كتب : محمد حبوشة
النبش في قبور الموتى هو أمر محرم دينيا ويعاقب عليه القانون، لكن للأسف في هذا العصر هناك أشخاص يفعلون ذلك كل يوم، بتعديهم لفظيا على أناس سكنوا القبور منذ زمن بعيد دون حمرة من خجل أو مراعاة لشعور لجمهور عشق وتعلق كثيرا برموز ثقافية وفنية أثرت في وجدانه على جناح الأغنية تحديدا، وأقصد هنا كوكب الشرق السيدة العظيمة (أم كلثوم)، تلك الأسطورة والأيقونة التي (يخلو الغرب من نظير لها، ولا يوجد على الساحة فنان يلقى هذا القدر من الحب والاحترام مثل ما تلاقيه أم كلثوم في العالم العربي)، وهذا ما كتبه كتبته جريدة (الجارديان) في طبعتها الإنجليزية مردفة على لسان أحد محرريها: (تسمع صوت مقهى أم كلثوم قبل أن تراه، ينبعث صوت الكمان مثيرا العواطف ويشق الصوت الأسطوري مدخل حي التوفيقية في القاهرة، خارج المقهى، يجلس كل اثنين على مقاعد بلاستيكية يدخنان النرجيلة، ليظهرا كأقزام بجانب تمثالين ذهبيين ضخمين للمطربة التي منحت ألقابا عدة، منها (كوكب الشرق، أم العرب، هرم مصر الرابع).
تقول (فرجينيا دانيلسون) المتخصصة في علم الموسيقى العرقية، والتي كتبت سيرة حياة أم كلثوم: (كانت صورتها الشعبية عبارة عن بناء واضح ومحكم، إلا أنه لم يكن مصطنعا ولا زائفا، فقد تعلمت أم كلثوم ببساطة أن تقدم نفسها بالطريقة التي تريد أن يراها العامة وأن يتذكروها بها، لنفهم أم كلثوم حقا ليس فقط بوصفها مطربة ولكن بوصفها ظاهرة اجتماعية تستمر في التألق، علينا كما تقول دانيلسون (ألا ندرك الحياة وراء الأسطورة فحسب، بل الأسطورة الكامنة في قلب هذه الحياة)، فقد تميز صوتها بأنه صوت رنان، من أندر الأصوات النسائية، ويتمتع بقوة مذهلة، خاصة أن أم كلثوم غنت أمام جمهور هائل من دون ميكروفون وكانت ترتجل ببراعة تامة).
وقال عنها نجيب محفوظ، الروائي المصري الحائز نوبل (كانت تغني مثل الواعظ الملهم من جمهوره، فعندما يدرك الواعظ ما يصل إلى جمهوره، يمنحهم المزيد، ويتفانى فيه)، كان الجمهور يهتف لتعيد غناء المقاطع وكانت تستجيب لهم، لتستمر الأغنية ما بين 45 و90 دقيقة، وكانت تتنتقل أم كلثوم ببراعة بين نبرات الصوت وأبرزت المقامات بمهارة لينفجر التصفيق الحار، ويقال إنها لم تغن مقطعا واحدا مرتين بالطريقة ذاتها، وانتشرت روايات عن خلاء الشوارع وأماكن العمل من تونس حتى العراق بسبب اندفاع الملايين من الناس إلى منازلهم للاستماع لحفلها الموسيقى الذي يقام في أي مدينة عربية أو أوروبية، فقد جسدت أم كلثوم مثالا للوحدة العربية وأصبحت خياراً لا غنى عنه لدى السياسيين الأذكياء.
هكذا وبختصار شديد كانت (أم كلثوم)، تلك الفلاحة المصرية القادمة من أعماق الريف المصري (طماي الزهايرة – محافظة الدقلهلية) التي أثرت في عدد من أشهر مطربي الغرب، ولم يكن ما قدمته تلك الفلاحة البسيطة التى ولدت مع إشراقات القرن العشرين مجرد مفردات شعرية ترددها موصولة بالموسيقى فقط، بل إنها رسمت بصوتها الآسر للقلوب والعقول حياة ثقافية بكاملها، وخطت بآهاتها قلوب الملايين لترفع مستوى الذوق العربى إلى عنان السماء، محلقة كحمامة بيضاء فى الآفاق القريبة والبعيدة تسمو معها الروح التواقة للعشق تارة، وتارة أخرى كالنسر المتمرد فى طيرانه نحو ميادين الحرية والنضال من أجل الوطن، إلى حد أن جعلتنا نفخر بشيء ما فى حياتنا المليئة بخيبات الأمل المتلاحقة والانكسارات العظمى، حيث وهى واقفة فى شموخ غير معهود على مسرحها العظيم.
