نبيل بهجت يقدم سياحة ممتعة في كتابه الجديد (مسرح خيال الظل المصري)
كتب : شهريار النجوم
صدر عن الهيئة العامة المصرية العامة للكتاب كتاب (مسرح خيال الظل المصري من جعفر الراقص حتى الآن) للدكتور نبيل بهجت وهو أحد المتخصصين في هذا الفن، حيث قدم لـ (مسرح الظل) ما يزيد على ثلاثين عملا قدموا في عدد كبير من الدول، وأقام عدد من معارض دمى خيال الظل في باريس ونيويورك، واسطنبول والكويت وغيرها، ويسعى منذ وقت لإعادة إحياء هذا الفن ضمن مبادرته في إحياء فن الأراجوز وخيال الظل للحياة الثقافية والفنية.
ويحتوى الكتاب على ثلاثة فصول ومعه عدد من الملاحق، جاء الفصل الأول بعنوان (المصطلح والمكونات والفلسفة)، والفصل الثاني (المؤثرات وبنية النص)، والفصل الثالث (تطور تقنيات مسرح خيال الظل)، وعدد من الملاحق ضمت (بابات حسن خنوفة)، وعدد من رخص اللاعبين في نهاية القرن التاسع عشر، وعدد من الصور.
و تحاول الدِّراسة الوقوف على مسرح (خَيَال الظِّلّ) منذ بدايته الأولى وتتناول عدد من القضايا التي ترسم خطا بيانيا لهذا الفن منذ المصادر الأولى التي أشارت إليه حتى الآن بتتبع فنانية ومواد تصنيعه وأشكاله وأماكن عرضه، وشكل مسرحه ونصوصه، والمقارنة بين آخر نصوص وصلت إلينا، وأقدم ما عرفنا من نصوص وإشكاليات المصطلح، ومن أين جاء وفلسفته وإشكالياته مع السلطة وتطور تقنياته.
وسعَت الدِّراسة إلى تتبُّع فناني خَيَال الظِّلّ وعروضهم، كما وقفت على التطوُّرات التي لحقت بمسرح خَيَال الظِّلّ والدُّمَى الخاصَّة به أيضًا، وقدمت الدِّراسة (بابات حسن خنوفة) وسعت إلى الوقوف على بنيتها والتطوُّرات التي لحقت بها على مستوى الشكل والمضمون مقارنة ببنية (بابات ابن دانيال) حيث انتقل خَيَال الظِّلّ من الشرق الأقصى واستقر في القاهرة ومنه انتقل إلى ربوع العالم.
وعن مصطلح الخيال فيوضح الكتاب أنه كان يصف نوعًا من الأداء التمثيلي المغاير تمامًا لخيال الظل المعروف وتطور عن مصطلح الحكاية الذي كان يستخدم لغرض قريب من ذلك، واستقر مصطلح خيال الظل بدلالته المعروفة لدينا الآن بداية من القرن الحادي عشر الميلادي.
ويتتبع الكتاب المراجع من حيث أسماء بعض فناني خَيَال الظِّلّ وتم حصر بعضهم في تسلسل تاريخي، فجاء جعفر الراقص في القرن الخامس الهجري، وابن دانيال في القرن السابع الهجري، والذهبي وابنه محمد في القرن الثامن الهجري، وابن سودون في القرن التاسع الهجري، وداود العطار المناوي وعلي نخله والشيخ سعود في القرن الحادي عشر الهجري، وحسن القشاش ودرويش القشاش في بداية القرن الرابع عشر الهجري، ومحمد أبو الروس ومحمود علي صالح ومصطفي الروبي في أواخر القرن الرابع عشر الهجري، وأحمد الكومي والفسخاني في بداية القرن الخامس عشر الهجري، وأخذ عنهما حسن خنوفة باباته (الصيَّاد، والعساكر، وعلم وتعادير)، وتوُفِّي خنوفة عام 2004 ميلاديًّا.
وتتناول الدراسة شكل الدمى و مسرح خَيَال الظِّلّ فقد أخذ عددًا من الأشكال، منها ما هو ثابت ومنها ما هو متنقل، ولقد نقل أحمد تيمور، ويعقوب لندواه، وعبد الحميد يونس وصفًا لأشكال مسارح الظِّلِّ، وكان مسرح حسن خنوفة متنقلاً يحمله معه، وهو عبارة عن شاشة يُلقَى عليها الضوء من الخلف.
