بقلم : محمد شمروخ
لم أتعجب من ظهور السيد جمال مبارك مرتين خلال الأيام الماضية بعد طول احتجاب، خاصة أن ظهوره الأول كان منتظرا ليقوم بعزاء والد صديقه في صديق والده، فهو أمر يمكن قبوله بل وتبريره والناس للناس وبالناس، كذلك لم يكن عجبي من بيانه الذي أثار ضجة إعلامية تلقفتها مشاتل الثرثرة الفيسبوكية لتصل بها إلى أبعد مدى حتى وصلت إلى حدود العبث وافتراض الوهم.
لكن العجب من أن جمال فيما يبدو، أنه لم يدرك بعد أنه هو شخصيا كان سببا في كل البلايا التى تعرض له والده الراحل (رحمه الله)، تلك البلايا التى انتهت به إلى المثول في قفص الاتهام ثم وضع رقم على بدلة زرقاء ارتداها كمذنب في أحد سجون مصر كأول حاكم مصري في العصر الحديث دخل السجن محكوما عليه في قضايا جنائية.. إنها تجربة في غاية من الألم!
لكن لن أناقش هذه القضايا، لا أحكام الإدانة ولا البراءة، فالمحاكمات التى تتم ضد شخصيات سياسية كبرى عقب أحداث صاخبة لهى قضايا لا يمكن وصف محاكماتها بالعادلة حتى ولو طابقت أحكامها الحقيقة!
لم أكن من المؤيدين للرئيس مبارك ولا بالمعارضين له، ولم أسر في مظاهرة ضده ولا ضد غيره، بل ولا أعتقد في براءة أساليب الضغط الجماهيرية للتغيير بمظاهرات أو ثورات.. يا أخى أنا حر.. فما حدث في 2011 وما بعدها لا أراه إلا مجالا للعب قوى سياسية بآمال الجماهير وآلامها واستثمارها لصالح اتجاهات كادت تودى بنا إلى قعر الجحيم.
ومن الآخر حتى أكون صريحا معكم، لا أرى في الثورات الشعبية ولا في المظاهرات ولا الاعتصامات إلا ترجمة لصراعات سياسية تدور في الأعماق، ما لا نراه فيها أكبر بكثير مما نراه، وما نفهمه منها أقل بكثير مما يجب أن نفهمه!.
لقد كان المطلوب بعد انفجار 25 يناير 2011 هو الانتقام من مبارك وتصفية الحساب معه ومع بعض رجاله أو المحسوبين عليه، لا أدعى حقا ولا باطلا، فكلا من الحق والباطل كتوأمين متشابهين فقدا الذاكرة وهما يجلسان الآن خارج غرفة المجادلات البيزنطية، انتظارا لتحديد موقفهما، فقد كان مطلوبا في نهاية صراعات يناير 2011 أن يذل هذا الرجل ويهان وتستمتع الجماهير الغاضبة بدخوله قفص الاتهام مع ابنيه ورموز عهده، لأسباب سوف تحتاج منا إلى مجلدات، لا مجرد مقالات على مواقع إليكترونية أو بوستات مطولة على صفحات فيسبوك!
ولا يهم الآن بخصوص سقوط مبارك ونهاية حكمه المأساوية التى جرت على البلاد من البلاء ما لا يمكن تجاهله، ما هى الأسباب، لكن الذي يهم من هو السبب؟!
والسبب أنت يا أستاذ جمال وكاذب من يخدعك ويفهمك أن البكاء على زمن أبيك مع الجملة الخالدة (ولا يوم من أيامك يا مبارك) هو تأييد لك أنت شخصيا كوريث للحكم، فإن ثورة 25 يناير لم تسقط مبارك، لكنها كانت فقط بمثابة اتخاذ إجراءات لتنفيذ السقوط.
وأنت معى في أن إثبات الوفاة رسميا لا يكون إلا بإصدار شهادة الوفاة للميت وتصريح دفنه، لكن هذين الإجراءين لا يمكن اعتبارهما وصفا للموت نفسه.
فلقد سقط مبارك يوم أن تقرر الارتقاء بجمال الابن ليركب على عرش مصر رئيسا بديلا عن أبيه ولو لم يسقطه ثوار يناير لأسقطه مؤيدو ولده جمال.. فقط الطريقة كانت ستختلف ما بين دخول السجن أو المكوث في قصر انتظارا للأجل المحتوم!
