كتب : محمد حبوشة
أثار مسلسل (كسر عضم) منذ بداية عرضه ردود فعل متباينة بسبب حساسية المواضيع التي يتناولها، مما حقق له نسب مشاهدة عالية خلال شهر رمضان المبارك، ربما لأنه شكل حالة خاصة في الدراما السورية مع بدء الموسم خلال أيام قليلة، إذ يغوص عميقا في ملف الحرب السورية وتداعيتها، راصدا دور أمراء الحرب فيها، كما يرفع السقف عاليا بالخوض في فساد النظام الحاكم، ولعل الجرأة في الطرح أدت إلى اعتذار عدد كبير من الفنانين السوريين، بينهم مقربون من النظام، عن عدم المشاركة في المسلسل الذي تعود من خلاله شركة (كلاكيت ميديا) إلى الدراما المعاصرة بعد سنوات من الانقطاع، منذ سلسلة (العراب – 2015 – 2016) التي عالجت بدورها ممارسات مافيوية رجال الدولة السورية في نخرها اقتصاديا وسياسيا، ثم اندلاع الأزمة في عام 2011.
المسلسل يضع يده على وجع كبير يتمثل بثغرات القانون في زمن الفوضى التي تمكن من هم (بلا ضمير) سواء من الكبار أو الصغار، ومن أصحاب القرار وغيرهم، من كسر عظام الشعب المسكين الذي لا يجد قوت يومه، فهو على حد قولها عمل مشاغب يتضمن النماذج السلبية إلى جانب الإيجابية، بخاصة من ناحية الشباب، وهو دراما معاصرة وحقيقية من الواقع الذي يعيشه الشعب السوري، تتناول وتناقش قضية هامة حدثت بالفعل داخل المجتمع، وذلك خلال زمن الحرب التي عاشتها سوريا، والمعاناة التي يعيشها الشعب، وما يتعرض له الشباب من خوض الحروب وموت الكثيرين منهم دفاعاً عن بلادهم.
وبحسب مخرجته (رشا شربتجي) فإن (الفائزين في الحرب هم الأمراء، أما الضعفاء فهم الذين يخسرون حياتهم ليعيش الآخرين في سلام)، فيما ألقت الأحداث بظلال كثيفة على حضور الأزمة الاقتصادية خلال السنوات العشر الأخيرة في العمل واستغلالها من قبل أمراء الحرب، فالمسلسل يحاكي الجانب القانوني أيضا، وكيف عمل البعض على استغلاله والتلاعب فيه، في ظل الفلتان الأمني، ومن ثم فإن (كسر عضم) يضع الفساد تحت المجهر، وهو من (تأليف علي معين صالح ومعالجة درامية رانيا الجبان وإخراج رشا شربتجي) حيث يركز على الواقعية التي تميزت بها الدراما السورية، فينطلق من نقاط عدة، من أبرزها مكتومو القيد، ليسير مركزا على سحق الطبقة الوسطى خلال الحرب الذي قسم الشعب إلى سواد أعظم من الفقراء، وشريحة صغرى من الأغنياء وحديثي النعمة.
أثار (كسر عظم) جدلا واسعا في الشارع السوري عند عرضه، على غرار أعمال سابقة كسلسلة (الولادة من الخاصرة)، التي أنتجها أيضا إياد النجار، والتي شكلت رأس حربة درامية في وجه النظام السوري، وسببت غضبه على الكثيرين من المشاركين به، كما جاء من قبل في (العراب، حاجز الصمت، غزلان في غابة الذئاب)، حيث يسلط (كسر عضم) الضوء على الواقع المر في سوريا عبر خطوط درامية متشابكة على شبكات الإتجار بالمخدرات وتصنيعها، وعن تورط ضباط في الجمارك في نقلها إلى بلدان في الخليج العربي، وذلك عبر مواجهة بين زعماء هذه الشبكات وضباط من الأمن السوري يتمكنون في النهاية من كشف الأيدي الخفية لتجارة ملايين من حبوب الكبتاغون المخدّرة.
