بقلم الإعلامية الكبيرة : هدى العجيمي
عندما تطفو الذكريات ويظل بريقها يدور في مخيلتي لفترات طويلة ويلح علي عقلي وقلمي كي أدونها قبل أن تنمحي من الذاكرة لا يهم ساعتها ماهو تاريخ تلك الذكريات وما إذا كانت قديمة أو حديثة نوعا ما، وأن تلح على منذ أن بدأت الكتابة في هذا الباب ذكريات الأعمال الإذاعية وأسماء الضيوف الذين قابلتهم لإنجاز هذه الأعمال ومعظمهم كانوا من النجوم التي سطعت في تاريخ الوطن وتركت بصمة مؤثرة في نسيجه.
كنت أقدم برنامج إذاعيا بعنوان (عمل قدمني الي الجمهور)، وكان يعده شاعر كبير هو (محسن الخياط)، ومن ضمن حلقات البرنامج كانت حلقة مع الأديب الكبير (يوسف السباعي)، وعندما سألته السؤال التقليدي الذي يتعلق بموضوع البرنامج وهو ماهو العمل الروائي الذي عرفك الجمهور من خلاله وحقق شهرتك؟، بالطبع عندما كنت أسأل هذا السؤال في كل حلقة أكون في نفس الوقت قد درست شخصية الضيف وقرأت أعماله الإبداعية سواء روايات أو قصص أو أشعار، وفي حالة هذه الحلقة كنت أعرف معظم مؤلفات الأستاذ يوسف السباعي وأهمها طبعا هى رواية (رد قلبي) التي كتبت بعد ثورة يوليو، وكتبها الأديب عن صدق لأنه عايش تلك الفترة وكان قريبا من ثوار يوليو فكانت هذه القصة هى التي خطرت على بالي عند الاستعداد لتسجيل حلقة (عمل قدمني للجمهور) مع يوسف السباعي.
ولكنني فوجئت بإجابته تحول مجري الحلقة إلى شيء آخر، فقد قال يوسف السباعي إن العمل الذي عرفه الجمهور عن طريقه هما عملان وليس واحدا (أرض النفاق، والسقا مات)، وهنا أسهب يوسف السباعي في تقديم أسباب شهرة تلك الأعمال وقربها من ذائقة الجمهور مثل (أرض النفاق) التي فضحت الأمراض الاجتماعية التي تصاب بها المجتمعات والفساد الذي ينشأ فيها ويستدعى أسلوب النفاق الذي سلكه البطل في الرواية بعد أن تناول أقراصا تعلمه النفاق، وهى فانتازيا شاهدناها في فيلم كوميدي، برع فيه الفنان الكوميديان الكبير فؤاد المهندس وأضحكنا على سلبيات المجتمع.
وكان الأديب الكبير يوسف السباعي قد تقلد مناصب كثيرة في الدولة مثل الكتابة في الصحافة والمجلس الأعلي للثقافة ورئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير صحيفة الأهرام، وكان أيضا وزيرا للثقافة والإعلام أحيانا وأحيانا أخري وزيرا للثقافة فقط، وهو كان في كل هذه المناصب الإنسان الفاضل الرقيق المتواضع الاجتماعي المشارك في كل الفعاليات الثقافية ولم تغيره المناصب أبدا.
على هذا فهو لم يرفض لي أي طلب للتسجيل معه في أي برنامج رغم أني كنت مذيعة صغيرة لم تشتهر برامجي كلها بعد، وأذكر حادثتين في مسيرة تسجيلاتى معه، الأولي أنني وأنا فى مكتبه بوزار ة الثقافة دخل إلى مكتبه الأديب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي الذي لم أكن قد شاهدته أو تعرفت عليه من قبل، فما كان من يوسف السباعي إلا أن عرفه بي كإذاعية صاحبة البرامج الناجحة وأوصاه أن يسجل معي حلقة من برامجي، وهكذا اكتسبت ضيفا كبيرا جديدا وحلقة لم أكن استعد لها مع أديب عظيم.
الحادثة الأخرى أنه أثناء الحديث معي في ميكروفون الإذاعة وفي مكتبه جاءه اتصال تلفوني اعتذر لي على أثره عن تكملة اللقاء وطلب تأجيل التسجيل، وعرفت أنه جاءه استدعاء من رئاسة الجمهورية للذهاب إلى المطار لمشاركة الرئيس في استقبال أحد رؤساء الدول مع كل الوزراء والمسؤولين، ولهذا استجاب الوزير يوسف السباعي وغادر الوزارة إلى المطار وعدت أنا وجهاز التسجيل الإذاعي إلى مكتبي في ماسبيرو.
ولم تمض أكثر من ساعة حتى تلقيت اتصالا هاتفيا من وزارة الثقافة، وكان من الوزير شخصيا، قال لي هل ممكن أن نستانف تسجيل الحلقة الآن؟، طبعا سعدت جدا وتوجهت إلى مكتب الوزير الذي شرح لي ما حدث، إذ انه غادر الوزارة ليتجه الي المطار ولكنه فوجئ بتوقف حركة السير والمركبات نظرا لزحام شارع رمسيس في ذلك الوقت مما أضاع عليه وقت وصول الضيف والوصول للمطار فقرر العودة إلى مكتبه وقال لي بالحرف (عدت لاستكمال التسجيل الإذاعي معك أفضل!، ثم أردف بمقولته المشهورة بأنه لابد أن يكون لكل وزير (دوبلير) يقوم بأعمال اجتماعية أخري غير تسيير أمور الوزارة! ويترك الوزير لعمله الأصلي.