وجدير بالذكر أن صنَع دُمَى خَيَال الظِّلّ يأتي من الجلد الشفاف ويقوم اللاعب بتلوينها، وتعتمد على تكرار الوحدات الزخرفية لتكتسب دلالاتها من خلال مفهوم إدراكي كلي لشكل الدُّمْيَة، ووصلت الدُّمَى إلى حالة يُرثَى لها مع حسن خنوفة حيث اعتمد على (كارتون مُصمَت) دون أي زخارف أو نقوش، ولم يهتم بالتفاصيل الزخرفية والجمالية للدُّمَى.
ويتتبع الكتاب نصوص خيال الظل حيث عرف خَيَال الظِّلّ العربي عددًا من البابات، لم تخرج عن: (المنارة القديمة، وطيف الخيال، وعجيب وغريب، والمتيم، والضائع اليتم، والشيخ صالح وجاريته السر المكنون، وحرب العجم، والمنارة الحديثة، وعلم وتعادير، والتمساح والشوني، والشيخ سميسم، وأبو جعفر والقهوة، وإعدام طومان باي، ومسطرة خيال منادمة أم مجير، والفيل المرتجل، والحمام، والتياترو والمهندس، والعامل المجنون، والأولاني، والغراف، والعجائب، والحجية، والمعركة البحرية بين النوبيين والفرس، وحرب السودان، واقعة البلح والبطيخ، وحسن ظني والمركب).
ويقف الكتاب بالدراسة على آخر نصوص شفاهية وصلت إلينا وهى بابات حسن خنوفة ثلاث بابات: (الصيَّاد) وهي صيغة معدَّلة من (التمساح)، و(علم وتعادير)، وبابة جديدة لم نجد لها أي إشارة في المراجع المختلفة هى (العساكر)، ولقد جمعت البابات الثلاثة في آخر الكتاب مقارنة إياها بنصوص ابن دنيال، حيث كان الاستهلال لإعطاء مشروعية الكتابة من خلال الإجابة على سؤال السائل والبداية الغنائية التي تتجه مباشرة إلى الجمهور والنهاية المرتبطة بالتوبة والندم والاستغفار المؤسس على فعل الموت في طيف الخيال والمتيم والضائع اليتيم، وذكر الحج كغاية ومقصد في طيف الخيال وعجيب وغريب من أهم الملامح الأساسية لنص ابن دانيال.
فالقارئ لنصوص ابن دانيال يلمح منذ الوهلة الأولى تداخلاً للنصوص إذا انتقل من الخطابة إلى الشعر بأغراضه المتنوعة إلى أسلوب المقامة في بعض المواضع، وقد رصد العديد من الدارسين هذه الظواهر التي تؤكد أن فنونًا سبقت خيال الظل، وساهمت في تأسيسه بل وظلت آثارها باقية في نصوصه شاهدة على هذا التأثير، بل إن (على الراعي) يرى أن المقامة دخلت المسرح عن طريق خيال الظل، وعلى هذا فإن التداخل بين الحكاية / الخيال / المقامة شكل نصوص ابن دانيال.
ولقد تناول خَيَال الظِّلّ موضوعات تتعلق بالنقد السياسي والاجتماعي والعلاقة مع الآخر، كما قدمت بعض العروض الجنسية بهدف التسلية والترفيه، كما حملت بابة (الصيَّاد) تطوُّرًا في الشكل والمضمون حيث مزج فيها خنوفة جميع البابات التي تتخذ من الصيد موضوعًا لها: (الأولاني، والعجائب، والتمساح)، وكشف مضمونها عن الفساد المجتمعي وصراع الإنسان ضد السلطة والطبيعة معًا وانعدام الحس الإنساني، فكل من يأتي لمساعدته في محنته يطلب مقابلاً ماليًّا مِمَّا يُوحِي بفسادٍ يعمُّ جميع الأصعدة، بداية من السلطة التشريعية ثم التنفيذية وصولاً إلى أفراد المجتمع أنفسهم.
وتُعَدُّ بابة (العساكر) من البابات الحديثة التي كُتبت بعد الحرب العالمية الأولى وتأثرت في موضوعها بمفاهيم الجندية، وتتشابه إلى حد كبير مع نِمْرَة (الأراجوز في الجيش) التي يؤدِّيها الفنَّان صلاح المصري، و جاءت رواية حسن خنوفة لبابة (علم وتعادير) لتخرج عن الأحداث الأصيلة، فلم تحمل إلاَّ بعض الإشارات لقصة الحب مع احتفاظها بالأسماء، إلاَّ أنها كانت في مجملها مجموعة من النِّمَر اللفظيَّة والحركيَّة.
