بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
من خلال قصة بسيطة تكاد تشبه الأساطير عن ثلاثة أشخاص يوزع عليهم شيخهم تركته ، قدم لنا الكاتب الكبير عبد الرحيم كمال مسلسل هذا العام – الذى كان من أفضل المسلسلات – غازلاً شبكة دقيقة من العلاقات و التضاربات و الصراعات التى تقع فى جزيرة نائية وادعة تدعى (جزيرة غمام) ، لنتابع على مدار الحلقات كيف تغيرت من حال الى حال ، فبمجرد موت الشيخ يأتى ( الأغراب ) إلى الجزيرة ليحولوها إلى مكان يمتلئ بكل موبقات الحياة ، و يستطيع كبير الأغراب ( خلدون ) السيطرة على القرية و كبارها و سحق إرادتهم و تفتيت الجزيرة ، و لكن شروره تصطدم دائما و أبدا بالمتصوف صاحب الكرامات ( عرفات ) إلى أن تنتهى القصة بحدث أسطورى هو (الزوبعة) التى لا ينجو منها إلا من أتى الله بقلب سليم .
و هكذا يعود الكاتب الكبير إلى موضوعه الأثير و المحبب و هو التصوف و المتصوفة من خلال مسلسله ، ليناقش عدة قضايا تخص الخطاب الدينى و أهمية نبذ خطاب التشدد و الدعوة إلى فهم وسطى للدين مؤكدا أهمية التسامح ، و التعايش بين اتباع الديانات السماوية على اختلاف مسمياتها ، و احترام أتباع كل دين ، و يطرح من خلال موجة من الروحانيات غلفت أحداث المسلسل قضايا متعددة ، بعضها شديد التعقيد و لا يمكن حسمه و بعضها بسيط و واضح و لكننا لا ندركه ، و هيمن على أحداث المسلسل سؤال : من منا أقرب إلى الله ؟ ، هل هو العالم الدارس للفقه ، أم من يعبد الله على سجيته و يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ، و يحمد الله على كل شيئ فهو لا يطمع فى شيئ ؟ ، مؤكدا الكاتب عدة مرات على أن الإيمان محله القلب ، و أن العبادات التى لا تؤتى بقلب سليم فلا وزن لها .
و يستخدم الكاتب طوال الأحداث كثير من القصص الدينى بصور مغايرة ، و يستخدم رموزه لصياغة قصته ، فنرى فى أحد المشاهد تشابها مع معجزة الطعام فى قصة المسيح عليه السلام ، و يحيلنا فى مشهد آخر إلى قصة سيدنا الخضر ، و نرى مسحة من علاقة السيد المسيح بمريم المجدلية التى ينتشر عن سيرتها أنها لم تكن سيدة فاضلة ، نهاية بالتشابه مع سفينة سيدنا نوح و إن كانت فى المسلسل قد بنيت كبيت داخل الجبل .
و يغوص الكاتب الكبير بنا فى أحوال الصوفية التى تكاد تشبه المعجزات ، مكررا بعضا من المواقف التى صاغها من قبل فى أعمال أخرى و بالتحديد مسلسلى (شيخ العرب همام و الخواجة عبد القادر) ، فربما كانت تلك المواقف صاحبة دلالات كبرى لديه ، فعبور عرفات بصحبة الأطفال للسور الذى شطر الجزيرة تكرار لعبور الخواجة عبد القادر سور الحديقة التى أغلقت عليه !! و فى اتهام عرفات بعلاقته بالعايقة يشبه اتهام الخواجة عبد القادر بالغازية ، و فى المسلسلات الثلاث هناك قاطع طريق يتوب ليصبح تابعا صالحا ، و التكرار أيضا واضح فى تصوير حقد من يبالغ فى أداء الشعائر و العبادات على أصحاب ( الأحوال ) ، و أيضا طرح قضية الظاهر و الباطن ، فلو توقفنا – مثلا – عند قضية إرث (الشيخ مدين) لمريديه الثلاثة لاكتشفنا أن ظاهره ظلم للمريد الثالث الذى لم ينل إلا سبحة الشيخ فى حين نال أحدهما مكانة الشيخ فى الجامع و نال الثانى داره ، هذا هو الظاهر ، و لكن المعنى الباطن يكمن فى أنه نال (رضا) الشيخ لأنه راض بكل شيئ ، و يحمد الله على كل شيئ حتى على الحمد لله ( الحمد لله على الحمد لله ).
قد يبدو المسلسل فى أحد أوجهه ضد التزمت الدينى و خطاب التخويف و الوعيد ، و ضد استخدام الدين فى إشاعة الخرافة ( الأعمال و الأحجبة ) ، و قد يبدو أيضا مسلسلا يحض على الخلق القويم فلا نسعى وراء معرفة أخطاء الآخرين ، أو هو صورة للصراع الأبدى بين الحق و الباطل ، حتى أن البعض تصور أن خلدون هو الشيطان نفسه ، و لكننى أختلف تماما مع تلك النظرة و أراه مسلسلا سياسيا بامتياز ، تعمد مؤلفه الإغراق فى التفاصيل فغامت رسالته الأساسية ، و فاتت على كثير من المشاهدين .