هى مالكة الدنيا للحظات من المتعة اللانهائية، حيث وهى واقفة فى شموخ غير معهود على مسرحها العظيم، تملك كل المعاني والمشاعر، ويتعذب الجمهور المتلذذ بألمه، وفى جملة غير متوقعة تفجر المفاجأة بقدرة صوتية خارقة، فينفجر المكان بالتصفيق، وتنهمر الدموع المتلهفة، و تتمايل الأجساد السكرى بالمتعة بتأثير قوتها المغناطيسية الجميلة، حتى وصفها (بوب ديلان) قائلا: (إنها رائعة.. حقا إنها رائعة)، وأدت كل من (شاكيرا وبيونسيه) حركات راقصة على أنغام موسيقاها، وقالت (ماريا كالاس)، إنها (صوت لا يضاهى)، وترد موسيقى وأنغام أم كلثوم الأسرة للقلوب، فضلا عن وطنيتها الصادقة على سؤال طرحته (فيرجينيا دانيلسون): (هل يمكن أن تمثل حياة امرأة واحدة ومسيرتها، 60 عاما في المجتمعات العربية التي ظهرت فيها المرأة للعالم الخارجي أنها مظلومة ومقهورة وخفية، وليس فقط امرأة عادية، بل امرأة أثارت مزاعم مثليتها الجنسية ورفضها المعايير الجنسانية التقليدية، بعض الدهشة خلال حياتها؟)، حتى يأتي طالبي الشهرة للطعن في شرفها وكبريائها كما جاء مؤخرا على لسان شاعر مغمور.
وكانت آخر تلك التعديات ما تعرضت له الراحلة أم كلثوم عندما نبش قبرها من جديد الشاعر مغمرور – لا أريد ذكر اسمه عمدا حتى لا يحصل على مبتغاه – كي يكيل لها الإهانة تلو الأخرى في ندوة ثقافية أقامها اتحاد كتاب مصر، حيث تطرق هذا الدعي إلى الحديث عن الراحلة أم كلثوم، وهال على مسيرتها كثير من التراب ووصفها ببعض الأوصاف غير اللائقة، حين قال أن الراحلة أم كلثوم بأنها كانت شخصية (أنانية) تستغل حب من حولها لها؛ حتى تحصل على أفضل الألحان، مؤكدا أنها فعلت ذلك مع الشاعر( رامي) والذي وصفه بالعاشق الولهان، ولم يتوقف هذا المأفون عند هذا الحد، وإنما تجاوز أكثر، وتحدث عن جسد أم كلثوم ووصفه بأنه كان (ملخبط)، ويعد ذلك تنمر واضح وتعدي خلقي سافر من جانبه.
ما هذا العبث يا سادة: إهانة أم كلثوم والنبش في القبور بين الحين والآخر، تصيبني بالعجب دائما من الأشخاص الذين يتحدثون عن الموتى بهذه الطريقة السيئة، هم يشبهون تماما من ينبشون قبور الموتى، كيف يتطرقون للحديث عن علاقاتهم العاطفية أو شرفهم أو سلوكهم؟!، من أين يأتي هؤلاء الناس بهذه الجرأة؟، الحديث عن سلوك الشخص مرفوض، نحترم رأي كل النقاد، لكن عليك أن تنتقد فنها الذي كانت تقدمه أو أغانيها، لكن لا تتطرق إلى حياتها الخاصة وتتهمها بصفات ربما لم تكن فيها.
أعجبني كثيرا الفنان الكبير هاني شاكر، نقيب الموسيقيين، في تصديه لتلك الهجمة غير المبررة على رمز من رموز الثقافة الفن في مصر والعالم العربي عبر بيان قال فيه: (تعلن نقابة الموسيقية رفضها هجوم البعض علي رموز مصر الفنية من الموسيقيين، وأكدت النقابة في بيانها أن مصرُ حاضرةٌ في الزمان وراسخةٌ كالطودِ في المكان، ومهما حاول الطامعين والطامحين لتصغيرها فأنها تعلو ولا تُهان، وحين يتطاول علي رموزها ومحاولة النيل من تاريخها من قبل كل صغير وممول لن ينال غير الخسران).
