شيرين أبو عاقلة.. لتبقى ذكراك عنوانا للوحشية الإسرائيلية !
كتب : محمد حبوشة
إن مشهد الحزن العام يظهر لوحده حجم الفقدان، وحجم تأثير الشهيدة (شيرين أبو عاقلة) ومصداقيتها وحضورها سيظل راسخا في أذهان الناس عند اكتساب الحقيقة، ويظهر كذلك حجم الإجرام والكذب الذين يمتهنهما الاحتلال الإسرائيلي، ولعل استهداف الصحافية الشهيدة هو جزء مقصود وممنهج لطمس الحقيقة، وحصار نقل صورة انتهاكات الاحتلال إلى العالم، وكان استهداف مئات الصحافيين واغتيالهم أو أذيتهم في فلسطين دليلا على أن هذا الاغتيال ليس حدثا منفصلا، ولا خطأ ولا يتحمل أي كذبة إسرائيلية تغطي على هذه الجريمة وجرائم سبقتها، ليبق اسمك يا (شيرين) عنوانا للعمل الصحافي الأخلاقي، ولتبق ذكراك طيبة في بث صوت قضية فلسطين العادلة.. سنشتاق إلى صوتك الذي ناصرنا وساهم في إعلاء شأن الحقيقة.. من بعدك.. سنخسر كثيرا يا شيرين.
نعم سنخسر الكثير من بعدك يا شيرين، ثقتنا بالخبر، سنخسر روحك التي لم تتردّد يوما في الدخول بين الدبابات وجيبات العسكر لتنقل صورة وخبرا لم يجرؤ الآخرين على نقله، سنخسر طمأنينة الأمهات لصوتك حين تقولين إن الولد بخير، وسنخسر وجهك على الشاشة وهو يقول: لا تقلقوا، أنا هنا إذن ستعرفون الحقيقة.. ستظل صورتك، طلتك، صوتك، إلى أزمان كثيرة آتية، ستكونين مرجعية الصحفي الحر، سيشبهون أي صحفي جريء ومدافع عن الحقيقة بك، ستكون جوائز للشجاعة الصحفية باسمك، ستكون هناك شوارع وقاعات ومؤسسات باسمك، ومع ذلك فإننا سنخسر كثيرا، فمثلك لا يولدون كل يوم، ومثلك لا يستشهدون كل يوم بهذا العنفوان الذي هو عنوان صارخ لجنود المقدمة في الإعلام الحر من أصحاب القضية.
لقد كانت المغدورة (شيرين أبو عاقلة) جزءا أساسيا من الفسيفساء المرئية للشعب الفلسطيني، شعب مشتت يعيش في هوامش المنفى وفي هوامش الوطن، يتضور جوعا لرموز جامعة، تشفي غليله وقهره عبر رؤية نفسه على الشاشات، كانت شيرين جزءا من هذه الرؤية، متجذرة في الذاكرة منذ اجتياح 2002 حين نقلت صورة وأصوات الدبابات الحصينة التي غزت شبكة العنكبوت الواهية التي حاولت اتفاقية أوسلو نسجها، فقد كانت شيرين مسؤولة عن بناء ذاكرة جديدة من رواية الشعب الفلسطيني السيزيفي، تطل على الشاشة من خلف النوافذ التي ترتج بضجيج الدبابات العاتية، تبحث عن موؤل يمكن أن تطلع منه (لايف)، كان حضورها – هى وجيفارا – كامرأتين تغطيان الحرب والاحتلال والاجتياح مبعثا للفخر والخوف (الفطري) عليهما في الوقت ذاته.
رصاصة القناص المتفجرة التي اخترقت رأسها هشمت قطعة بهية من قطع فسيفساء فلسطين المرئية للناس.. كل حدث كهذا يزيد من عتمة وحزن رؤيتنا لأنفسنا، في زمن صار يعز فيه الفرح، نحن نحب شيرين لأنها وفرت لنا دائما شعورا بدائيا ببعض العزيمة والمثابرة نقول عنه في ريفنا الأخضر: (بنشد فيها الضهر)، وظهورنا اليوم محنية أكثر مما كانت عليه قبل هذا الصباح الكريه، ولهذا فشعب الفلسطيني بكل أجزائه في الوطن الممتد بين النهر والبحر، في المنافي والشتات، في القرى والمدن والمخيمات، في طقس حداد جماعي، الكل يشعر أنه فقد إنسانة تربطه بها علاقة حميمية إنسانية قريبة جدا، هذا الكل الذي لم يلتقي بغالبيته يوما معها بشكل شخصي، أو يعرف عنها شيئا وعن حياتها، فشيرين كانت جزءا من كل بيت، من كل صالة جلوس، وكأنها ابنة بيت دائمة، تجلس معنا تنقل تفاصيل الأحداث بكل مهنية ورصانة وأخلاقية قل مثيلها، بصوت دافئ هادئ ومطمئن حتى في أصعب الأحداث.