فلو تتبعنا المشاهد الأولى للمسلسل سنجدها تستعرض زيارة الرئيس (السادات) لجزيرة أولاد عرفات ( غمام سابقا ) لافتتاح أحد المصانع ، حيث يلتقى أهلها بعد الافتتاح ، و بعد الصلاة فى جامع الجزيرة يبشره الشيخ بالانتصار مرة أخرى على الأعداء فى عقر دارهم ، و يكشف أنه سيزور إسرائيل قريبا دون أن يذكر اسمها !!، إذن اختار المؤلف عن عمد أن تبدأ الأحداث قبل زيارة السادات للقدس ، و لكننا نكتشف أن هذه المشاهد تقودنا إلى الدخول فى القصة الأساسية – حيث يستأذن الشيخ فى تقديم قصة الجزيرة التى يرويها اهلها لكل زائر – و نعود إلى بدايات القرن العشرين لنعرف قصة ما جرى فى الجزيرة و لماذا تغير اسمها من جزيرة غمام إلى (جزيرة أولاد عرفات) . إلا أننا فى نهاية المسلسل لا نعود مرة أخرى لتلك الزيارة التى بدأ بها ، و لا نعرف علاقتها بما ترويه القصة ، و قد جرت العادة بأن ينتهى المسلسل بما بدأ به إذا كانت أحداثه كلها تروى ماضى ما ( فلاش باك )، و لكن الكاتب يفاجئنا بنهاية أخرى : هى وفاة الشيخ عرفات و عودة خلدون مع عايقة جديدة للجزيرة ، فكيف عاش خلدون كل تلك السنوات و لم يتغير ، و لم يصبه السن بالوهن؟، هل يقصد الكاتب أن ينبهنا إلى أن خلدون حى لا يموت ؟، هل هو الشيطان المنتظر إلى يوم يبعثون ؟
هذا ما تخيله البعض ، و التماس مع القصص الدينى أكّد ذلك ، و لكن أى شيطان هذا الذى يشكو فى أحد الحلقات و فى مناجاة طويلة أنه بلا وطن، و أنه يجول هو و أهله بلا مستقر ، و أن هدفه إقامة وطن له على جزء من أرض الجزيرة ؟ فمن هم أهل الشتات ( طرح البحر ) الذين عاشوا بيننا ؟ القادمون من خلف البحر ؟، ( أو ربما النهر ) . و لماذا اختار المؤلف أن تبدأ قصته قبل زيارة السادات للقدس ؟، ثم لماذا عاد بنا إلى بدايات القرن الماضى مؤكدا على التاريخ من خلال الأحداث ؟، و ما علاقة تزامن هذه القصة مع إنشاء الحركة الصهيونية العالمية ؟ فمن المعروف أن الهجرة الصهيونية إلى إسرائيل بدأت مع الاحتلال البريطانى لمصر و تصاعدت قبيل الحرب العالمية الاولى ؟، و بعدها جاء وعد بلفور !!، فهل من الممكن أن يكون كاتبا كبيرا كعبد الرحيم كمال لا يقصد كل هذه المؤشرات التى وضعها بنفسه ؟، و هل من الممكن أن يكتب حوارا لا يقصده ؟
و إذا كان الكاتب الكبير يحذرنا من الأغراب ، المتسللين إلى بيوتنا و عقولنا بالمخدرات و القمار و التسلية فى ذلك الزمن ، فهل يقصد المقابل العصرى من المنصات الترفيهية التى يمتلكها أباطرة صهاينة و تسعى لتحقيق مخططاتهم ؟، ألا تذكرنا وسيلة خلدون فى كسر هامات الرجال بالتهديد بنشر فضائحهم بما تقوم به وسائل التواصل الاجتماعى ؟، ألا يتورعون عن إفساد أفضل الرجال بأن ينفخوا فيهم حتى ينالهم الكبر و الغرور ؟، ألا يقفوا خلف كل نزعة هدامة و إلباسها ثياب الدين؟، ألا يحذرنا بكل هذه الأحداث من سماحنا لوجود هؤلاء الأغراب فى وسطنا ؟، أكاد أجزم أن المسلسل هو صرخة تحذير ضد التطبيع ، و إلا فما علاقة رحلة السادات بما رأيناه ؟، و لماذا يحكى أهل الجزيرة له قصتهم قبل سفره ؟ و لماذا أكد لنا المؤلف أن هؤلاء الأغراب لن يموتوا و أنهم سيعودون إلى الجزيرة بمجرد وفاة عرفات ليعاودوا تفتيتها ؟
إن مؤلفا كبيرا كعبد الرحيم كمال لن يصنع كل هذا عبثا أو بمحض الصدفة، و لكن ميله للتصوف ملأ عليه و أملى عليه كل التفاصيل فتوارت السياسة ، برغم أنه أراد تنبيهنا إلى أن الطريق الأول لمقاومة ( خلدون و طرح البحر الغرباء ) هو الوحدة و الاتحاد و عدم التشتت او الانقسام و البعد عن صراعاتنا الداخلية ، و خاصة الانقسام الدينى سواء بين دين و آخر أو بين مذهب و آخر ، و الاهتمام بالتعليم و خاصة الأطفال و أن نزرع بينهم المحبة .
أو ربما قصد عن عمد ألا تصل الرسالة إلى الكل !!!.