أنغام .. فتح جديد في عالم الكلمة بأغنية (لوحة باهتة)، لكن لم يستوعبه لحنيا تامر عاشور !
كتب : أحمد السماحي
على الرغم من التطور الكبير الذي حدث في أغنية العالم شكلا ومضمونا بحيث أصبحت تشبه العصر الذي نعيشه، أغنية يمكن أن يستمتع بها الانسان دون أن يصاب بعطب عاطفي أو تشغله بالتفكير في الحياة على أنها شيئ ردئ غير مستحب، أغنية تتناول الحياة بحب شديد وأمل، أغنية تتحدث عن علاقة الانسان بالأرض بالأشياء التى تنبض حوله بالشارع والطرقات وبقضايا الإنسان المعاصر، ومع ذلك فلا تزال الأغنية المصرية تسترخي في اطمئنان تام في طريق الكسل والميوعة والدلع تشيح بوجهها العجوز عن التطور الشاب فكر وروحا والذي يسود عالم الأغنية.
فأغنيتنا المصرية لا تزال أسيرة موضوعات ومفردات لا تتغير، وهى في النهاية مفروضة على أذن المستمع الذي لا يملك فرارا من مطاردتها له في حياته اليومية، حيث تحاصره في النهاية وتصيبه بأمراض عصرية منها الاسترخاء والسلبية والاستسلام، وهذا الوضع السيئ الذي تمر به الأغنية جعل الناس تنصرف عنها إلى أغاني (المهرجانات)، حيث وجدت فيها كلمات مختلفة حتى لو كانت هذه الكلمات ضارة بالصحة والوجدان والمجتمع!
فالحقيقة أنه منذ فترة والأغنية المصرية تدور في فلك كلمات معينة لا تخرج عنها يتناقلها الشعراء من بعضهم مع تغييرات طفيفة أو كبيرة حسب رؤية وخبرة وثقافة كل شاعر، وكل فترة تظهر موضة في الكلام تجدها سرعان ما تنتشر على ألسنة حناجر معظم المطربين، فمثلا موضة هذه الأيام (الدلع) فنجد (تعالى أدلعك، دلع وإتدلع، هتدلع، هدلعني) حتى أصبحت الأغنية (لا تسعد اللي قايلها، ولا اللي سامعها) كما كتب مبدعنا الكبير (بهاء الدين محمد).
لهذا طالبنا في كتابتنا أكثر من مرة بالعودة إلى المسرح الغنائي، والسينما الغنائية لفتح آفاق غنائية أوسع وأرحب من الأغنية العاطفية الفردية التى مازالت أغنياتنا تدور حولها منذ سنوات طويلة جدا، فكلام الأغاني لعب ومازال يلعب دورا كبيرا في تكوين وجدان الانسان العربي.
هذه المقدمة الطويلة أحببت في البداية أن أكتبها لأوضح أهمية أغنية جديدة طرحت منذ أيام قليلة بعنوان (لوحة باهتة) كلمات الشاعر المبدع نادر عبدالله، وألحان تامر عاشور، وتوزيع طارق مدكور، وغناء القيثارة (أنغام)، الأغنية فتح جديد في عالم الكلمة بداية من اسمها الذي لم يذكر من قبل في عالم الغناء، وأتحدى أن يذكر لي أحد أغنية قيلت من قبل بنفس الإسم!، مرورا بالمفردات الجديدة التى لم يتطرق إليها أحد، وصولا لموضوع الأغنية الذي هو عبارة عن لوحة تشكيلية مليئة بالألوان عن حالة عاطفية مليئة بالحب والعاطفة والرومانسية الواقعية.
الأغنية تحكي عن حالة فراق بين اثنين، لكن هذا الفراق ليس بسبب الأشياء المعتادة في دنيا الحب والهجر، وليس بسبب خيانة عاطفية، أو كلام حساد وعوازل، اوغيرها من أسباب الفراق، ولكن تخيلوا الفراق بسبب ايه؟! بسبب عدم التفاهم!، الله عليك يا (نادر، شفتوش يا ناس كده رقة!)، لهذا تصرخ البطلة بعد إحساسها بالضياع بسبب البعد والفراق: (واتفارقنا قال عشان مابنتفاهمش، عننا ما كنا اتفاهمنا من زمان، بس من اللي بينا كنا مانتحرمش).
