كتبت : علا السنجري
(عجبت لك يا زمن) .. جملة أصبحت أرددها كثيرا جدا في الأوقات الأخيرة كلما شاهدت ما لا يعجبني وأتمنى عودة الأشياء الجميلة والأخلاقيات التي تربينا عليها، لكني أعود وألوم نفسي قائلة (نعيب زماننا والعيب فينا)، تناقض أعيشه في كل لحظة من حياتنا المعاصرة ومواقع التواصل الاجتماعي التي باتت وأصبحت المتحكم في ما يدور حولنا حتى الجنازات ودفن الموتى .
نعم كما قرأت تتحكم في دفن الموتى، لكن دعني أحدثك أولا عن شعور الفقد المميت، لا أستطيع أن أصف لكم شعور الإنسان حين يفقد عزيز ويودعه قبره، تلك لحظات ثقيلة على الأنفس قبل الأرجل، دموعك لا توقفها كلمات عزاء، كل من حولك لا يدركوا هذا الصراع الداخلي وحجمه، (كل اللي حواليك تفكيرهم غيرك ، كل همك إنك حترجع من غير حبيبك اللي دفنته ، وهما بقى حدث ولا حرج!).
لا أعرف الذي يحدث الآن مما نراه في جنازات المشاهير متى بدأ، وما هي أسباب ظهوره؟، فبمجرد نشر خبر وفاة الفنان فلان الفلاني أو الفنانة فلانة هانم ستجد سباق غير عادي من الصحافة التي تتزاحم في كل مكان، تقوم بتصوير مباشر كل من هب ودب من قلب الحدث، ولا تترك فرصة لأهل المتوفي لاظهار حزنهم ، المهم السبق الصحفي في الحصول على أكبر قدر من الصور.
تجد عناوين تنشر في الجرائد والمجلات الإلكترونية مثل : تابع دموع ترتانة هانم و انهيار فلان بيه، شاهد ماذا قال ابن المتوفي لفلان وكيف قام بواجب العزاء الفنان إياه، تلك كانت ترتدي الحجاب، الفيديو العجيب لهذه وهى مريضة أثناء صلاة الجنازة، بل هناك من تخلى عن حيائه وقام بتصوير السيدات أثناء سجودهم في الصلاة .. الرحمة من عندك يارب .
للموت حرمة لم يعد أحد يحترمها، كمية الصحفيين والناس اللي بتصور بالكاميرا أو التليفون غير عادية!
إيه الخبر الفذ في أن علانة هانم انهارت وفلان شارك في العزا اللي هو أصلا واجب .
هناك موسوعة قياسية عن كم الفيديوهات اللايف من أمام المستشفى الموجود بها المتوفي من ساعة إعلان الوفاة كل فيديو له عنوان غير مسبوق: انهيار أسرته و إلقاء النظرة الأخيرة، وكله من أجل نسب المشاهدة بالقناة الخاصة بهم الحصول على سبق وهمي .
هل هذه صحافة؟، ما هى استفادة القارئ العادي من تلك المعلومات الفذة؟، من الذي دفع الصحافة إلى الاهتمام بنشر صور الجنازة والعزاء؟، المحزن أيضا أن الأمر لم يتوقف عند الصحفيين فقط بل امتد للجمهور الذي يتدافع وسط الجنازة دون مراعاة أحزان أقاربه أو أصدقائه رافعين تليفوناتهم المحمولة للتصوير للحصول على صور حصرية، و بعضهم يتدافع عند المسجد من أجل أن يتصور (سيلفي) مع المشاهير دون مراعاة لحرمة الموت ولا لخصوصية اللحظة .
لم يقتصر الأمر على المشاهير، بل ظهرت عادات غربية استحدثها الناس في العزاء مثل تصوير فيديو يركز على الدموع والأحضان بغض النظر إن كانت من القلب ولا مجاملة، بعض المجلات النسائية تتناول عناوين مثل: (مكياج العزاء، ماذا ترتدين للعزاء؟) وغيرها من الموضوعات .
لمصلحة من هذا الكم الهائل من الكاميرات والأجهزة المحمولة وملاحقة النجوم للحصول على تصريح يعبر عن مشاعرهم الحزينة والتصوير بشكل مباشر ووضع عناوين حارة مثل: (إنهاء خلاف بين سين وصاد في عزاء المرحوم، أو الأزمة بين علانة وترتانة، وملاحقة التريند بإظهار دموع عائلته، وتصوير النعش، ما الفائدة في تصوير الجثمان لحظة خروجه من المستشفى ولحظة نزول القبر).
التصوير لن يعبر عن كم الاحتياج لوجود من فقد مرة أخرى، عناوين الصحف لن تواسي أهل المتوفي، مكياج العزاء لن يعبر عن أمنيات أن يعود للحياة، معاذ الله أن يكون ذلك اعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى، لكنه تعبير عن حزن .
الحزن أيضا له حرمة، ألا وهى احترام مشاعر أهل المتوفي وأصدقائه، نترك لهم مساحة خاصة للتعبير عن مصيبتهم . الموت ابتلاء و مصيبة لأنه ابتلاء بالأنفس قال الله تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)، حكمة الله عز وجل الصبر على قضائه و الرضا به، وهذا لا علاقة له بالتصوير أو بأخبار الصحف، ولكن له علاقة بالقلوب ودرجة احتمالها وتقبل قضاء الله و الصبر على الفراق، كيف سيتم ذلك وسط هذا الحشد والملاحقة ؟
لحظة الموت والدفن والعزاء خاصة جدا للأسرة والأقارب والمقربين من الأصدقاء حتى لو كان المتوفي شخصية عامة.
ارتقوا يا سادة !!!.