رحلت (شيرين أبو عاقلة) صوت فلسطين الحر الذي كافح بالقلم والكاميرا والميكرفوة طوال ربع قرن وأكثر علي الأيدي الآثمة التي قتلتها برصاص الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين، بينما ذكرت مصادر إسرائيلية أن المراسلة لقيت حتفها جراء إطلاق نار عشوائي من قبل مسلحين فلسطينيين في تزييف متعمد من جانب آلة عسكرية احترفت القنص في عز النهار، وعلى يد قناص سقطت في ساحة الوغي بعد أن استهدف شيرين برصاصة في الوجه، رغم أنها كانت ترتدي سترة وخوذة تحملان شعار الصحافة، لكنها كانت مستهدفة منذ سنوات، حيث قالت (أبو عاقلة) في حديث سابق للجزيرة: (إن السلطات الإسرائيلية دائما ما كانت تتهمها بتصوير مناطق أمنية، وأضافت أنها كانت تشعر باستمرار بأنها مستهدفة وأنها في مواجهة قوات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المسلحين).
كانت (أبو عاقلة) أول صحفية عربية يسمح لها بدخول سجن عسقلان في عام 2005، حيث قابلت الأسرى الفلسطينيين الذين أصدرت محاكم إسرائيلية أحكاما طويلة بالسجن في حقهم، وروت أبو عاقلة أن من أكثر اللحظات التي أثرت فيها هى زيارة السجن والاطلاع على أوضاع أسرى فلسطينيين، بعضهم قضى ما يربو على 20 عاما خلف القضبان، وبعد تحسن العلاقات القطرية – المصرية والسماح لقناة الجزيرة بالعودة إلى القاهرة، اختارت قناة الجزيرة أبو عاقلة لتكون أول من يفتتح بثها المباشر من هناك في يوليو الماضي، وفي فيديو ترويجي بثته الجزيرة في أكتوبر الماضي بمناسبة الاحتفال بذكرى تأسيسها الـ 25، قالت أبو عاقلة: (اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان، ليس سهلا ربما أن أغير الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم…أنا شيرين أبو عاقلة).
وجه شيرين أبوعاقلة وصوتها يعرفه الفلسطنيون خاصة ومتابعو القضية الفلسطينية في الوطن العربي والعالم بأسره؛ إذ أمضت أكثر من ربع قرن تكرس كل وقتها رفقة سترتها وعدستها وميذياعها لتنقل للعالم ما يجري في بلادها من انتهاكات للاحتلال الإسرائيلي، وجابت ربوع بلادها المحتلة من الضفة الغربية إلى غزة وصولا للقدس والتزامها بسترتها الزرقاء وكاميرتها ومذياعها، وحجزت الصحفية الفلسطينية (شيرين نصري أبوعاقلة) لنفسها مكانا في الوعي الجمعي للعرب كنموذج أيقوني للصحفي الفلسطيني الذي يعمل والموت صوب أعينه، فعلى صدى صوت شيرين أبوعاقلة ووجها حتى تربت أجيال وصدحت أخبار عاجلة حول انتهاكات الاحتلال في الأراضي المحتلة قبل أن تكتب آخر خبر عاجل بدمائها ـ أثناء تغطيتها اشتباكات الاحتلال الإسرائيلي مع فصائل المقاومة في قريتها بجنين، هكذا المراسل الحربي.. عندما يمتزج حب المهنة بالخطر.
