بقلم الناقدة الفنية الكبيرة : ماجدة خيرالله
السينما ليست وسيلة تسلية ومتعة فقط ولكنها أصبحت أهم وسيلة توثيق للزمان والمكان، آلة السينما التى اخترعها (الإخوة لوميير) فى عام 1895 تحولت إلى واحدة من أخطر منجزات القرن التاسع عشر، كاميرا السينما سجلت بعض معارك الحرب العالمية الأولى والثانية، وغيرها من الأحداث التاريخية والثورات فى أمريكا اللاتينية ومناطق ملتهبة الأحداث من الشرق والغرب، وعندما تم استخدام كاميرا السينما لعمل أفلام تروي حكايات عن طريق استخدام العناصر المختلفة بداية من السيناريو والتصوير والتمثيل والديكور والمونتاج إلخ، أصبحت السينما من أهم وسائل المتعة والترفيه والتوثيق.
وكانت مصر من أهم البلدان التى عرفت صناعة السينما منذ مايزيد عن مائة وعشرين عاما، وإذا تابعت بعض الأفلام خلال سنوات إنتاج مختلفة فيمكن أن تدرك كم الاختلاف الذي طرأ على شوارع القاهرة ومبانيها ووسائل المواصلات وحتى حركة الناس وسلوكهم، فرق ضخم بين شكل الشارع من سبعين عاما كما ظهر فى فيلم (سى عمر) مثلا، الذى لعب بطولته نجيب الريحانى، وأخرجه نيازى مصطفى فى واحد من أهم مشاهد الفيلم يحمل البطل حقيبة تحمل مبلغا ضخما من المال المفترض أنه أمانة، ونظرا لحالة الرعب من فقدان المبلغ لأى سبب يشعر البطل (نجيب الريحاني) أنه محاصر باللصوص من كل جانب، وإذا بعدد ضخم من راكبى الدراجات يتجهون نحوه بسرعة رهيبة مما يضطره للجرى بكل ما أوتى من قوة وهو يحمل حقيبه النقود تحت إبطه ويلوذ بالفرار ظنا منه أن أحد راكبى الدراجات سوف يخطفها، ولكنه بعد فترة يتبين أن هذه المجموعة من راكبى الدراجات هم ضمن فريق رياضى يتسابق!.
أما الشارع فكان يكاد يخلو من الزحام حيث كان تعداد أهل القاهرة لايزيد عن عدة مئات من الآلاف ومصر كلها من شمالها لجنوبها لايزيد تعددادها عن عشرين مليون نسمة، وسيلة المواصلات الأساسيه كانت الترام الذى يقطع معظم شوارع القاهرة مع وجود عدد ضئيل جدا من سيارات الأجرة والسيارات الخاصة، وسط كل هذا ممكن أن تلحظ وجود العربات الكارو التى يجرها الخيول أو الحمير وتحمل بعض المواطنين كوسيلة شعبية للتنقل، ومع وجود أجانب من كل الأجناس يرتدون القبعات ويسيرون فى الشوارع أو يركبون سياراتهم ممكن أن تجد قليل من المواطنين يرتدون الجلباب التقليدى الذى يمييز أبناء الطبقات الشعبية، خليط غير متجانس من البشر ولكن بلاضجيج ولانفور، معظم البنايات التى تصطف على الجانبين لايزيد أطوالها عن ست طوابق ومعظمها على الطراز الأوروبى، لم تكن القاهرة تعرف العشوائيات ولا الزحام القاتل الذى ظهر بعد ذلك بالتدريج، أما المحال التجاريه فمعظمها كان يحمل أسماء أجنية (هانو شيكوريل، بنزيون، عدس، بوابجيان) إلخ.
مع بدايه الستينيات ربما اختلف الأمربشكل ملحوظ فى فيلم صغيرة على الحب فقد ظهر لأول مبنى الإذاعه والتليفزيون فى ماسبيرو، هذا المبنى الذى كان وجوده بداية لعصر جديد سيطر فيه الإعلام المصرى على وجدان وأفكار شعوب الوطن العربى جميعا، تم افتتاح المبنى فى عام 1961 وبدأ الإرسال بقناة واحدة فى زمن الوزير عبد القادر حاتم، وتم تصوير فيلم (صغيرة ع الحب) داخل أروقة المبنى قبل أن يتضخم ويصبح له امتداد وتزداد طوابقه لتزيد عن 25 طابقا، ويصبح من أهم معالم القاهرة، ونفس الحكاية مع فيلم (موعد فى البرج)، إنتاج 1962 وهو آخر فيلم للمخرج عز الدين ذو الفقار، بطولة (سعاد حسنى وصلاح ذو الفقار)، وهو احتفاء سينمائى ببرج القاهرة الذى احتل مكانة وموقعا مميزا على نيل القاهرة، وتم بنائه فى عصر جمال عبد الناصر.
وتم تقديم أحداث سينمائيه تصور فى البرج من خلال عدة أفلام منها (فجر يوم جديد) للمخرج يوسف شاهين، ومن فوق برج الجزيرة على رأى المطرب الراحل عبد اللطيف التلبانى الذى كان أول مطرب يغنى لبرج ويتغزل فى محاسنه، كانت كاميرا مصورى السينما تتفقد معالم القاهره من أعلى منطقة فى البرج الذى كان تحفه معمارية وقئذ، وفى نفس المرحلة الزمنيه 1961 تم إنتاج فيلم (يوم من عمرى)، بطوله (عبد الحليم حافظ وزبيدة ثروت)، وإخراج عاطف سالم، وتدور بعض مشاهد الفيلم فى منطقه وسط البلد وبشكل خاص أمام دار القضاء العالى، حيث يلتقى البطل بفتاته فى كافيتريا شهيرة قريبه جدا من سينما (ريفولى)، ويهتم مدير التصوير عبد الحليم نصربتصوير معالم المنطقة ويمكن أن نتابع من خلال الكافيتريا (الأمريكين)، وكان أكبر مطعم يميز هذه المنطقة فى ميدان الإسعاف، حيث تمر بعض أوتوبيسات النقل العام وقد وضح ازدحام نسبى للشوارع، ولكن كان المستوى العام للمشاة من المصريين فوق الطبقة المتوسطة بينما يكاد يختفى الأجانب من مرتدى القبعات!