المثير أن بطلتنا متيمة بحبيبها وتريد العودة بقوة والدليل أنها تقول له :(كنت ضهري ونفسي ضهري مايتقطمش، هو بالليل ينفع ان العين تنام، إلا لو لو يحضنها ويغطيها رمش).
لفت نظري أن (نادر عبدالله) لم يستغرق في الحالة وبطلة حكايته بتحكي وتقول:
عارف احنا طول فراقنا زي ايه
زي لوحة باهتة لونها مايترسمش
زي سطر في صفحة متشخبط عليه
مهما تقرا فيه تلاقيه مابيتفهمش
زي طفلين وقت لما بيغلطوا
بتلاقيهم خافوا يومها وعيطوا
زي حرفين مشبوكين واتفرطوا
زي طرفين مقطوعين مابنتلضمش
كان من السهل على (نادر) أن يستمر في الكتابة، ويكتب (زي كذا وكذا وكذا) هذه أبيات كثيرة، ولكنها وحفاظا على الرتم والإيقاع والبعد عن الملل اختصر الحالة، وقام بإنهاء الموضوع بعبقرية شديدة.
ترجم لحن المطرب والملحن (تامر عاشور) هذه الحالة العاطفية من خلال لحن عادي تقليدي بسيط لا يحمل أي إبهار من مقام (الكرد) الذي لا يحتوي (الربع تون) لهذا ظهرت الأغنية كـ (استيل) غربي، وأميز ما في اللحن أنه مقاس صوت (أنغام) متفصل عليها لا يزيد ولا يقل، وجاء توزيع (طارق مدكور) عاديا لا يحمل جنون (طارق مدكور)، فقام بعمل الـ (صولو بيانو) الفاصل بين الكوبليهات متواضع جدا، كما جاءت (اللزمة الموسيقية) التى ننتظرها عادية، وافتقد اللحن والتوزيع اللمسة الشرقية حتى يصل اللحن أكثر للجمهور، ويصلح لتقديمه أكثر على (الاستيدج) في الحفلات.
أما عن غناء (أنغام) يا سادة فماذا أقول عن مطربة خلقت للغناء؟!، وهى مع قلة قليلة من المطربيين لديهم جرأة ويحاولون كل فترة تأكيد أن (الأغاني الفردية لسه ممكنة)! فترجمت الحالة بفطرية وعذوبة شديدة، وكانت جريئة في المحافظة على عنوان الأغنية ولم تختر اسم أسهل أو أبسط تماشيا مع موضة (الخفة) المنتشرة في الأغاني هذه الفترة.
لو عدنا للحديث عن (نادر عبدالله) فهو واحد من قلة من الشعراء تعد على أصابع اليد الواحدة الذين أثروا تأثيرا قويا ومباشرا على الأغنية المصرية بل والعربية، وجاء مواكبا لعصره وإضافة حقيقية لأساطين الكلمة الذين مروا على الأغنية المصرية بداية من (بديع خيري، وبيرم التونسي، وأبوالسعود الأبياري، ومأمون الشناوي مرورا بمرسي جميل عزيز، وحسين السيد، وعبدالوهاب محمد، وعبدالرحمن الأبنودي وعبدالرحيم منصور وصولا لبهاء الدين محمد) وغيرهم.
إن ما يجعل لـ (نادر عبدالله) خصوصيته الشعرية واتساع جماهيريته ليس براعته اللفظية ولا روعة قوافية وتراكيبه، بل إنها بساطته واهتمامه بأن يكون كل عمل جديد له مختلف تماما عما سبق، لهذا يسهر ليال حتى يعثر على فكرة براقة لم يسبقه إليها أحد أو يضيف مفردة جديدة، و(نادر) مرتبط بوطنه وذائب فيه، ذلك كله ينبع من انتمائه إلى الشعب وإلى الأرض، وهو لا ينتمي إلى هذه الملايين وإلى هذه الأرض ارتباطا أعمى، إنه ارتباط المتألم المنزعج على حال الأغنية المصرية والعربية، العاشق لمهنته وفنه، لهذا تجده يتألم أن زملائه الشعراء لا يعملون للتغيير وتقديم الجديد، ولكن يعملون للبقاء فقط!
(لوحة باهتة) أغنية ستعيش طويلا، بسبب تفرد كلماتها، وموضوعها، وقريبا سنجد أصحابنا قليلي الموهبة اقتبسوا عنوان الأغنية، وكتبوا من وحيها (أنا وأنت لوحة مشخبطة) و(لوحة كاملة) و(أنا وأنت لوحة لوحدنا) وغيرها، وربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم!.