بقلم : محمد حبوشة
قبل أن أعرض أفكارى وملاحظاتى ووجهات نظرى فى أوضاع مهنة الصحافة التى تغتال كل صباح عبر المؤسسات القومية التى تئن بالشكوى جراء تصرفات كتيبة تندرج تحت ما يسمى بـ (الجهل الواعى) الذى ينجم عنه الشرر المتطاير بالضرورة، لابد لي من تذكير الناس أنه كانت تلك المؤسسات ذاتها يوما بمثابة حائط الصد الأول والأخير الذى يدافع عن الدولة من ناحية، وبنفس القدر تقف سندا وعونا للجمهور من ناحية أخرى – وقت أن كانت صحافتنا القومية هى لسان حال المواطن والوطن فى آن واحد – تحمل همومه وأحزانه فى طى صفحاتها، وتعبر عن مختلف قضاياه الإنسانية باحترافية عبر قوالب كتابية توصف بالمصداقية وتستند إلى الضمير الصحفى الحى الذى يعى الحقوق ويعرف الواجبات تجاه وطنه ومواطنيه.
لكن عندما غاب الضمير الصحفى الحى، بالإضافة إلى اجتياح رهيب من جانب (الشطار والعيارين) من فئة الصحفيين الذين يفتقدون قواعد العمل المهنى – مع إيماني الشديد بأن المهنية هى المقابل الموضوعي للوطنية – لذا كانت النتائج السلبية فى مجتمع يسوده التخلف والفساد والجهل والتسيب والذاتية والنفعية والقبلية واللاموضوعية واللاقيم واللامساواة بين الأفراد والاستهتار بالحقوق، فكما يقول مالك بن نبى: (الجهل فى حقيقته وثنية لأنه لا يغرس أفكارا، بل ينصب أصناما)، ومن ثم كان نصيب الصحفى المهنى المجتهد الإقصاء إلى خانة المنبوذين، أو ينفى فى طابور المطرودين من جنة (الشطار والعيارين)، بعد أن اعتلوا المناصب القيادية بالفهلوة.
وكانت النتيجة الحتمية أن أوقعونا بين مطرقة تراجع توزيع الطبعات الورقية وسندان شبكات اجتماعية أشبه بـ (حصان أسود) يزحف يوميًا على أراض جديدة ويفرض قواعده الاستثنائية، لتجد الصحف نفسها أمام مأزق كبير، فبعضها يتوقف عن الصدور، وبعضها الآخر يخلع (ثوب الورق) وينطلق بقوة نحو عالم الديجتال، وآخرون يسعون بجدية لابتكار حلولهم الخاصة لضبط الإيقاع بين الاثنين والحفاظ على حصد العوائد المالية منهما.
خدعوك فقال أن الساحة خاوية من المواهب والكفاءات الصحفية القادرة على قيادة الدفة والوصول لبر الأمان فى المؤسسات القومية الكبرى، فقط هنالك كتائب للدمار الشامل تجثم على أنفاس الصحفيين الحقيقيين فى قلب المشهد المرتبك، بفعل مجموعة من الجهلاء وعديمى الموهبة الذين يتحكمون فى مصائر طوابير الموهوبين الذين ينتمون إلى المهنة بشكل حقيقى، فقد هبوا علينا بليل أسود مثل الجراد الأحمر، ولجأوا إلى الشللية واستعانوا بمن يخاصمون المهنة والمعرفة بأبسط قواعد العمل الصحفى، وراحوا ينكلون بكل من ينتمى للكفاءة والمهنية التى تصب فى مصلحة تراب هذا الوطن، وهم فى ذلك يرسخون لمقولة بعض المغرضين بأن الدولة تريد إضعاف المؤسسات للسيطرة عليها، هكذا يهمسون الآن، ويرددون فى الدهاليز على استحياء تارة، وتارة يجاهرون فى إصرار غريب بجهلهم الذى ينم عن ضيق صدورهم، بينما الجدران العتيقة تئن بالوجع من فرط ضعفهم وعدم قدرتهم على الفرز الحقيقى.
نعم هنالك عشرات الأسماء التى تنشد صلاح الأمة المصرية فى لحظتها المصيرية، وتدرك بحسها الفطرى وقدرتها على استيعاب فنون العصر لمصلحة الدولة ومساندة القيادة السياسية فى تحمل مسئولية التنوير على جناح المهنية التى هى المعادل الموضوعى للوطنية.. وأعيد وأكرر أن (المهنية هى المعادل الموضوعية للوطنية)، فلو امتلك هؤلاء قدرا ولو بسيطا من المهنية، أمكنهم ضرب فصول من الوطنية على جناح الكفاءة التى تكفل لهم معرفة حقائق الأمور والتعامل مع المواقف الملتبسة، بقدر من الذكاء فى التصدى للشائعات ومحاولات تقليل حجم الإنجازات التى تبذلها الدولة فى سبيل العبور من النفق المظلم.