قبل ستة أيام وتحديدا في السابعة والنصف من صباح يوم 5 مايو الماضي، خرجت الصحفية شيرين أبو عاقلة، بعدما حزمت أمتعتها الشخصية والمهنية، وتأكّدت من وجود السترة الواقية ضد الرصاص ذات اللون الأزرق والمدون عليها صحافة (press) ومعها الخوذة الحامية للرأس، فهي مكلفة بمهمة صحفية، اعتادت على تغطيتها طوال الـ 25 عاما الماضية، لمداهمات وحملات أمنية تنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي ولكن هذه المرة كانت في منطقة جنين، حيث موعدها مع القناص الإسرائيلي الذي صوب نحوها رصاصات القتل مع سبق الإصرار والترصد، لتفيض روحها الطاهرة صاعدة إلى ربها وهى تقاتل بالكاميرا في ساحة الشرف وسط أهلها الذين راحت دموعهم على هذا الرحيل المر لصاحبة الوجه الهادئ، التي كانت تنقل الصورة والصوت بشكل حقيقي وواضح ومهنية عالية وصمودها في رسالتها الوطنية.
ماتت الصحفية الفلسطينية والملقبة باسم (أيقونة الإعلام الفلسطيني) شيرين أبو عاقلة بسبب رصاصة أطلقها قناص إسرائيلي غاشم، والتي استقرت في رأسها ولتودي بحياتها على الفور، وكان ذلك في فجر أمس الأربعاء حيث كانت شيرين تنقل انتهاكات الاحتلال في مخيم جنين والواقع في شمال فلسطين، فقد كانت الشهيدة شيرين قد سارعت ومنذ منتصف الليل للقيام بعملها الصحفي في هذه المنطقة، بعد أن تلقت اتصال من أحد الأشخاص يفيد باقتحام قوات الاحتلال للمدينة قصدا منهم بارتكاب أحد الجرائم، ومنذ وصولها تعرف عليها أحد القناصين وتعمد قتلها بهدف طمس جرائمهم التي لا تنتهي بحق الشعب الفلسطيني الجريح.
استيقظت الدول العربية، أمس الأربعاء، على فاجعة كبرى وهى مقتل الصحفية الفلسطينية (شيرين أبو عاقلة)، المراسلة التي تعمل منذ سنوات على تغطية أخبار الحروب، وأفعال الاحتلال الإسرائيلي، والاقتحامات التي يقودها جيش الاحتلال على الأراضي الفلسطينية منذ عشرات الأعوام، وتمكنت قناة (الجزيرة) من رصد لحظة استشهاد الصحفية الفلسطينية أثناء تأدية واجبها، على يد قناص إسرائيلي خلال اقتحام مخيم جنين بالضفة الغربية، فوثقت الحدث الجلل وبثت الجزيرة حديثا شيرين أبوعاقلة العام الماضي، والذي تحدثت فيه عن نفسها قائلة: (لن أنسى أبدا حجم الدمار ولا أن الموت كان أحيانًا على مسافة قريبة، لم نكن نرى بيوتنا كنا نحمل الكاميرات ونتنتقل عبر الحواجز العسكرية والطرق الوعرة، كنا نبيت في مستشفيات أو عند أُناس لم نعرفهم ورغم الخطر كنا نصر على مواصلة العمل).
كنا قد اعتدنا أن تطل علينا (شيرين أبو عاقلة) بتعابير وجهها الحزين حتى ظننا لمسات الحزن المتوارية وراء تلك العيون ما هي إلا طبيعة رافقتها خلال حياتها، ولكن عند لقائي بها في العاصمة اليمنية (صنعاء) – قبل 20 عاما تقريبا – كانت تلك الابتسامة التي لم نرها عبر الأثير هادئة وجميلة تتناقض مع الكم الهائل من الجراح والأحزان والمآسي التي لفت بها تقاريرها، وروت لي وقتها بتلك اللمسات من الحزن تارة ومن النقمة والغضب تارة أخرى تعبيرها الحيادي كإعلامية عن معاناة شعبها، وهى التي لم تجد حرجا في الظهور عبر شاشات التلفزة دون (مكياج)، لأن الحرج الذي تراه عندما تتبهرج وخلفها أم شهيد أكبر من أي مظاهر شخصية.
كانت (شيرين أبو عاقلة) بمثابة نبض الأوطان وصوت المستضعفين في كل زمان ومكان، إنها الصحافة الحرة التي يسعى أصحابها إلى أحياء كلمة الحق، مهما كلفهم ذلك من ثمن، خاصة أولئك الذين يحملون أرواحهم فوق أيديهم في كل يوم وليلة، أثناء تغطية الأحداث الملتهبة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكان صوت (أبو عاقلة) حاضرا في كل بيت فلسطيني خلال انتفاضة القدس والأقصى (الثانية)، وما تلاها من محطات فارقة في النضال الفلسطيني، وقد كانت بدايات ظهور هذا الصوت الذي عادة ما انتهى بقولها: (شيرين أبو عاقلة، الجزيرة، فلسطين)، تحديدا من جنين المخيم والمدينة خلال الانتفاضة في حينه، لتعود مرة أخرى بعد ما يقارب عشرين عاما إلى المكان نفسه مدركة، ربما، أن إرادة القتل الإسرائيليّة في انتظارها، تلاحقها منذ عام 1997 حتى عام 2022.
