بقلم الأديب الكبير : سامي فريد
سمعناها للمرة الأولى في أوائل الخمسينيات على ظهر (الباخرة سودان) الراسية على شاطئ المنيل أمام كازينو بديعة. كنا نذهب إليها يوميا سيرا على أقدامنا من (كيت كات إمبابة) لنسمع تلك المطربة الناشئة الصغيرة التي هللت لها الصحافة الفنية ووعدتنا بأننا سنسمع المطربة الجديدة الواعدة بخلاف أم كلثوم في دنيا الغناء..
وكانت (الباخرة سودان) فيما يبدو في ذلك التوقيت هى التمهيد الطبيعي لأضواء المدينة.
واسمتعنا إليها أكثر من مرة.. هى وغيرها من المشاركين في الحفلات اليومية من المطربين المونولوجست.. نسمعهم مجانا ونحن جلوس على الضفة المواجهة للسفينة سعداء، فالمشوار فوق (كوبري الجلاء) أو (كوبري بديعة) وكان ذلك هو اسمه في ذلك الوقت، وإن كان يخلو للبعض تسميته الكوبري الأحمر نسبة إلى الانجليز.. كان المشوار إلى (الكيت كات) قد تعودناه لنحكي بعده عن فقرات حفل كل ليلة على (الباخرة سودان).
وسمعنا (نجاة) وكانوا يطلقون عليها اسم (نجاة الصغيرة) تمييزا لها عن (نجاة علي) أو (نجية علي صيام) بنت فارسكور، والتي أطلقت عليها سيدة الغناء العربي لما استمعت إليها اسم (نجاة) بدلا من (نجية) فطربت لصوتها ووصفته بأنه صوت (شبعان)، ودعتها للغناء في حفل الافتتاح الرسمي للإذاعة المصرية عام 1934 .
كانت (نجاة الصغيرة) من مواليد 11/8/1938 أما (نجاة علي) فكانت من مواليد 23/3/1913، أي بفارق سنين 25 عاما عن (نجاة حسني البابا).. وكان ذلك هو اسمها أول ما عرفناها.
غنت (نجاة الصغيرة) وعمرها حوالي الخامسة عشرة وظلت تحمل اسم (الصغيرة) حتى بعد وفاة نجاة علي يوم 26/12/1993.
لكن نجاة الصغيرة منذ ظهورها الأول على (الباخرة سودان) لم تتوقف عن مشوارها الفني الغنائي الذي بذلك فيه غاية جهدها.. فقد شاركت (عبدالحليم حافظ) مثلا في بعض أولى أغنياته في الإذاعة، وتحديدا في أغنية (وطني وصباي وأحلامي)، ثم عنت في واحدة من أحلى تمثيليات الإذاعة المصرية باسم (أم شنافنجية علي صيام)، وهى حكاية مطرية فلاحة من العصر المملوكي كانت صاحبة صوت جميل حتى دبرت لها منافستها (صبيحة البنهاوية) وكانت تغني دورها المطربة (عصمت عبدالعليم) حيلة تسقط أمامها (أم شناف) إلى الأبد فأقنعت ملحنا زومبا ليلحن لها لحنا ضعيفا تغنيه في حفل زواج ابن الوالي فتطرد من الحفل وقد أصابها الشلل لتعتزل الغناء بعد هزيمتها ليسقر الحال لبنهاوية.
ثم يكون الانقاذ على يد أحد كبار تجار بر مصر وكان مسافرا إلى الشام مع بضاعته فيعود إلى مصر.. وهو من عشاق صوت (أم شناف)، وهو ايضا موسيقى يعزف العود.. يعود ليسأل عن (أم شناف) فيجدها قد أقامت هى وأبوها في غرفة تضم أمثالها ممن فقدوا كل شيء، لكن عودة السيد (محمود السلانكي) ومعرفته بما حدث فيلحن هو لها الأغنية التي أسقطتها.. يلحنها لحنا جديد فيعود لها مجدها وتشفى من الشلل بعد أن طلبها السيد السلانكي للزواج.
المهم أن الأغنية مدار الصراع كان قد لحن أحمد صدقي في التمثيلية ثلاث مرات: المرة الأولى التي كانت تغنيها (أم شناف) والثانية التي غنتها صبيحة البنهاوية والثالثة التي غنتها ام شتاف من تلحن السيد (محمود السلانكي) وعادت لها اقوى مما كانت.
كانت الأغنية التي تم تلحينها ثلاث مرات بثلاثة ألحان مختلفة للموسيقار أحمد صدقي تقول كلماتها:
طاير يا حمام
مرسال الغرام
تهدي الشوق لحبي
وتجيب لي السلام
طاير يا حمام
والتمثيلية بهذا الشكل كانت عملاقة فقد نجحت فيها (نجاة الصغيرة) كصوت، كما نجحت (عصمت عبدالعليم) .. وكذلك نجح (أحمد الجزيري) في دور والد (أم شناف)، كما نجح محمد علوان في دور السيد (محمود السلانكي).
على أن النجاح المتلاحق الذي حققت (نجاة الصغيرة) ربما يكون قد اقنع بعض من النقاد أو الصحفيين بعد أن قد قرروا أن تكون (نجاة الصغيرة) هى (نجاة الكبيرة) لتحذف من حياتها إلى الابد كلمة (الصغيرة)، خصوصا بعدما اعتزلت (نجاة علي ثم بعد وفاتها.. وكانت (نجاة حسني) قد غنت بالفعل عددا من الأغنيات الناجحة لعدد من كبار الملحنين والمؤلفين ولعبت بطولة عدد من الأفلام السينمائية.
المهم وهو ما يدفعنا للتساؤل: لماذا وتحديدا في عام 1955 ألغت (نجاة الصغيرة) من حياتها الغنائية أغنية لها شبابية جميلة تتسم بالبراءة ورقة الصوت وسلاسة اللحن تقول كلماتها
والنبي خلينا نشوفك
والنبي تسأل وتجينا
ده احنا ما ننساش معروفك
لو تعمل معروف فينا
وتعود من نواحينا
والنبي خلينا نشوفك
لماذا اختفت الأغنية ولماذا لم نعد نسمعها؟، خاصة أن (نجاة الصغيرة) والتي أصبحت كبيرة هى التي قررت عدم إذاعتها لأنها لم تعد تناسب ما وصلت إليه بعدها ؟ أم أن هذه مجرد تصورات لا أساس لها من الصحة!!
أما في رأينا نحن مستمعي (نجاة) بحق فإن أعظم ما غنت (نجاة) حتى الآن هو لحن (أنا بأعشق البحر.. أنا بعشق السما.. أنا باعشق الطريق..) لما قدمه لها فيه الملحن القدير الموسيقار (هاني شنودة) من همس غنائي يناسب تماما رقة وعذوبة صوت (نجاة الكبيرة) الآن!!