ويتعرض المسلسل السوري الذي تمت عمليات تصويره في مدينة دمشق وريفها، إلى الفساد الجاري في الجامعة والقضاء السوريين، وذلك عبر قصة محام مرتش وأستاذ جامعي يقوم بتمرير أسئلة الامتحانات لطلابه، مقابل تعريفه إلى طالبات يتم استدراجهن إلى علاقات غرامية مع أستاذهن في حرم الجامعة، وبهذا اينتمي المسلسل إلى نمط ما يسمى بـ (الدراما الصفراء) التي ترتكز على الفضائح الاجتماعية، وتقديم المكان السوري على أنه مكان منقبض وخطير ودموي، وهذا من خلال المعالجة الفنية التي تسعى إلى تصوير شرائح معينة من المدن والبلدات السورية من دون سواها، وتكريس صورة سلبية عن الطبقة الوسطى، وتنميط الصراع بين فقراء وأغنياء بغية تحقيق أكبر قدر من الإثارة والتشويق على مدار ثلاثين حلقة.
ودرجت هذه الأعمال منذ بزوغ أعمال تلفزيونية سورية في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، من مثل (غزلان في غابة الذئاب، حاجز الصمت، شتاء ساخن، الخبز الحرام، لعنة الطين) وصولا إلى مسلسلات (الولادة من الخاصرة، ودقيقة صمت) وسواها من الأعمال السورية، التي يعيدها البعض إلى مسلسلات الجريمة، وفيه تم تناول جرائم قتل وسرقة واغتصاب من ملفات القضاء السوري، وتقديمها للمشاهدين كوسيلة استباقية تأديبية لمكافحة الجريمة، وفضح أفعال الجناة، ومن هنا يأتي (كسر عضم) في مقدمة الأعمال التلفزيونية السورية التي تكمل مسيرة العديد من المسلسلات الاجتماعية التي وظفت الواقع السوري لصالح جذب شرائح متنوعة من المشاهدين في العالم العربي، إلا أن بعض النقاد يحيلون هذه النوعية من الإنتاج بأنه من كتابة الرقابة السورية، فيما يصفها البعض الآخر بأنها مسلسلات كتبتها الاستخبارات، وتسعى من خلالها إلى التنفيس عن الجمهور، ومعالجة الاحتقان الحاصل في بلاد تفتقر إلى حرية وسائل التعبير، وتعاني من كم الأفواه، وسيطرة السلطة شبه المطلقة على مؤسسات الصحافة والإعلام، إضافة إلى التضييق على الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي عبر قانون الجريمة الإلكترونية الذي لا يزال يطاول العديد منهم في داخل البلاد.
والمثير للدهشة حقا في مسألة الجراة الجرامية السورية أن مسلسل (كسر عضم) تدور معظم أحداثه داخل مؤسسات رسمية يبدو أنها قامت بتقديم تسهيلات كبيرة لإنجاز المسلسل، والتقاط لحظة حساسة تشي برغبة بعض رجال في السلطة في الكشف عن بعض غيلان الثروة والنفوذ في سورية، وتقديم تبريرات لكف أيديهم عن العديد من المرافق الحيوية التي استفرد بها هؤلاء، فأثروا على حساب قوت الشعب ونيله للعيش الكريم، وهذا ما يجعل (كسر عضم) بمثابة محاكمة علنية لهؤلاء الفاسدين بأسماء مستعارة، والتمهيد دراميا لسياسات أكثر حزما في الحد من الهوة المرعبة التي أوجدتها الحرب بين فقراء سورية وأغنيائها.
