بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
فى ستينيات القرن الماضى ، و مع تنامى حركة التحرر الوطنى ، و إعادة طرح أسئلة الهوية ، ظهرت دعوات إلى إيجاد مسرح عربى ، أو صيغة عربية للمسرح، و كان من السابقين فى هذا المجال الكاتب الكبير توفيق الحكيم فى كتابه (قالبنا المسرحى)، و كذلك دعوة الكاتب الكبير يوسف إدريس لمسرح عربى التى حاول تطبيقها فى مسرحيته (الفرافير) . واكب هذا ظهور دراسات عدة تبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة حول هل عرف العرب المسرح ؟ و على أى صورة عرفوه ؟ و إذا لم يعرفوه فلماذا ؟ و هل بالضرورة أن يكون المسرح على الطريقة الغربية أو الأرسطية؟، خاصة بعد انتشار موجات من كسر القيود الأرسطية فى مسرح (بريشت) و مسرح العبث و غيرهما من موجات المسرح الحديث .
و مع هزيمة عام 1967 عادت الأسئلة بشكل حاد و عاصف : من نحن ؟ و من نكون؟ و ما هو موقعنا فى الثقافة العالمية ؟ ، هل نظل مستهلكين لها فقط ؟ و من تمردنا على الغرب الذى خذلنا فى حربنا بدأت دعوات للبحث عن إجابة لسؤال : هل ما انتجه الغرب هو القاعدة و المقياس لكل شيئ فى الثقافة و الفنون؟
و أطاحت مسرحية ( ليلة سمر من أجل 5 حزيران ) للكاتب الكبير سعد الله ونوس بكثير من القواعد و الثوابت ، و بعدها انطلقت دعوات متضاربة بعضها للعودة للتراث العربى و البعض الآخر أغرق فى الرمزية و انتحل من مسرح العبث سماته ، إلا أنه فى السبعينات و أوائل الثمانينات سادت موجة البحث عن صيغة عربية للمسرح من خلال التراث سواء باستلهام روحه أو باللجوء إلى قصصه و مروياته ، لكنها اجتمعت على محاولة الاعتماد على تقاليد الفرجة العربية .
و شاهدنا تجارب عدة لمخرجين كبار على امتداد العالم العربى ، فعلى سبيل المثال لا الحصر كانت تجارب قاسم محمد فى العراق ، و الطيب الصديقى فى المغرب ، و سمير العصفورى فى مصر و المنصف السويسى فى تونس ، اعتمادا على نصوص لكتاب آمنوا بالسير الشعبية و القصص التراثية و صاغوا منها أعمالا خلدت أسماءهم، و فى مصر تفوق كثيرين فى هذا المجال منهم الكتاب الكبار نجيب سرور و محمود دياب و يسرى الجندى و شوقى عبد الحكيم و أبو العلا السلامونى ، كل بطريقته و أسلوبه .
و ظهرت أيضا تنظيرات كثيرة مثل الاحتفالية أو المسرح الاحتفالى التى ابتدعه الكاتب المغربى الكبيرعبد الكريم برشيد ، و مسرح السرادق ، و السامر الشعبى ، و مسرح الجرن ، و كعادة العرب بدأت الحروب حول المصطلحات و هل هو مسرح شعبى أم فرجة شعبية؟، و هل هو التراث فى المسرح أم المسرح التراثى أم التراث على المسرح ؟، و هل هو أسلوب أم شكل أم مضمون ؟ و صارت حربا حتى مل منها محاربوها ، و سرعان ما تجاوز أصحاب التجارب الرائدة تلك المرحلة و انتقلوا إلى مراحل فنية أخرى ، إلا واحدا ظل ثابتا على موقفه يعمل فى صمت و يصر على منهجه برغم التجاهل ، إنه المخرج الكبير (عبد الرحمن الشافعى)، لم يتخيل أحد أن فنانا بدأ حياته الفنية عضوا بفرقة المسرح العالمى – التابعة لمسرح التليفزيون – تتغير مسيرته و يتحول إلى درويش من دراويش المسرح الشعبى، ثم يصير شيخ الدراويش بمجرد انتدابه عام 1968 ليعمل مخرجا بالثقافة الجماهيرية ، فتتغير مسيرته بالكامل ، ثم يتأكد ذلك التغيير بتعيينه أول مدير لمسرح السامر 1971 .
