بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
مع انحسار الصحافة الورقية و انتشار الصحافة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعى ، انحسرت فنون صحفية كثيرة ، معظمها يتعلق بالكوميديا ، فلقد اختفى أو يكاد فن الكاريكاتير ، و اختفى أيضا المقال الساخر ، بعد أن كانت مصر أولى الدول العربية التى خصصت مجلات تعنى بهذه الفنون ، فرأينا مجلات مثل (البعكوكة) فى أوائل القرن الماضى و (صباح الخير) فى آواسط القرن و مجلة (كاريكاتير) فى نهايته ، و ذاعت شهرة كُتّاب تخصصوا فى المقال الساخر بداية من (الشيخ عبد العزيز البشرى) الذى كان شيخ قبيلة الساخرين التى ضمت أسماء كثيرة مثل (فكرى أباظة و محمد عفيفى و أحمد رجب و محمود السعدنى و عاصم حنفى وصولا الى يوسف معاطى) الذى امتعنا بسلسلة طويلة تحت اسم : (طقت فى دماغى).
و الحقيقة أن السخرية ملأت مواقع التواصل ، و لكن أغلبها يصل إلى التطاول و لا يمكن اعتبار ما يكتب بها يمت لفن المقال ، كما حلت المميز ( التعليقات المصاحبة لصور شهيرة ) محل الكاريكاتير ، و صار معظم من يتجهون للكتابة الساخرة يصدرونها فى كتب ، فامتلأت المكتبات بها ، و لا أدرى إن كان سوقها رائجا أم لا . و لعل من أجمل الكتب التى صدرت ، و أهداه لى صديقى ( أبو سبع صنايع ) المؤلف و السيناريست و المخرج المسرحى (نادر صلاح الدين) ، و هو الحمد لله ( بخته مش ضايع ) لأنه نجح فى كل هذه المهن و أثبت تفوقه ، فلقد كتب 13 فيلما و أخرج 6 عروض مسرحية على مستوى الاحتراف بعد أن قدم حوالى 30 عرضا للهواة قدمت للحركة الفنية نجوما كبار حاليا ، كما كان ( نادر ) ضلعا مهما فى تجربة مسرح مصر مع الفنان (أشرف عبد الباقى) حيث كتب اكثر من 80 عرضا و أخرج أكثر من 120 فى نفس المشروع الذى استمر عدة سنوات .
و تحت عنوان ( مغامرات مؤلف ) أصدر نادر كتابه الذى يبوح فيه بأسرار و خفايا فيلم (زهايمر) ليكشف لنا ما لا نعرفه عن صنعة الكتابة للسينما ، و ما يحدث وراء الكاميرا من خلال تسجيل تجربته الشخصية أثناء تقديم الفيلم الذى يحمل هذا الاسم ، و الذى قام ببطولته الفنان الكبير (عادل إمام) . إنه يحكى عن فواصل (الشقلطة و الكعورة) التى مر بها – كما تقول الفنانة منتجة الفيلم (إسعاد يونس) فى مقدمة الكتاب – الذى تشهد بأنه : ( كتاب لطيف و شيق خلانى أفطس م الضحك خصوصا و أنا عارفة انها بتحصل فعلا – تقصد تلك الفواصل – و ده الجزء المخفى من حياتنا اللى ممكن ناس كتير ما تتخيلش انه بيحصل ).
و فى أسلوب يخلط بين العامية و الفصحى ، يشبه لغة الشارع عند غالبية المتعلمين – و ان كانت تغلب عليه العامية – يحكى نادر قصته مع الفيلم منذ اللحظة الأولى التى استدعاه فيها الزعيم عادل إمام عن طريق المخرج عمرو عرفه مسجلا دهشته : يا سلام .. الراجل اللى مني و أنا صغير كل اللى أقدر انى أعمله هو أنى أقطع تذكرة علشان أشوفه فى السينما .. كنت قاعد قدامه و بيطلب منى فيلم يمثله من تأليفى !!!، و يستمر فى السرد خلال مشوار طويل مر به منذ تلك اللحظة و حتى نهاية التصوير فى القاهرة و سفر طاقم الفيلم إلى لبنان لاستكمال التصوير ، دون أن يصطحبوا المؤلف ، و يؤكد أنه سيصدر كتابا سيجمع فيه كل الأدعية و طرق الحسبنة و الاحتساب إلى الله عشان ماخدوهوش معاهم .