ومع كل ما مضى يبدو لي أن الأمل الأخير والوحيد لإنقاذ الصحافة كواحدة من أدوات الإعلام أصبح ممكنا الآن، خاصة في ظل ما طرحه الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرا بضرورة إجراء حوار وطني في إفطار (بيت العائلة المصرية)، والذي كان يرمي في جوهره إلى مشاركة كوادر مهنية قادرة على النهوض بمصر الجديدة في شكلها وبنائها الحديث على أسس عصرية، ومن ضمنها بالطبع تطوير المحتوى الإعلامى وتطويره، وذلك بالتركيز على إصلاح الإعلام ومنه الصحافة الورقية والإلكترونية على وجه الخصوص في مصر وهذا ليس مستحيلا بل ممكنا، كما ولكنه بحاجة لإرادة قوية، رغم أن الواقع يكشر لنا أنيابه، فأغلب المؤسسات القومية فى مصر خلال السنوات القليلة الماضية تعانى أزمات متعددة، بسبب التطور التكنولوجى وارتفاع أسعار الورق والمطابع، فضلا عن أزمات اقتصادية طاحنة، ما أدى بالضرورة إلى تناقص أعداد التوزيع لعدد من الصحف أو التحول إلى مواقع إلكترونية دون إصدار نسخ ورقية.
أعلم جيدا أن بعض القيادات الصحفية الحالية تتشدق بالأسئلة الصعبة والمستهجنة، علما بأن أحد منهم لم يكلف نفسه ملامسة الواقع الموجود على الأرض، ويعترف بأن نسب توزيع الصحف المصرية تراجعت بصورة ملحوظة بحسب آخر إحصاء لعام 2022 بسبب تدني مستواها المهني، ولم تكن أزمة التوزيع الوحيدة التى طالت الصحف المصرية الورقية بشقيها القومى والخاص، بل لايمكن أن نغفل الأزمات المالية التي كانت السبب الرئيس فى إغلاق عدد من الصحف، وهو ما أرجعه خبراء الإعلام إلى أن الصحافة الإلكترونية أصبحت البديل الأمثل باعتبارها الأرخص تكلفة من الصحف الورقية.
مستقبل الصحافة الورقية أصبح مرهونا الآن بالمهنية والإبداع الذي تفتقر إليه غالبية قيادات مؤسساتنا القومية، لقد أصبح الشعب المصرى على قدر من الوعى الذي يمكنه من فرز الغث من الثمين، قبل أن يقبل على شراء جريدته الصباحية، بعد أن فقدت طزاجتها، إذن علينا أن لا ندفن رؤسنا في الرمال ونعى جيدا حقائق الأمور التي تشير إلى عدم قدرة الصحافة القومية على التطور، ومجاراة الصحافة الإلكترونية إلا عن طريق الاهتمام بما وراء الخبر من تحليل ومتابعات وآراء.
وربما السبب في ذلك يرجع إلى أن الصحف المصرية الحالية لا تحيط ما شهدته الصحف العالمية من تطور كبير خلال الفترة الماضية، بعد انضمام وسائل جديدة لنقل الخبر وعلى رأسها الهواتف النقالة، وإلى وقت قريب كان لا يبدو لى أي أمل يلوح في الأفق نحو استعادة الصحافة الورقية لدورها المعهود بها، بل كنت أراها إلى زوال لامحالة، ليس بسبب ارتفاع أسعارها ولكن لعدم الانحيار إلى عناصر الكفاءة والمهنية في الاختيار وهذا مربط الفرس بإجراء عملية جراحية دقيقة من شأنها تحول تلك الصحف إلى التميز فى شكل الكتابة التى تناسب طبيعة الحياة المعاصرة، والأمر بالتأكيد يحتاج إلى حس صحفى روائي، استنادا لقاعدة (تولستوى) فى كتابة أحداث الرواية: على طريقة (دعنى أرى ماتراه)، وهو مبدأ مهم أرسته غالبية الصحف العالمية في كودارها الجديدة، الأمر الذي مكنها من تجاوز أزمتها قبل عشر سنوات من الآن، ولابد لنا أيضا من الاهتمام أكثر بالرأى والتحليل والمتابعة الدقيقة، وصناعة ملفات احترافية تمس حياة المواطن اليومية، لكن بعضا من هذا وليس كله يتطلب بالأساس اختيار كوادر صحفية.
لدي يقين راسخ الآن أن إنقاذ مؤسساتنا الصحفية وخاصة القومية منها ممكن شريطة حسن الاختيار، خاصة تلك المؤسسات تملك من المواهب والكفاءات الصحفية القادرة على قيادة الدفة والوصول لبر الأمان، فقط إذا اعتمدنا على الصحفيين الحقيقيين فى قلب المشهد المرتبك، أولئك الموهوبين الذين ينتمون إلى المهنة بشكل حقيقى ويتمتعون بالكفاءة والمهنية التى تصب فى مصلحة تراب هذا الوطن. إن النار التى تستعر حاليا فى جسد صاحبة الجلالة تأتى للأسف من مستصغر الشرر – أقصد صغار المهنة ممن لم يتربوا فى كنف الكبار – وهو الذى ضرب البنية الأساسية لمهنة تضيع تارة بفعل التكنولوجيا، وتارة أخرى بفعل التفاصيل الصغيرة مثل ترديد مقولة (عدم وجود كفاءات حقيقية تستطيع تحمل المسئولية).
