرية التى أوقدت جذوة الحماس في نفسي، وسمعت تلك الهتافات الصادرة من أعماق القلوب ومواكب المؤسسات الفنية والاقتصادية والصناعية وغيرها، وكل هذه المشاهد أثرت في نفسي تأثيرا بالغا لا يزال يلازمني حتى هذه الساعة.
* وماذا كان مبعث هذا التأثر؟
** كان مبعثه أني رأيت الأمة كلها بمختلف بيئاتها ممثلة أصدق تمثيل في تلك المواكب، وهى المرة الأولى التى ألمس فيها هذا المعنى وأراه بعيني، فقد كانت أمثال هذه المواكب، فيما مضى يساق إليها الناس سوقا ويدفعون إلى الإحتشاد فيها دفعا.
* وماالذي أوحته تلك المشاهد فادمجته في لحن النشيد؟
** لقد أوحت إلى البساطة ثم صمت برهة واستأنف الحديث قائلا: وإنما كل ما أريد أن ألفت الأنظار إليه هو أنني تحريت فيه البساطة المتناهية ليسهل هضمه على جميع الطبقات فتتجاوب معه وتتغلغل معانيه في النفوس، إن العهد الذي نعيش فيه هو عهد البساطة، البعيدة عن جو التكلف والارستقراطية الزائفة، والتقاليد القائمة على النفاق، وعندي أن العمل الفني إنما تقاس قيمته بمدى استجابة الجماهير له وفهمها إياه وتأثرها به، ذلك لأنه في هذه الحالة يكون موجها وحافزا.
محمد كريم يتحدث :
وسألت الأستاذ محمد كريم : لقد قضيت شهرا ونصف شهر فى إخراج فيلم لا تتجاوز فترة عرضه خمس دقائق، وهذه المدة تكفي لإخراج فيلم طويل عريض فكيف أنفقت كل هذا الوقت الطويل؟!
** ومضى كريم يحدثني عن الخطوات التى سبقت إخراج النشيد، لقد رأى في يده مجموعة من العبارات لا هي قصة ولا سيناريو ولا عقده فيها ولا حبكة، ولكن عليه أن يخرج فيلما ويصورها فيه تصويرا دقيقا، يتناسب مع معناها، ولا يخرج عن دائرة هذه المعاني وإلا شغل الجمهور بالمشاهدة عن النشيد وموسيقاه وهو ما لا يود أن يحدث!.
وكان أول ما فعله أن حصل على اسطوانة النشيد ومضى يديرها زهاء أسبوعين بسرعة ستين مرة في اليوم، حتى ضج منه الجيران، وثارت أعصاب أفراد أسرته، لقد أراد أن يعيش أجواء النشيد زمنا كافيا حتى يستوعب معاني كلماته وأثرها في مخيلته ويستوحي من كل كلمة الصورة المناسبة لها، وكثيرا ما كانت تزدحم في مخيلته عشرات الصور للجملة الواحدة فينفق الساعات الطويلة فى الإختيار والمفاضلة والمقارنة، وقد ينتهي الأمر بالعدول عنها كلها ليفكر في غيرها.
* هل كانت هناك عقبات اعترضت طريقك؟
** إن إخراج نشيد وطني على الشاشة يستلزم الكثير جدا من المعدات الفنية والاستعدادات الضخمة التى ليس لدينا منها إلا القليل، ورغم ذلك فقد بذلت أقصى الجهد حتى تمكنت من تقديم هذا الفيلم الذي إذا لم يكن بالغا حد الكمال فلا أقل من أنه آخر ما يستطاع عمله بالإمكانات التى كانت بين يدي.
والفضل في نجاح الفيلم على قلة الاستعدادات الموجودة يرجع إلى تلك المعاونات الفنية التى بذلها اليوزباشي (جمال الليثي) ذلك الشاب الذي يتقد حماسة وحمية وذكاء فكلما جدت عقبة أو اعترض طريقنا بعض المصاعب عمل على تذليلها في سرعة وهمة جديرتين بكل إعجاب، وأضاف (كريم): أنني لا أعتمد في إخراج الأفلام على (مساعد) لأنني لا أثق إلا بالعمل الذي أؤديه بنفسي، ولكن لو أتيح لي أن اشترك مع اليوزباشي (جمال الليثي) في إخراج فيلم لأبقيت بين يديه أكبر جانب من العمل وأنا على ثقة من إنه سيؤديه كما يجب.
* ألم تعرض عليه الأشتغال بالفن أو الإخراج؟
** فأجاب ضاحكا : ماأظنش يرضى لأنه دلوقتي مشغول بإخراج الإنجليز من القنال!.
منع الفيلم بسبب محمد نجيب
بعد استعراضنا لتفاصيل كل ما يتعلق بهذا النشيد فقد تم اغتياله وعدم عرضه مجددا بعد تولي الرئيس (جمال عبدالناصر) لحكم البلاد، بسبب ظهور الرئيس (محمد نجيب) ضمن مشاهد فيلم (نشيد الوادي)، حيث تم عزله ومنع أي شيئ يخصه أو مشاهد يظهر فيها أو أغنيات تتغنى باسمه !.