عملت المخرجة رشا شربتجي على توفير بنية بصرية ملائمة لمسلسلها الجديد، بعد سنوات من انشغالها في أعمال البيئة الشامية والأعمال العربية المشتركة، وهى تضع توقيعها من جديد على عمل اجتماعي سوري نابع من وقائع يصفها البعض بأنها حقيقية، ولها إسقاطات مباشرة على بنية الفساد المتحالف مع تجار أعضاء بشرية ومخدرات وأسلحة، وسواها من أنشطة اقتصاد الحرب الرائجة منذ أكثر من عشر سنوات، لكن اللافت في (كسر عضم) هو اعتماده على جيل من الممثلين الشباب من مثل (كرم شعراني وخالد القيش وولاء عزام) الذي قدموا أداورا رائعة، وابتعاده نسبيا عن سلطة النجوم، وممثلي الصف الأول، وهذا ما يحسب لصاحبة (تخت شرقي) التي تبدو اليوم في مقدمة المخرجات العربيات اللاتي ثبتن أقدامهن في المشهد الدرامي العربي بعد سنوات من العمل كمساعدة مخرج مع أبيها المخرج المعروف هشام شربتجي.
وتبدو لي تبدو البصمة الخاصة لمخرجة (كسر عضم) في تقديم ملخصات بصرية خاطفة وأنيقة لأحداث عملها، وما يشبه الفوتومونتاج الخاص بكل حلقة من المسلسل، مع الإبقاء على صوت الراوي الداخلي، وقد جاء كتعليق على معظم الحلقات التي تم بثها في أسلوب يقارب الشاهد على الحدث، وتكنيك أخذ أبعادا ملحمية في مقاربة أحداث المسلسل الذي فاجأ جمهوره منذ الحلقات الأولى بانتحار شخصية الضابط الشاب ريان (سامر إسماعيل)، وذلك بعد اكتشافه فساد أبيه الضابط الكبير في جهاز الجمارك، وضلوعه في عملية تفجير سيارة مفخخة بموكب أحد الضباط الكبار للتورية والتمويه على تمرير بضائع ممنوعة إلى داخل الحدود السورية، الأمر الذي أثار ردودا متباينة على مواقع التواصل الاجتماعي، لاسيما مشهد وداع الأب الفاسد لابنه الغارق في دمائه، وما تخلل هذا المشهد من أداء نوعي لكل من الممثلين (فايز قزق وسامر إسماعيل)، مما اعتبره البعض بمثابة عقاب إلهي لشخصيات متسلطة ينتظر السوريون بلا طائل مثولها أمام العدالة، وليس فقط على شاشة التلفزيون.
نعم عقاب إلهي!، فلا يمكن أن تتخيل شخصية لمسؤول فاسد بمستوى شخصية (الحكم) التي أداها فايز قزق ببراعة مطلقة، إنها شخصية الشرير الكامل المطلق، الذي إن بالغ خبراء المكياج وصمموا له أنيابا تظهر من فمه، فلن يكون ذلك مخالفا للرؤية الدرامية للشخصية، يقتل ويعلن ضرورة القتل في مسيرة النجاح، يسرق ويقر بأن المال المسروق أساس التفوق، يظلم أبناءه وزوجاته والعاملين لديه، وغير العاملين لديه، يسكر ويضرب ويثير الفوضى، إنه شرير بطريقة التدخين وشرب (الويسكي)، بالنظرة والصوت والجلوس والقيام، لا تحتمل شخصيته أن يتصرف أي تصرف غير إجرامي، لعله يعضّ يده وهو نائم حتى يدميها بلا شك.
على أية حال يستمد المسلسل قوته من ظهوره كاسرا محظورات السياسة، وكاشفا للحقائق المكتومة في المجتمع السوري، وهو أيضا تصور يبدو منقوصا بعض الشيئ في أن قضايا الفساد سلعة رائجة إلى حد الملل في الدراما السورية، هذا إذا لم نقل إن المسلسل متصالح بوضوح مع أدبيات النظام السوري، ستجد ثلاثة شبان (موال ورمادي ومعارض) يعيشون متحابين في بيت واحد، ببنما يراها البعض هشة للشخصيات، وتعابير مباشرة ساذجة، لكني أراها واقعية جدا، بدليل أنك ستجد خطابا سياسيا بلغة بريئة، يستهدف تركيا وتاريخها العثماني في احتلال البلاد ونهب خيراتها، ويمر في العمل ضباط فاسدون، يقابل كل واحد منهم ضابط شريف أو أكثر، من بين أولئك الضباط الشرفاء (الرائد مروان) الذي أدى شخصيته خالد القيش بحرفية عالية، والذي يتحدّث عن أهمية تطبيق (روح القانون).
