بقلم الأديب الكبير : سامي فريد
تدور احداث هذه الحكايه منذ ما يربوا على 70 عام في مدينه صغيره شمال الجيزة ترقد بجوار النيل اسمها مدينه إمبابه.
كانت الساعه قد اقتربت من الثامنه والنصف صباحا عندما دق باب بيتنا الحديدي مدويا بدقات عنيفه فزعت لها والدتي فهبت مذعورة تتساءل:
يا ساتر يا رب.. وده مين ده اللي هيجينا الصبح بدري كده.
نهضت أمي من فراشها ووضعت حول جسمها روبا وفي قدميها نعلا ومضت خارجة إلى باب الشارع الحديدي لتسال عن القادم:
وجاء صوت جدتي الحاجه فاطمه عبد الله عمر يرد:
أنا.. ايه.. بقى لي نصف ساعة بأخبط على الباب.. ايه.. انتو نائمين في جب؟!
وقالت أمي وهي تفتح الباب الحديدي الكبير لتنزلق إحدى ضلفتيه على شريط من الحديد.. تفتحه لتسال مندهشة:
ايه في ايه؟.. في حد يجي في وقت زي ده؟
حيلك حيلك.. الساعه داخله على تسعه.. أمال الناس لما يبقى عندها مصالح تيجي امتى؟!
ودفعت جدتي الباب داخله ومن خلفها رجال ثلاثة.. كان أحدهم يقترب سنه من الـ 60 يعتمر فوق رأسه طربوشا ويلبس معطفا فوق جلباب صوفي، والثاني رجل بدا رقيق الحال يلبس جاكيت من القماش القديم ويحمل تحت ذراعه عودا ملفوفا في كيس من القماش، أما الثالث فكان رجلا من أوسط العمر بدا وسيما ومهندما تبدو ملامحه مبتسمة طيبة نظرت إليه أمي طويلا تتامله قائله في دهشه:
مش حضرتك برده إبراهيم أفندي حمودة؟!
ورد الرجل بهدوء مهذب:
أيوه يا هانم.. حضرتك تعرفيني؟!
وردت أمي:
أيوه.. ازاي ما اعرفكش.. وسمعتك كمان وحافظة كل أغانيك.
ثم أضافت:
في مسرح الكسار.. مش حضرتك برده كنت بتشتغل في مسرح الكسار؟!.. أمال سبته ليه؟!
ورد الرجل:
لا يا هانم أنا ما سبتوش وهارجع له ثاني إن شاء الله بس لما يفتح قريب إن شاء الله..
وسال الرجل:
بتقولي حضرتك سمعني كل الأغاني بتاعتي؟!
وردت أمي:
طبعا.. مثلا: (نامت عيون الناس، وبكى أكثر من ضحكي، ويا زينه يا بنت الخال، واكتب لنا يا قاضي).
قال إبراهيم حمودة:
كفايه يا هانم.. كده كثير
لكن امي اضافت:
و(ليت كاس الحب لم تمسني فمي، يلي ملكتي الفؤاد ،هل ترى يا زماني هنرجع ، تاني يازهر الجناين.. وكمان موال يا اللي مالك الغرام.
وقال إبراهيم حمودة مندهشا:
ده ايه يا هانم.. ده كثير قوي.
وتدخلت جدتي في الحوار الدائر بين ابنتها وبين إبراهيم حموده قائلة:
عارف الخائبة دي.. هاحكيلك حكاية.. كانت ساكنه أول ما تجوزت في شقه جنب باب الشعريه في حته اسمها (سيدي جلال) وكانت واقفه في المطبخ بتطبخ وبعدين سمعت خبط على الباب راحت تفتح.. تقوم تلاقي مين.. جارتها كان اسمها أظن (رتيبه رشدي) بيقولوا كانت أخت فاطمه رشدي
الست رتيبة يا ابني وقفت على الباب تسال بنتي احنا سمعنا واحدة بتغني وأنا والأستاذ عزت معي وقعدنا ندور في الراديو بتاعنا يمين وشمال ما عرفناش نجيب المحطة خالص هو حضرتك كنت فاتحه الراديو؟.
وردت أمي تكمل جدتي الحكايه وتقول والدهشه تملؤها
راديو ايه؟! .. أنا ما عنديش راديو خالص.
واندهشت الست رتيبه فسألت أمي:
أمال مين اللي كان بيغني عندك؟
وقالت أمي:
أنا!
اندهشت الست رتيبة وتراجعت خطوتين نحو باب شقتها ثم نادت:
في عزت.. يا سي عزت.
وخرج الرجل يتساءل!
أيوه خير؟
وقالت الست رتيبة رشدي:
ده هي الست اللي كانت بتغني!
واندهش سي عزت وسال أمي:
حضرتك اللي كنت بتغني؟!، ثم أضاف:
ده حضرتك صوتك جميل جدا.. فين الأفندي بتاع حضرتك.. أنا عاوز أكلمه!؟
وأجابت أمي:
الأفندي مسافر مع أخوه.. يرجعوا بكره..
وقال سي عزت:
طب من فضل حضرتك قوليله ان واحد ملحن اسمه عزت سمعني وأنا باغني وبيقول بعد إذنك يعني أنا اقدر أعبي اسطوانات في شركه هو يعرف أصحابها هتدفع له على كل اسطوانه 50 جنيه أقبضها وأنا واقفه.
وتكمل جدتي:
لكن تقول ايه يا ابني ده كلام من أكثر من 15 سنه.. خلاص بقى..
وقال إبراهيم حمودة:
لا يا هانم.. الصوت ما يجراش له حاجه مدام الواحد مستمر في الغناء
وعلقت جدتي قائله:
خلاص ما ينفعش.. الأفندي جوزها.. وجوزي اللي هو أبوها.. قال أطلقها وده قال أدبها.. وخلاص على كده.
قال إبراهيم حمودة:
ما تزعليش يا هانم.. دي أرزاق.. أنا مثلا قدام حضرتك أهو.. مطرب معروف وغنيت قدام الست أم كلثوم في فيلم.. تفتكري أن أنا أجمل صوت في مصر؟! .. طب ما في عبد الغني السيد والأستاذ فريد وعبد الوهاب وغيرهم وغيرهم.. وبعدين أنا عاوز أقول لحضرتك ان أنا تقريبا لفيت مصر كلها وسمعت أصوات في الريف أحسن من ده وأجمل مني، لكن من غير كلام عشان تصدقيني ان المساله أرزاق.
وتدخل حامل العود:
ايه.. عاملين تيتة سايرو مع بعض وناسيني.. أنا يا بنتي الشيخ حسن.. تسمعي عني.. أنا اللي معلم الناس دي الغنا.. حتى سي محمد عبد الوهاب نفسه.. ياما نصحته لكن ما فيش فايدة.. صوته من دماغه.. قل ايه: هو حر..
وقال إبراهيم حمودة: انت الخير والبركه يا شيخ حسن.
فيقول الشيخ حسن: يعمل لك غنوه من البياتي أقول له ما ينفعشي يا محمد يا ابني.. دي تتعمل من الحجاز كان أو الكرد.. لكن نقول ايه.. ما ينفعش .. مفيش فائدة.
وكانت زيارة جدتي في النهاية هدفها هو أن تبني فوق مسكننا ثلاثة أدوار ليصبح بيتنا في شارع إبراهيم نصار أربع أدوار بعد ذلك.