ونقابة المهن الموسيقية لكونها القلعة التي يحتمي ببرجها التراث الفني والثقافي من كل متطاول وعابث ومتآمر، لذا شددت النقابة علي أنها ستقف لهؤلاء بالمرصاد وتدين كل محاولات النيل من تراثنا ورموزنا الفنية مثل سيدة الغناء العربي (أم كلثوم) التي كانت توحد الأمة العربية في كل شهر علي قلب رجل واحد لسماع شدوها الذي يأسر القلوب والألباب، وتدين أي تطاول علي شعراء مصر الذين ترسخوا في وجدان المصريين والعرب جميعا وصاروا من علامات ثقافتها ونهضتها ومنهم الشاعر الفذ (أحمد رامي) وأمير الشعراء (أحمد شوقي) والشاعر (أحمد شفيق كامل) والشاعر (عبدالوهاب محمد) وغيرهم ممن تغنوا في حب مصر وأمجادها.
وتحذر نقابة المهن الموسيقية كل متجاوز من التطاول في حق رموز شكلت وجدان وتاريخ المصريين والعرب، وتؤكد علي الشعبين المصري والعربي أن الهجمة الشرسة علي الفن والثقافة المصرية ورموزها هو أمر ممنهج لتصغير دور الفن المصري حتي يسهل غزو ماضينا وتراثنا لترسيخ ثقافة وفن لا يحمل السمات والأخلاق المصرية والعربية العريقة.
نقيب المهن الموسيقية
الفنان هاني شاكر
ورغم تحرك نقابة الموسيقيين، وإصدار اتحاد كتاب مصر بيانا، لكن ما يهمنا هو أن نتغير من داخلنا، يجب على كل شخص فينا أن يكون إنسان، ولا ينبش قبور الموتى ويتحدث عنهم بطريقة سيئة، بحثا عن شهرة أو طمع في تريند، وهي جريمة لاتغتفر ارتكبها من قبل كاتب مغمور أيضا يدعى (محمد بركة) – ينبغي ملاحقته من جانب (نقابة الموسيقيين) والقضاء أيضا – لهدم أسطورة كوكب الشرق بزعم الكتابة الروائية، كما جاء في روايته القبيحة (حانة الست) – حيث اعتمد فيها عن طريق السطو والسرقة على رواية (كان صرحا من خيال) للكاتب اللبناني سليم نصيب – ليصور لنا عالما مغايرا عن سيدة منحت الموسيقى العربية روح الأصالة والمعاصرة، متناسيا مع سبق الإصرار والترصد أنه في أوائل عشرينات القرن الماضي، استغرقت أم كلثوم وقتا لتثبت موهبتها في المدينة الشاسعة، وبينما أعجبت صفوة المجتمع بصوتها في القاهرة، فقد تعرضت للسخرية بسبب ملابسها وسلوكياتها الريفية الغليظة.
ولم يلفت نظره القاصر أنها تعلمت تدريجا التأنق في أفضل الملابس وتعاونت مع نخبة من فناني هذا العصر، على رغم شهرتها كمطربة صعبة الإرضاء، فقد تنافست أشهر شركات الإنتاج للتعاون مع أم كلثوم، بينما تفاوضت هى بذكاء لزيادة أجرها وشهرتها، وسرعان ما ضاعفت أجرها لتضاهي أشهر الفنانين على الساحة في القاهرة – آنذاك – حتى أن (روبرت بلانت)، عضو فرقة الروك (لد زبلين)، عند سماع صوت أم كلثوم في مراكش عام 1970، قال: (لقد أُصبت بالذهول عندما سمعت صوتها للمرة الأولى بينما تتدرج في نزول المقامات لتنتهي بنغمة لم أتخيل مطلقا إمكان غنائها)، كان الأمر رائعا: (لقد زعزعت لدى مفهوم الغناء).
هكذا ينبغي أن نكتب عن كوكب الشرق التي ماتزال تطل برأسها كل يوم وليلة من تحت التراب لتمتعنا بروائعا الخالدة، وليس على طريقة المدعو (الشاعر المغمور) أو(الروائي الحقود) الذي فجأني أنا كما فوجئ غيري من المعنيين بالتراث و الفن الكلثومي الخالد أن تقوم دار نشر مصرية بنشر وترويج كتاب قبيح المعنى والشكل والمضمون بعنوان (حانة الست)، لمؤلفه المجهول اسما وتاريخا وعلما، ليوجه لأم كلثوم جملة من الانتقادات والاتهامات السخيفة من دون تقديم أي دليل مادي أو معنوي حول ادعاءاته المزرية، ومن ضمن ماقاله هذا (الدعي المعتوه) أن أم كلثوم حاربت كل المطربين والمطربات الذين عاصروها وفق نظرية (كيد النسا)، فيذكر أن أم كلثوم حاربت (أسمهان وفتحية أحمد ونور الهدى وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وسعاد محمد ونجاة الصغيرة ومحمد رشدي ومنيره المهدية وغيرهم كثير، حتى أنها – بزعمه الأجوف – أوصلت عبد الحليم حافظ لمرحلة الجنون و التفكير بالانتحار.