بعد هجرة معظمهم من مصر بعد قيام ثوره 23 يوليو وحركة التأميمات التى استهدفت الأثرياء من أبناء الجاليات الإيطالية واليونانية والأرمن، كما نلاحظ أن مكاتب وعيادات الأسنان والعيون التى كانت تقع فى مبانى وسط البلد بدأت تختفى ويحل محلها عيادات ومحال ومكاتب محاميين مصريين، ولكن بعد عشرين عاما من هذا المشهد الذى سجلته كاميرا فيلم (يوم من عمرى)، وبالتحديد فى عام 1986، ومع أحداث فيلم (الحب فوق هضبة الهرم) للمخرج عاطف الطيب، كانت أحداث الفيلم تدور فى شركة قطاع عام مكتبها فى منطقة وسط البلد، حيث نلحظ زيادة الزحام وارتباك المرور بشكل واضح، حيث بطل الفيلم (أحمد زكي) يعمل فى شركة تابعة للدولة عمله أن يذهب للتوقيع فى الساعة فى الصباح ثم يترك الشركة ويخرج يتصعلك فى الشوارع حتى الساعه الثانية موعد انصراف الموظفين ثم يعود للتوقيع فى خانة الانصراف.
وهكذا تمر حياته حتى يتم تعيين موظفة جديدة هى (آثار الحكيم) التى تنزعج من استسلام الموظفين لهذا النظام القاتل الذى يفرض عليهم بطالة مقنعة، ولكنها مع الوقت تعتاد على ذلك وترتبط بزميلها (أحمد زكي) بصداقه ثم قصه حب، ويخرجان بعد التوقيع فى الساعة ويتجولان فى شوارع وسط البلد، حيث نصف موظفى الدولة يمضون ساعات العمل فى الشوارع يتجولون بلاهدف، وعندما تزداد العلاقة بين البطلين يقرران الزواج بدون موافقة الأهل نظرا لضيق ذات يد الشاب، وفى رحلة البحث عن مكان يمضيان فيه بعض الوقت ويمارسان حقهما كزوجين يبحثان عن لوكاندة متواضعه بين مبانى وعمارات منطقة وسط البلد، لنكتشف ان هناك فى تلك المنطقة عددا لابأس به من اللوكاندات المتواضعة معظمها يدار لأعمال منافية للآداب، أو يسكنها بعض الأجانب الذين يمرون على القاهرة مرورا عابرا نظرا لأنهم لايملكون المال الكافى للاقامة فى فنادق فاخره!.
يستعرض الفيلم الشارع المصرى وماطرأ عليه من تغيير ووجود عشرات من الباعة الجائلين يفترشون الأرصفه ويحتلون الطرقات لعرض بضائعهم ويتسببون فى حالة من الفوضى الملحوظة مع تزايد أعداد المتسولين وظهور وسيله مواصلات جديدة هى الميكروباص الذى يسبب هرجًاً يزيد فوضى وعشوائية الشارع المصرى، مما يجعل محاولة السير فى شوارع وسط البلد مغامره غير مأمونه!
عاطف الطيب، كان يمثل التيار الواقعى فى السينما المصرية، وكانت كاميرا أفلامه تحرص على رصد المتغيرات فى شكل وسلوك الناس والمبانى ووسائل المواصلات وبدأت أفلامه ترصد بدايه ظهور أصحاب اللحى والنساء المتدثرات بالسواد يملأن الطرقات والمواصلات العامة مع انتشار ظاهرة العنف والسرقات والخطف عن طريق الموتوسيكلات التى تهدد المارة!
ولكن فى السنوات الأخيره وخاصة بعد ثوره الخامس والعشرين من يناير 2011 أصبح التصوير فى شوارع القاهرة ضرب من المستحيل مع زيادة الرسوم المفروضة على صناع السينما بدرجة ترهق ميزانيات الأفلام بالإضافه لتعقيدات الحصول على تصريحات الأمن للتصوير فى الشوارع والأماكن العامة، فقرر منتجى الأفلام الاكتفاء بالتصوير داخل الكومبوندات والمناطق المغلقه المتشابهه التى لايمكن أن تكون بديلا عن شوارع القاهرة الطبيعية ويصعب معها بالطبع التعرف على تفاصيل المنطقة التى تدور فيها الأحداث.
إنها أفلام معلبه بلاروح تختفى فيها معالم المدينة وسكانها، ويصعب أن تتخذها وسيلة توثيقية ترصد المتغيرات الجذرية التى حدثت فى السنوات الأخيرة من اختفاء مناطق سكنية تماما (مربع ماسبيرو) وظهور بلوكات سكنية وأبراج بديلة ومولات تجارية فى منطقه بولاق وماحولها، وللأسف لم تعد السينما المصريه أداة متعة ولا حتى وسيله توثيق أو تثقيف، وربما يلجأ أصحاب الافلام والمخرجين للبحث عن مناطق بديله تمنحهم حرية الحركة والتصوير بلاقيود فى مدن مثل (دبى أو المغرب أو الرياض!).