ومن هنا يصبح لازما علينا مواجهة تلك الحقائق المرة بقيادات صحفية تتمتع بالكفاءة والمهنية أولا، وتتفهم طبيعة العمل فى بيئة جديدة تفرض ضرورة تطوير أدواتنا بما يتناسب مع قارئ جديد تغيرت عاداته، وزادت احتياجاته لخدمة حقيقية يمكن أن يدفع مقابلها برضى كامل فى ظل زيادة الأسعار الحالية للصحف، كما أنه لابد لنا أن نراعى حقيقة مهمة وجديدة فى نسختنا الإلكترونية الصادر عن الصحيفة الورقية، مؤداها أن معظم المتصفحين من الفئة الشبابية لا يهتمون كثيرا بالمقالات الجادة والتقارير المطولة ولا بتفاصيل الأخبار، بل يلقون نظرة عابرة على العناوين فى الصفحة الأولى.
وأؤكد مرة ثانية وثالثة وعشرة: لدينا فى المؤسسات القومية عشرات الموهوبين الذين يستطيعون تغيير الصورة الذهنية لمهنة القلم فى كبوتها الحالية، بعد أن فقدت رونقها وبهائها إذا منحوا فرصة حقيقية، بعيدا عن التلميع بورنيش مزيف، فقط وبنظرة موضوعية يمكننى وخلصاء للمهنية أن نعدد عشرات الأسماء من الصحفيين الذين لم تتكلس عقولهم بعد، أو تعرضوا لعطب فى ضمائرهم وعقولهم التى تفيض محبة لهذا الوطن فى لحظة مرتبكة أحدثت تشوهات كثيرة فى المشهد الراهن.. نعم هنالك عشرات الأسماء التى تنشد صلاح الأمة المصرية فى لحظتها المصيرية، وتدرك بحسها الفطرى وقدرتها على استيعاب فنون العصر لمصلحة الدولة ومساندة القيادة السياسية فى تحمل مسئولية التنوير على جناح المهنية التى هى المعادل الموضوعى للوطنية.
لقد سجلت الفترة القليلة الماضية أكبر لحظة للفشل على مستوى الشكل والمضمون فى تاريخ مهنة عرفت على مدار السنين بانحيازها للقيمة وشرف الدفاع عن مقدرات أمة فى خطر، حتى ظن صاحب القرار أن الساحة قد خلت من نظراء لـ (هيكل وبهاء الدين وإحسان عبد القدوس وجلال الحمامصى وموسى صبري، وحتى الإبراهيمين نافع وسعدة وسمير رجب).. آخر الجيل الذهبى فى الصحافة المصرية، بعد أن تولى دفة القيادة حفنة من ضعاف النظر وأصحاب المصالح الصغيرة، هؤلاء الذين استبدلوا المهنية بنهم فى كنز أكبر قدر الفلوس، ضاربين عرض الحائط بكل القواعد والأسس التى تربينا عليها فى مؤسستنا العريقة، ببساطة هكذا لأن أرشيفهم المهنى يخلوا من أى قيمة حقيقية يمكن أن تشفع لهم، اللهم إلا ما توفر لديهم من بلادة الإحساس وغياب الضمير واللعب على أوتار النفاق الرخيص والرياء الممجوج، وهو ما تسبب فى تمتعهم – والحمد لله – بكراهية زائدة عن الحد من جانب مرءوسيهم الذين ذهبوا فى أغلب الأوقات للتشدق بالماضى، وهم يقفون على أطلال الحاضر المهين.
صحيح أن الصحافة القومية أصبحت نمطية، ويتعمد بعض المسؤولين فيها دفن الكفاءات حتى لا تظهر فى الصورة وتهدد مناصبهم ومصالحهم التى أصبحت تدار فى العلن – حتى لو أتى ذلك على حساب الصحف التى يترأسونها – ومن هنا فقد تراجع دورها وتأثيرها أمام هذه المعادلة، لكن تبقى نظرة الحكومة للصحافة القومية على أنها المنبر الإعلامى المعتدل الذى يمكن من خلاله مخاطبة المجتمع وتوصيل رسائل للداخل والخارج بشكل دبلوماسى، بعدما وجدت أن الإعلام الخاص يقوم بذات المهمة على أكمل وجه دون فواتير مالية ومنغصات مهنية وإدارية، ومن هنا أظن أن الصحافة الورقية عصية على الموت، ولا يزال هناك عدد كبير من الناس ومن ضمنهم أصحاب ألمع العقول البشرية وخيرة المثقفين، الذين تربطهم علاقة عاطفية بالورقة والقلم ، لا يمكنهم الاستغناء عن الصحافة المطبوعة والنشر الورقى طيلة حياتهم، إضافة إلى الملايين من القراء المصريين الذين لم يكتشفوا بعد العالم الرقمى ولا يتعاملون إلا مع الورق والصحافة الورقية التي لعبت أدورا مهمة في ترسيخ الهوية والدفاع عن مصر عبر تاريخها الطويل.