صحيح أن هنالك أصوات ثائرة انطلقت على أثر إهانة أم كلثوم الأخيرة في ندوة اتحاد الكتاب وعلى رأسهم كان الشاعر والسيناريست (مدحت العدل) رئيس جمعية المؤلفين والملحنين، الذي قال إن الإساءة لـ أم كلثوم وأحمد رامي فى ندوة باتحاد الكتاب المصريين هو أمر مخز ومثير للاستنكار، واعتبر (العدل) أن ما قاله هذا الشاعر المغمور فى حق أم كلثوم وأحمد رامى، ما هو إلا (قعدة نميمة مخزية)، وكان يجب على اتحاد الكتاب أن ينأى بنفسه عن مثل تلك الفعاليات المسيئة، ما دفع عضو اتحاد الكتاب الشاعر الكبير (أحمد سويلم) ردا على هجوم الشاعر المغمور عضو المجلس، على كوكب الشرق أم كلثوم، والشاعر الكبير (أحمد رامى)، خلال ندوة عقدت داخل أروقة اتحاد كتاب مصر، إنه طالب بالتحقيق معه بتهمة إهانة الرموز الفنية، وهو ما اعتبره محبوا (أم كلثوم وأحمد رامى) بأنه (تطاول على قامات مصرية تركت بصمتها فى تاريخ الفن العربى).
وأضاف (سويلم) في تصريحات خاصة له: إن مجلس إدارة النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر في إجازة هذه الأيام عن الانعقاد، ولكنه طالب المجلس بشكل رسمي بالتحقيق مع (الشاعر المغمور) بسبب تصريحاته المسيئة للسيدة أم كلثوم، خاصة وأنها جاءت على لسان عضو بالمجلس، وتابع الشاعر الكبير أحمد سويلم: (أن تصريحاته في حق كوكب الشرق وأحمد رامى يتضح منها جهله بالفن والفنانين)، ومن الظاهر أنه يريد أن يظهر نفسه أو كما يقال في المثل (اذكرني ولو بإهانة)، فهو يريد أن يشتهر بالإساءة إلى الرموز العظيمة.
وأخيرا ياسادة: لم تكن أم كلثوم سيدة عادية، أو مجرد مطربة عابرة فى ذاكرة الفن العالمي، بل أسطورة غنائية يصعب تكرارها فى الأمة العربية، فصوتها الخارق للطبيعة، وحنجرتها الذهبية، ودماء الفن الأصيل التى تجرى فى عروقها جعلوا منها أسطورة لا تموت، وشمس الأصيل التى لا تغيب، وهى التى شدت على خشبات المسارح لستة عقود كاملة فى ظاهرة فنية فريدة على المستوى العالم بأسره، بمزيج من الألحان و الكلمات و الآهات التى جعلتها تتربع على عرش الذائقة العربية السليمة، بفضل مايخرج من فمها العبقري، وكأنها ألحان أسطورية آتية لتوها من أعماق جنان الخلد.
وها هى اليوم ونحن على مسافة 47 عاما من رحليها، تظل معنا، تسكن بيوتنا وتقطن مشاعرنا، ومن فيض غنائها نستلهم أجمل قصص الحب والعشق والغرام، ومن سناها العطر نسطر أروع ملاحم الوطنية فى كل تجلياتها، وكأنها تطل برأسها من تحت التراب من حين لآخر حاملة منديلها الشهير، تمنحنا قبلة الحياة، حين تميل الدفة فى زمن انهيار الغناء الحديث، بدليل هذا الإقبال الواسع حتى الآن على سماع أغانى كوكب الشرق، والانتقال من الحالة البصرية للأغنية العربية المعاصرة إلى الحالة السمعية الخاصة التى تتحلى بالسلطنة والشجن، وكأن الزمن نفسه يقف عاجزا أمام سيدة الغناء العربى فينحنى لها إجلالا ويسمح لها بالخلود فى القمة، ولسان حالنا يردد فى صمت موحش: زمن أي شيء هذا الذى نعيشه، ليتنا لم نعش لنقارن، أو ليتنا ولدنا فى زمن الانحدار كى نرى كل هذا الهبوط صعودا.