وكل المحيطين بمبارك كانوا يعلمون جيدا أن السيد جمال ومن ورائه شركاه في المخطط الذي اشتهر بالتوريث، قد نحوا أباه جانبا وبدأ جمال مبارك يحكم بالفعل، وكان هناك وزراء يتلقون الأوامر منه ويخطرونه بالتمام في نهاية يوم العمل، كما كانوا يستمدون قوتهم من علاقتهم بجمال بيه وليس أبو جمال بيه! كما استولى جمال بيه على مقاليد الحزب الوطنى وهو التنظيم السياسي الأقوى والمتحكم بالفعل في مفاصل البلاد بامتداد لم ينافسه فيه حزب آخر لأن الحزب كان هو الدولة والدولة كانت هى الحزب.
وكثيرون يقرون بأن هذا التوريث في بدايته كان يثير قلق مبارك نفسه ونحن جميعا نعرف لماذا كان يثير قلقه؟!
فمبارك رجل دولة تربى بين جنبات النظام الحاكم وشارك في القيادة عسكريا كقائد من قادة النصر العظيم في أكتوبر وسياسيا كنائب للرئيس، سبق له أن خاض حروبا ازدرد فيها مرارة الهزيمة في النكسة والتلذذ بحلاوة النصر في العبور ثم اقتحم مسالك السياسة تحت يد داهية من دهاة التاريخ المصري المعاصر يدعى أنور السادات!
وزامل مبارك كوادر سياسية وإدارية مدته بخبرة جعلته يستقر على كرسي الحكم طوال تلك المدة التى لم يسبقه إليها حاكم منذ مؤسسها محمد على باشا، أما الأستاذ جمال، فلم يعرف من الدولة إلا ما يحصل عليه من مزايا رسمية تقدم له كابن لرئيس الجمهورية من انتقالات مع سيارات سوداء لوحاتها تثير الرهبة أو سفريات بجوازات حمراء أو التمدد على شواطئ منتجعات مصايف ومشاتى الرئاسة في الداخل والخارج وأهم المظاهر التى يراها هى ابتسامات وانحناءات كبار وصغار رجال الدولة بمناسبة غير مناسبة.
فلم يمارس جمال السياسة ولا الإدارة إلا فجأة، وبعد ظهور مشروع التوريث الذي انتهى بأبيه هذه النهاية التراجيدية.
والحقيقة أنه لم يمهد لسقوط مبارك إلا جمال نفسه عندما حل رجاله محل رجال أبيه الذي استجاب للمؤثرات العمرية وبدأ ينزوى تحت وطأة الشيخوخة ولم يكن لوجوده أهمية سوى أنه لابد له من أن يقوم بنفسه بتسليم مقاليد السلطة لابنه في حياته وتحت ظل حكمه وهو في أوج قوته!
لكن بسبب ما فعله رجال جمال لم يعد هناك لا قوة ولا أوج!
أنت يا أستاذ جمال أول من أهان أبيك بإصرارك على ممارسة الحكم على حياة عينه واتخاذ قرارات مصيرية انتهت إلى ما انتهت إليه!
ولم تسأل نفسك: ما الذي يؤهلك لولاية حكم مصر غير أن أباك هو الرئيس؟!
لقد شاهدنا تجربتك السياسية كحاكم غير معلن وعاينا وعانينا منها ووجدنا فشلا ذريعا انتهى بسقوط أبيك وسقوط الحزب الوطنى الذي مازال فراغه حقيقة مقلقة تثير غيظ الأحزاب القديمة وحنق الجديدة، ولما سقط مبارك وحزبه كادت تسقط معهما الدولة جميعا لو ستر ربك.
لن أزايد عليك هنا وأتهمك بالفساد لا أنت ولا المرحوم والدك، فحتى تهمة الفساد أصبحت تهمة لا معنى لها ويمكن أن ينسبها أى شخص لأى شخصية في أى زمان ومكان، كما لا أؤمن بمن يكثرون من ترديدها، فما أيسر الاتهام وما أسهل الإدانة، فليس من المعقول أن أتهمك بالفساد أنت وأبيك وأخيك من أجل شيكارتين جبس و3 كيلو سيبداج وبستلة بوية في قضية عرفت بقضية قصور الرئاسة التى تمت إدانتكم فيها، فكما قلت لك في بداية المقال إن محاكمات السياسيين وزد معهم عائلاتهم وحلفاءهم، لن تكون عادلة ولو طابقت أحكامها الحقيقة.
ولا أريد كذلك أن ينزوى السيد جمال مبارك، فهذا شأنه وليس لى أن أطلب أو أطالب بذلك، لكن فقط أذكره بأن سابقة تجربته انتهت بأبيه وبالبلاد كلها إلى ما يثقل على القلب تذكاره وعلى اللسان تكراره واستدعاء وعرض آثاره!
فلتعتذر لأبيك قبل أن تطلب أن يرقد بسلام، فلولاك ما لاقى ذلك المصير حتى لو صدر حكم ببراءته من كل محاكم الدنيا من كل التهم التى ألصقت به!