كما تتكون بابات حسن خنوفة من استهلالٍ عبارة عن موسيقى تصاحبها رقصة بالعصا للمقدِّم، ثم الدعاء والاستغفار والصلاة على النبي، والترحيب بالحضور، وهو بذلك لم يخرج في مجمله عن الاستهلال الدانيالي، و للمقدم مشهد ثابت في جميع البابات، يقدِّم فيه نِمَرًا حركيَّة يعتمد فيها على مشاكسة الشخصية الأخرى، ويُعَدُّ هذا المشهد بنية أساسية في بابات حسن خنوفة، وتمهيدًا للحدث الرئيسي داخل البابة.وتعتمد بنية البابات عند خنوفة على النِّمَر اللفظيَّة والحركيَّة بشكل يجعل نَصَّ البابة عن خنوفة مجموعة من النِّمَر الحركيَّة واللفظيَّة التي يكثر الاعتماد فيها على عناصر الفكاهة الشعبيَّة من قفشة ونكتة وتلاعب بالألفاظ وغيرها.
ولقد طرح حسن خنوفة في شخصياته ما هو آدمي وما هو حيواني وما هو جماد، ولم يسعَ لإبرازها ولم يجعلها ذات أبعاد حقيقية، بل جعلها مجرَّد وسائل لخلق الفكاهة.و اختلفت نهايات بابات حسن خنوفة عن البابات الدانيالية التي تنتهي بالتوبة والعودة إلى الله، أمَّا بابات خنوفة فكانت الاعتدائية سمة أساسية لها بشكل كشف عن تأثُّره في صياغة هذه النهاية بالأسلوب الذي يُنهِي به الأراجوز نِمَرَه. واتفقت بنية بابات حسن خنوفة مع البابات الدانيالية في الاستهلال ومخاطبة الجمهور، واختلفت في اعتمادها على الحوار بشكل كامل وقلة الاستشهاد بالشعر، ومثل الصوت الفردي البداية الاستهلالية والخاتمة فقط، بعكس البابة الدانيالية التي مثَّل الصوت الفردي فيها نَصَّ البابة، كما غلب عليه الطابع النثري، مِمَّا يوحي بتأثُّر خنوفة بأشكال الدراما الحديثة في اعتماده على الحوار بشكل أساسي، بينما افتقر عرضه إلى الجانب الجمالي من الناحية التشكيلية.
كذلك يتناول الكتاب كيف تشكلت فلسفة الفن واستراتيجياته من خلال المراوغة/ المناورة التستر والمرونة والالتصاق بالواقع والسرية والتسيير والتكرار والإحكام والسهولة والمتعة.
ويقف الكتاب على الفنون التي أثرت بخيال الظل وشكلته إذ تأثر تصميمات خيال الظل بالفنون المجاورة من المنمنمات والعمارة، وغيرها وحملت فلسفتها في تحديد العلاقة بين النور والظل الذي هو أساس فن خيال الظل وبمقارنة بعض منمنمات العصر الفاطمي ودمى خيال الظل نكشف وجه التطابق في التصميم بشكل يجعلنا نجزم بإمكانية تصميم المنمنمات كدمى في كثير من الأحيان، ويمكن أن نقارن بينها من خلال الصورة حيث نلاحظ التشابه في تصميم الوجه والعيون وآلية تشكيل مساحات النور والظل، واستخدام الخطوط الداكنة التي تشكل مساحات الزخارف والعناصر الهندسية ومخالفة الطبيعة والميل والتبسيط، وكذلك فالمتأمل للدمى وتحديدًا لمجموعة “كاله” يلمح استخدام الرنوك كأحد العناصر التشكيلة للدمى.
ويقدم الكتاب في النهاية صورة لتطور خيال الظل في الخمسين عاما الأخيرة والذي ساهمت فيه أجيال متعاقبة، وتجارب مختلفة أحدثت تطورا في خيال الظل شكلا ومضمونا من حيث التصميم والتحريك والصناعة وبنية الشاشة ونوعية الإضاءة واستفادت بشكل كبير من إمكانات العصر واحتفظ الكتاب في نهايته بآخر رواية شفاهية وشعبية لعدد من البابات التي حرص الكتاب على إثبات نصوصها، ما يؤكد براعة الباحث الدكتور نبيل بهجت في تأكيد عبقرية القدامى في صناعة (مسرح خيال الظل) الذي لعب دورا مهما في الحياة المصرية.