وقد لاحظت من خلال شغفي الكبير في المتابعة للحلقات بوجود أكثر من (ماستر سين) إلا أنني أتوقف أمام مشهد رمزي في بداية الحلقة (28)، حيث يقرر (الحكم) أن يواجه زوجتيه (عبلة وأم ريان) فيذهب إليهما في بيت (عبلة) والغضب يعلو وجهه ويطرق الباب فتفتح له عبلة ويدخل في عصبية شديدة وكأن شياطين الأرض كلها تركب رأسه، قائلا بصوت عال : وينها أم ريان ؟
يقف (أبو ريان/ فايز قزق) في وسط البيت حيث تظهر أم ريان : شو يا (أم ريان/ نادين خوري) .. شو يا بنت الحسب والنسب .. رضيانة بعد كل هالعمر تقعدي في هيك بيت؟ .. رضيانة بعد كل هالعمر تقعدي مع .. (ثم ينظر إلى عبلة) واحدة كانت مصاحبة على جوزها وجبرتني إني أطلقها وتتزوج الرجال اللي كانت مصاحبته؟ .. وأديك التانية وينها .. التانية وينها؟ .. وينها اللي ناشرة عرضها وشرفها على الطرقات لكل عابر سبيل يشتري ويتبضع؟ .. هيك بيت بيليق فيك يا أم ريان؟
عندئذ تتدخل عبلة قائلة : احترم حالك أحسن ما أجيب أصغر مرافق عندي يقصلك لسانك .. أنا اتجوزت على سنة الله ورسوله .. اتجوزت من الرجال اللي خلصني منك ومن قرفك .. انت ما كان صوت نفسك ما بحب اسمعه .. وانت من قلة كرامتك كنت مصر تخليني عندك .. لحد ما جاء الله يرحمه وطلقني منك .. والبنت اللي عم تحكي عن شرفها كانت نازلة تدرس تأمن مستقبلها .. لحد ما بعت واحد من كلابك اصطادها وجابها عندك .. حرقتها وحرقت صحتها لشو؟ .. لكام ساعة تقضيها بمزاجك .. لك عين تحكي بالعيب .. انت والعيب خلقتوا بيوم واحد!.
أبو ريان : شو يا أم ريان .. شو بدي أقول للناس اللي عم يجيوا يعزونا في (ريان) .. عيزاهم يجيوا ع هالبيت البيت يعزوكي؟.
أم ريان : لاكان ياخدو بخاطري في بيت من قتل لي ابني.
أبو ريان يشد يد أم ريان قائلا : عيب عليك.
تسحبه عبلة من يده بقوة قائلة : نزل ايدك أحسن ما أكسرلك اياها.
في تلك اللحظة يدخل الرائد مروان/ خالد القيش : هاي هاي .. شو حالك؟
أبو ريان يسأل عبلة : عشيق جديد ولا بودي جارد؟
الرائد مروان : لا أنا الرئد مروان الحافظ.
أبو ريان : وشو المطلوب .. إذا فيه شيئ بدي أساعدك فيه اقول؟ .. مو شان شيئ .. إكراما لخالك لا أكتر ولا أقل.
الرائد مروان : أنا مو بحاجة مساعدة من حدا .. بس اللي باعرفه ان ابن الأصول ما يرضى على حاله يتهجم على بيت فيه 3 نسوان.
أبو ريان : شو يا سمية بدك ترجعي على بيتك ولا لأ؟
ترد أم ريان والدموع في عينيها : لأ!!
أبو ريان : معناها استني ورقة طلاقك .. أنا ما بيناسبني زوجة قاعدة في هيك بيت.. عندئذ ينتهي المشهد موضحا نهاية الخطوط الدرامية بسقوط (الحكم أبو ريان) في أيدي العدالة مع خط النهاية المفتوحة، والتي تشير إلى جزء ثاني من هذا المسلسل الكاشف لما يجري خلف أسوار الحرب السورية الحالية.