و الحقيقة أن الكتاب من الصعب تلخيصه ، فإذا حاولت تلخيص الأحداث فستفقد جمال الأسلوب و طريقة السرد ، و لا يبق أمامك سوى أن تقرأ الكتاب بنفسك ، فبرغم أن الكتاب بدأ كمجرد بوستات على الفيس بوك ، إلا أن نادر وضع فيه كل خبرته فى الصياغة ، فأجاد حبك الحكاية و جعل التشويق عنصرا أساسيا ، حتى أنك لا تستطيع ترك الكتاب قبل أن تنتهى منه ، انظر معى لأحدى المقالات و كيف يروى فيها أنه استيقظ فى الصباح على استدعاء من الزعيم تليفونيا للحضور فورا إلى مكان التصوير لأمر هام ، و تلى ذلك التليفون عدة تليفونات من المخرج و مساعده و الإنتاج و مساعد الزعيم ، و كيف يروى تلك المكالمات التى تستعجله بينما هو يعانى فى زحام القاهرة ، و كيف صادفته خناقة فى الشارع أوقفت السير تماما ، و هكذا أخذ يلعب بنا و بتوقعاتنا طوال عدة صفحات ما بين التليفونات و زحام السير و الخناقة التى يصفها بتفاصيل مضحكة ، ليستولى على أنفاسنا حتى يصل مكان التصوير ليجد أن الزعيم يطلب منه طلبا غريبا اعتبره نادر ( مفاجأة ) .
و بالطبع لن أحكى عن ذلك الطلب ، فلقد انقطع نفسى و أنا اتابع الموقف ، و لن أسلب حق القراء فى متابعته ( و انقطاع نفسهم هما كمان ) حتى يستمتعوا بالكتاب ، المكتوب بحرفية و تمكن ، تجعلك ترى ما يصفه الكاتب و كأنه صورة ناطقة أمامك ، أو كأنه فيلم كوميدى مشوق فتتابع و تلهث مع المؤلف طوال رحلة تنفيذ الفيلم و مئات العراقيل و المواقف التى وقعت .
و لا يكمن جمال الكتاب فقط فى أنه يجعلك ترى صورا أمامك من خلال أسلوب ممتع و مضحك فى نفس الوقت و لكن جمال الكتاب يكمن أيضا فى أنه يعلمك حرفية الكتابة للسينما ، فتلاحظ كيف ( يفرش ) للحدث و يتصاعد به ثم يفجر مفاجأة تنبع منها اخرى ثم ينقلب الحدث الى الضد و هكذا ، و أنت لا تملك إلا أن تتابعه ، كما يعلمك ايضا كيف تكتب العامية بأسلوب و لغة رشيقة مليئة بالصور و التفاصيل ، و سوف تتعلم أيضا كيف تكافح من أجل حلمك و أن تسعى خلفه بلا ملل أو كلل ، و لكنى لا أنصحك على الإطلاق أن تستمع إلى النصائح التى وضعها فى نهاية الكتاب ، خاصة تلك التى يقول فيها : ( أى شغلانة تانية بتكسب أكتر من تأليف الكتب و من كتابة الأفلام ف روح اشتغل أى شغلانة .. المشرحة مش ناقصة قتلة ) و لكنى أنصحك بتنفيذ النصيحة التالية التى كتبها : ( سعر هذا الكتاب غير متناسب خالص مع قيمته – أقل بكتير و الله – لذلك برجاء شراء نسختين ) .