ومن دواعي الإشادة بالراحلة (شيرين أبو عاقلة) أنها استطاعت برفقة زملائها وزميلاتها من تغيير الواقع، عبر مساهمتهم المصرة في تشكيل ذاكرة فلسطينية عنيدة، وتمكنوا من توثيق وأرشفة زمن فلسطيني متقلب مليء بالمعاناة والدمار والحصار والاحتلال، وأيضا الصمود أمام كل ذلك ومقاومته، وستظل شيرين جزءا من تلك الذاكرة الجمعية الفلسطينية، ومن ثم لم يكن غريبا أن يثير استشهاد شيرين غضبا وحزنا جمعيا فلسطينيا وعربيّا واسعا، فقد كان لصوتها حضور دائم في صياغة الرواية الفلسطينية الإعلامية، على مدى العقدين الماضيين، وكانت جزءا أصيلا من الهم الجمعي الفلسطيني، والأمل، .. رحمها الله كانت تجيد البحث عن الحقيقة، والحديث بأصوات المقهورين، السير في دروب العدالة، والانتصار للإنسان قبل أي شيء.
لم تكن (شيرين بوعاقلة) مجرد صحفية ومراسلة عملت في فلسطين لمجرد نقل الأحداث دون التفاعل معها، لابل كانت على مدار أكثر من عقدين صوتا فلسطينيا مميزا مثل المكلومين وأمهات الشهداء والزوجات الأرامل وآباء وأبناء الشهداء الثكلى وواسست أصحاب البيوت المهدومة ووقفت على متاريس الاحتلال في (الشيخ الجراح وحارات بيت حنينا وسلوان والقدس والأقصى ورام الله ونابلس والجليل والنقب ويافا)، وكل مكان في فلسطين المحتلة.. كانت سباقة إلى ميادين الأحداث وواجهت جيش الاحتلال والمستوطنين الذين حاولوا دوما إعاقة عملها الصحفي.. عايشها الفلسطينيون في ميادين المعارك أثناء عدوان الاحتلال على الضفة عام 2002، وخاصة مخيم ومدينة جنين التي ارتقت فيها روح شيرين إلى جوار باريها صباح أمس الأربعاء.
رحلت شيرين بعد رحلة عطاء كلها وجلها شموخ وتضحيات، رحلت في عملية اغتيال صهيونية جبانة.. رحلت لتنضم لموكب قوافل الشهداء والشهيدات الأشراف والشريفات.. رحلت لتنضم إلى قائمة الخالدون والخالدات الذين تركوا بصمتهم في مسار النضال الفلسطيني ورحلوا رحيل الأبطال.. رحلت بعد أن أبلت بلاءا بطوليا بفضح جرائم احتلال مجرم تقوم الإمبريالية الأمريكية والغربية بدعمه، والتغطية على جرائمة في فلسطين.. رحلت شيرين محمولة على اكتاف شعبها في جنين ووصل موكبها إلى نابلس وشيعت اليوم من مقر المقاطعة في رام الله في جنازة رسمية إلى القدس حيث مسقط رأسها لتشييعها الى مثواها الاخير.. شارك الفلسطينيون روحا وقلبا ومشاعرا بالملايين في تشييع الفقيده الشهيدة شيرين أبوعاقلة، ولسان حالهم يقول: حتما سنفتقدها ونفتقد صوتها ووجودها المميز في حياتنا الاعلامية والوطنية.. شيرين أبوعاقلة: الشهيدة الشاهدة على جرائم الاحتلال في فلسطين ترحل شهيدة وشاهدة على جرائم هذا الاحتلال المجرم.. الرحمة لشيرين ولروحها الطاهرة السلام كل السلام.. وداعا من كل فلسطين ومن شعب فلسطين وطنا ومهجرا، والرحمة كل الرحمة لروحك الطاهرة.. إلى جنات الخلود والسلام كل السلام من كل ذرة تراب في فلسطين والعالم العربي كله لروحك الطيبة…وداعا يا أيقونة الإعلام الفسطيني والعربي.