أتى إحساسى بتجاهل مجهودات ذلك الفنان ، عندما سافرت فى الثمانينات إلى عدة مهرجانات عربية و شاهدت عروضا كثيرة تسعى لتحقيق المسرح الشعبى و غيرها من التجارب التى تسعى لخلق مسرح عربى ، فلقد رأيت الاحتفاء النقدى العربى بل و المصرى بأصحاب هذه العروض أضعاف ما يحدث معه ، فعدت لأكتب مقالا أفسح له الناقد الكبير أحمد عبد الحميد مكانا له على صفحات جريدة الجمهورية ، ذكرت فيه أننى بعد أن شاهدت عدة عروض من المسرح الاحتفالى و غيره من التجارب فإننى أستطيع أن أؤكد أن ما يقدمه المخرج عبد الرحمن الشافعى هو جوهر الاحتفالية، و أن مسرحه حقق معادلة استخدام التراث فى خلق فرجة شعبية ، و هكذا جمع بين الشكل و المضمون مستفيدا من تقاليد مسرح السامر بمفهومه الفنى و الجغرافى ، وأنه من باب أولى بدلا من احتفائنا بتجارب الغير أن ننظر بعمق لتجارب مبدعينا ، و انه من الواجب أن تصاحب عروض الشافعى حركة نقدية تستخلص قواعدها و تحتفى بصانعها . و لكننا فى مصر للأسف لا ننظر لتجارب مسرح الأقليم بما يليق من التقدير و لا يصاحبها التنظير الذى يكشف عمق تفردها و تميزها .
و برغم الشهرة التى أصابت عمنا الشافعى و خاصة بعد عرض ( عاشق المداحين ) عن الفنان الكبير (زكريا الحجاوى) الذى افتتح به مسرح السامر بعد تجديده و فى حضور الرئيس انور السادات ، إلا أن هذه الشهرة كانت أقل من حقه ، و أصغر من حجم ما أضافه للمسرح الشعبى ، أو لنقل المسرح المعتمد على تقاليد الفرجة الشعبية ( حتى لا يغضب السادة النقاد ) ، و لكن الشافعى لم يكتف بهذا النجاح فى مجال المسرح بل سعى و نجح فى الوقوف حارسا صلبا ، لحماية تراثنا و المحافظة عليه ، فأشرف على فرقة النيل للآلات الشعبية مستكملا ما بدأه أستاذه زكريا الحجاوى وبعده الموسيقار الكبير سليمان جميل ، فأخرج عروضها التى قدمت فى معظم دول العالم شرقا و غربا و حصلت فى عهده على كثير من الجوائز ، كما رأس الأمانة العامة لأطلس الفولكلور التابع للثقافة الجماهيرية ، و أنشأ فرقا عديدة مسرحية و فرق فنون شعبية كما أقام أول مهرجان للتحطيب .
لقد آمن الشافعى أن المسرح للناس فانتقل بعروضه للقرى و النجوع و قدمها فى مسارح و فى سرادقات أو خيمة سيرك أو أماكن أثرية كوكالة الغورى أو حتى فى الشوارع ، و اعتمد فى معظم تلك العروض على الفنانيين التلقائيين كعازفين و كرواة و مؤديين ، و تناول سيرا شعبية و موضوعات من التراث من أجل تعميق الإحساس بالهوية ، و برغم كل الجوائز و التكريمات و الأوسمة و الأنواط فمازلت أومن انه يستحق أكثر من هذا ، و برغم الدراسات و المقالات التى كتبت عنه أعتقد أنه من الواجب أن تفرد صفحات أكثر للحديث عن تجربته الثرية رحمه الله وغفر له.